صادق جلال العظم: التصوّر الدينيّ الأصوليّ لمجرى التاريخ … انحداريٌّ (…)
خلدون النبواني
في السنوات الأخيرة يقوم صادق العظم بإعادة طباعة وترجمة كتبه القديمة وهو لم يكتُب مؤلفاً جديداً منذ سنوات، فهل لم يعد لدى العظم ما يقوله؟ هل قرّر المحارب القديم أن يستريح؟ هل تحرّر العظم من المستقبل؟
حسناً، سأبدأ من النقطة الأولى التي تقول فيها إنّ صادق العظم يقوم في السنوات الأخيرة بطباعة وترجمة كتبه القديمة. دعني أعلّق على هذا الجزء من سؤالكَ أو ملاحظتكَ بالقول: أعتقد أنّ انطباعك هذا غير دقيق؛ لأنّني لم أَعِد يوماً طباعة أيّ كتابٍ من كتبي، حتى أنه ليس من عادتي أن ارجع إلى أيّ كتاب من كتبي بعد انتهائي من نشره. لم أُصدر أبداً طبعة موسّعة أو منقّحة لكتابٍ سابقٍ لي، رغم أنّ لديّ طموحا لأن أفعل ذلك بالنسبة لكتاب “دفاعاً عن الماديّة والتاريخ”، ولم أنجح لحدّ الآن في ذلك. في الحقيقة إنّ الناشرين هم من يعيدون طباعة كتبي، وأحياناً دون علمي ودون أن أُسأَل.
طبعاً أنا لا أشتكي من ذلك، فأنا أريد لكتبي أن تنتشر وتوزّع وتُقرأ. فمثلاً لديّ كتابان هما “نقد الفكر الديني”، و”في الحبّ والحبّ العذريّ” لم ينقطعا من السوق منذ أن صدرا في نهاية عقد الستينات، ولا سيما منذ أن ردّت محكمة المطبوعات في بيروت سنة 1970 الدعوى المقامة ضدّ كتاب “نقد الفكر الديني”، وضدّ المؤلّف وضدّ ناشر الكتاب، أي دار الطليعة الممثّلة يومها بشخص مؤسّسها وصاحبها الدكتور بشير الداعوق. ورغم أنّ هذا الكتاب ممنوع في كلّ الدول العربية، باستثناء لبنان، وعلى الأرجح في معظم الدول الإسلامية كذلك، فهو متوفّر في كل هذه البلدان رغم المنع الرسميّ.
ولا أعرف بدقّة عدد الطبعات التي صدرت من هذا الكتاب، إذ أنّه مستمرّ منذ أربعين سنة حتى اليوم والناشر لا يزال هو نفسه، وما أن تكاد الطبعة تنفد حتى تقوم الدار بإعادة الطباعة من جديد، ودون علمي. أنا أعرف كذلك أنّ المكتبات وشبكات التوزيع تؤمّن هذا الكتاب، بطريقة أو بأخرى، في البلدان الممنوع فيها. كما أعرف أنّ الكتاب متوفّر مجاناً على الانترنت الآن. أمّا بالنسبة لكتاب “في الحبّ والحبّ العذريّ” فقد استمرّ طبع الكتاب كذلك ولكنّ الناشر تبدّل. كان نزار قباني هو أوّل من طبعه في دار النشر الخاصة به سنة 1968. في الواقع، كان ثاني أو ثالث كتاب يصدر عن دار نشر نزار قباني. كان نزار يُركّز، طبعاً، على طباعة شعره ودواوينه ولكنّ موضوع الحبّ أثار اهتمامه فطلب مني الكتاب فأعطيته إياه، ثم انتقل من ناشرٍ لآخر. نشرَته دار العودة في بيروت عدّة مرات وتقوم الآن دار المدى بعملية نشره وإعادة طباعته.
وإضافة إلى أنّ هذا الكتاب لم ينقطع من السوق منذ صدوره، فقد طبع ووزع مجاناً مع جريدة “البعث” السورية ومع جريدة “السفير” اللبنانية فاكتسب شعبية إضافية كبيرة. في كل هذه الحالات كنتُ نادراً ما أُسأل أو أن يؤخذ رأيي في إعادة طباعة كتبي وما زلت أتفاجأ بالكتاب بطبعة جديدة في السوق. إذن أنا لم أسعَ أبدا لإعادة طباعة مؤلفاتي من جديد، البعض من كتبي أُعيد طباعتها ثلاث أو أربع مرّات مثل “دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة” و”ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب” و”ما بعد ذهنية التحريم: قراءة “الآيات الشيطانية” ردّ وتعقيب”.
اسمح لي أن أوضّح سؤالي إذن.
تفضّل.
أنا سعيد بإعادة طباعة كتبك السابقة، ولكنني أتساءل عن غياب الجديد…
انتظر، فأنا سآتي إلى هذا الموضوع. أمّا بصدد مسألة الترجمة التي سألتني عنها، فأنا نادراً ما عملتُ في مجال الترجمة، إذ ليس لديّ الجّلد والصبر على الترجمة. لكن صدرت لي دراسات مجموعة في كتب بلغات أجنبية كثيرة كالألمانية والهولندية والايطاليّة والفرنسية والنرويجية والسويدية والفارسية والتركية، لكن لم يصدر لي كتاب يجمع هذه الدراسات باللغة الانكليزية، مع أنّ معظمها مكتوب أصلا باللغة الانكليزية، وقد يكون السبب في ذلك أنه عندما يصدر كتاب لي بالألمانية أو الايطالية مثلاً، فإن الألمان أو الطليان هم الذين يُشرفون على الترجمة والتدقيق والمراجعة، وهكذا ارتاح أنا من هذا الهمّ. لكن في حال إعداد طبعة انجليزية فهذا يعني أنني أنا من سيشتغل عليها ولم يتوفّر لي الوقت بعد لأضع هذه المقالات والدراسات في كتاب واحد بالانجليزية، وسأسعى الآن إلى هذا الهدف وآمل أن أوفق في ذلك. فهناك بعض الناشرين في الولايات المتحدة وبريطانيا يلحّون عليّ لجمع دراساتي في كتاب بالانجليزية أسوةً باللغات الأوروبية الأخرى التي صدرت بها تلك الدراسات.
أعترف بأنني أصبحت أجد أن الجمع بين كل هذه المهام أمر صعباً. كنتُ قادراً أثناء انهماكي في التدريس، سواءً في جامعة دمشق أو في جامعات الغرب أو أثناء تدريسي في الجامعة الأميركية في بيروت، على الجمع بين مهام التدريس والعناية بالطلاب ومتابعتهم وبين مهمات البحث والكتابة والنشر بدون صعوبة كبيرة. الآن أجد أن الجمع بين الأمرين غدا أصعب بكثير. فأنا عندما أقوم بالتدريس أكون جادّاً جداً وأُعِدُ نفسي جيداً وأقابل الطلاب وأعتني بهم وصار هذا كله يأخذ مني الوقت الكثير ويتعبني ويُرهقني. فحين أقوم بالتدريس – كما افعل حالياً في جامعة برنستون – فإن طاقتي ووقتي المتاحان من اجل الكتابة يتقلّصان بمقدار كبير. بينما يُصبح حال التأليف والكتابة أفضل عندما أكون في مؤسسة مكرَّسة للبحث العلمي فقط كما كان عليه الحال، مثلاً، عندما كنتُ في مؤسسة الدراسات المتقدِّمة في هولندة أو في برلين أو في معهد ويلسون في واشنطن، حيث كنتُ متفرِّغاً للبحث والكتابة وإلقاء المحاضرات دون أعباء التدريس. في مثل هذه الحالات أستطيع أن أنتج بشكلٍ أفضل وهذان هما العاملان الحاسمان اللذان منعاني مؤخراً من إصدار كتاب جديد. عامل ثالث في هذه المسألة هو أنني كنتُ أقوم سابقاً بإعادة كتابة بحثٍ بالعربية كنتُ قد أصدرته سابقاً باللغة الانكليزية والعكس بالعكس. والأمر هنا ليس ترجمة وإنما إعادة كتابة الموضوع بالعربية كما حصل مثلاً في دراستي عن كتاب ادوارد سعيد “الاستشراق”. فقد كتبتها بالانجليزية أوّلاً ثم أعدتُ وضعها بالعربية تحت عنوان “الاستشراق والاستشراق معكوساً”. وأحيانا كان يحصل العكس. كنتُ أكتب موضوعاً بالعربية ثم أعيد كتابته بالانجليزية، ولكنني، كما قلتُ لكَ، صرتُ أشعر بالوهن في الإيفاء بهذه المهمة التي كنتُ أقوم بها في السابق بنجاح وراحة. فمثلاً دراستي حول سلمان رشدي صدرت أولاً بالانجليزية وبعدها بالعربية. أما الآن فإنني لم أعد أشعر بأنني قادر على إنجاز أعمال مشابهة بالسرعة المطلوبة. على سبيل المثال، دراستي حول 11 سبتمبر التي صدرت بالانجليزية تحت عنوان “الإسلام والإرهاب والغرب اليوم” لم أوفق بعد في عملية نقلها إلى العربية والآن أظن أنه فات الأوان على فعل ذلك. لقد تعبت و لا أقول عجزت، ولكنني صرتُ أحتاج إلى المزيد من الجهد والجّلد. واعترف بأنني لم أعد قادراً على العمل كما في السابق وللتقدم في السن حقه طبعاً. أما بالنسبة إلى سؤالك ما إذا كان المحارب القديم قد قرّر أن يستريح؟ فأنت تعرف بأنّه في اليوم السابع استراح، فلا بدّ من يومٍ سابع للاستراحة. هل جاء هذا اليوم أم لا؟ لا أعرف، ولا شكّ أنني أمنح نفسي إجازة الآن دون أن أكون قد حرّرت نفسي من المستقبل الّا جزئياً.
هل نستطيع أن نُضيف إلى تلك العوامل غياب الموضوعات المثيرة التي تحفِّز العظم ليكتب عنها مثل رواية “الآيات الشيطانية” مثلاً؟ هل تنتظر فرصاً كهذه لتكتب؟
الحقّ معك. أنا من النوع الذي يستجيب للمثيرات الحيوية والقضايا الكبيرة والفرص الجدية كما قلتَ. أنا أحتاج إلى محرِّض فأشعر بأنني في أحسن حالاتي ونشاطي الذهني وتركيزي نتيجة هذا النوع من الاستفزاز، وقد ظهر العديد من كتبي نتيجة لهذه الحالة. لذلك أُساجل زملائي في أحيان كثيرة، فالثقافة التي لا يوجد فيها سجال اعتبرها ثقافة شبه ميّتة، والمساجلة مع الآخرين هي ملح الأرض بالنسبة لي. في ذهني حالياً عدة مشاريع وبخاصة حول علاقة الأصوليّة الدينية عموماً والإسلامية تحديداً بما بعد الحداثة وفكرها، وأنا أجمع المواد رويداً رويداً، وأفكّر في الموضوع، ولا أعرف الآن إلى أية نتيجة سأصل، ولكن هذا هو الموضوع الذي يشغلني الآن وأعمل عليه بالعربية والانجليزية والفرنسية. مع ذلك ما زلت في الساحة ولكن بمستوى أقلّ فعالية بمقدار لا بأس به عمّا كنت عليه في السابق.
ولكنك تتحدّث هنا مرّة أخرى عن دراسات وكتابات قديمة…..
ليست قديمة جداً.
ولكنك أعدت مؤخّراً طباعة أوّل كتبك وهو «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الذي صدر عام ١٩٦٨ و قد قلت لي منذ فترة بأنّ كتابك الثاني «نقد الفكر الديني» الذي صدر أخر عام ١٩٦٩ يترجم حالياً إلى الانجليزية والفرنسية.
نعم، ولكني لم أسعَ إلى هذا فقد اتّصل الناشرون بي وطلبوا ذلك، وكما تعلم فإنّهم في الغرب يأخذون الموافقة قبل أن يترجموا، ولا أعرف الآن حقيقة مصير هذه الترجمات، علماً بأنني راجعت فصولاً من الترجمة بالانجليزية، ولم يتسنَّ لي بعد مراجعة الترجمة الفرنسية للمترجمة السورية القديرة رانية سمارة. هناك أيضاً من يعمل على ترجمة «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الآن في بوسطن بمبادرة ذاتية خالصة منه.
أما فكرة إعادة إحياء كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» فتعود في الحقيقة إلى السيّدة الهام عبد اللطيف عدوان صاحبة دار ممدوح عدوان للنشر في دمشق. وهي التي قامت بتنفيذ الفكرة بالتشاور معي و أنا أشكرها الشكر كله على مسعاها. وعلى فكرة، هذا الكتاب ليس هو أوّل كتبي. صحيح كذلك أنني لم أكتب مؤخّراً كتاباً جديداً وخاصة باللغة العربية. يعود جزء من السبب إلى أنه بعد تقاعدي من جامعة دمشق عام ١٩٩٩ كنت أكثر ميلاً للعمل والكتابة باللغة الانجليزية، نتيجة انهماكي في التدريس في عدد من الجامعات الأوروبية والأمريكية بصفة أستاذ زائر للفكر السياسي والاجتماعي العربي المعاصر. في هذه الفترة أنتجت عدة دراسات كانت كلها بالانجليزية، ونُشرت في مجلات علمية اختصاصية لكنها لم تُنشر باللغة العربية. وأعترف مرة ثانية أنّ مقدرتي على نقلها إلى العربية بالسرعة المعتادة قد تراجعت وأصبحتُ أبطأ بكثير بسبب العمر والإرهاق والتعب والسفر الكثير.
أرجع إلى موضوع الأصوليّة وفكر ما بعد الحداثة، لأنك كنت قد ربطت بين هايدجر وأبي الأعلى المودودي في كتابك “دفاعاً عن المادية والتاريخ”، أليس كذلك؟
لم أعد أتذكّر ذلك تماماً، ولكن لا شك أنّ هناك رابطا من هذا القبيل. فمثلاً التصوّر الديني الأصوليّ لمجرى التاريخ هو مجرى انحداريّ وهذا الموضوع موجود عند هايدجر، فالتاريخ الحقيقي عنده هو تاريخ الفلسفة ما قبل سقراط، ثمّ انحلّ هذا التاريخ وانحدر إلى أن وصل إلى حالة البربريّة الحاليّة، التي يسميها الإسلاميّون بجاهلية القرن العشرين. أمّا الشاعر الشهير ت.س. إليوت فقد سمّاها “الأرض اليباب” التي يسكنها “الرجال الجوف” ونساء ثرثارات يأتين ويذهبن وهنَّ يلهجنّ باسم مايكل أنجلو. ميول هذا الشاعر الكبير شبه الفاشية والاكليروسية معروفة جيداً. أمّا أستاذه الشاعر الكبير الآخر عزرا باوند فقد كانت فاشيته صريحة ومعلنة، مثل نازية هايدجر وعنصريته. كان هايدجر يحتقر الديمقراطية، والأصوليّون يحتقرون الديمقراطية أيضاً، أشياء من هذا القبيل. باختصار، تأثّر منظّرو الأصوليّة الإسلامية بالنقد الألماني اليمينيّ الارتداديّ والهدّام للحداثة الأوروبية، وتبنّوه. وهايدجر علم من أعلام هذا النوع من النقد وأعلى مراحله.
يُصرّ صادق العظم على أن يقدّم نفسه بوصفه مثقّفاً ماركسياً وفيلسوفاً عقلانياً مُتمسّكاً بعقلانيته ومادّيته مثلما تجلّى مثلاً في كتابه “دفاعاً عن المادّية والتاريخ”، ماذا عن صادق العظم الآخر؟ وبمعنى مختلف ماذا عن الوجه الآخر لصادق العظم الذي يُصرّ على حجبه وإخفائه؛ وأقصد به صادق العظم غير العقلانيّ وغير المادّيّ والحالم الذي نلمح أطيافه بين السطور وعلى الهوامش؟ لا تقل لي إنّ صادق العظم في “دفاعاً عن المادية والتاريخ”، الذي يُصرّ فيه على واقعية الأشياء وماديتها، هو نفسه صادق العظم في “ذهنية التحريم” حيث يؤكّد أنّ أصدق الشّعر أكذبه، ويأخذ على منتقدي سلمان رشدي أنّهم تعاملوا مع “الآيات الشيطانية” وكأنها نصّ تاريخيّ وقع فعلاً، ولم ينتبهوا للمخيّلة الخلاقة عند رشدي! ما الذي تغيّر عند صادق العظم؟
لماذا تجد هناك صادق عظم آخر أريد أن أحجبه أو أخفيه؟ ما الذي قادك إلى مثل هذا التصوّر؟
لأن القراءة المتأنّية لأعمالك – وأنا أعتبر نفسي أحد قرائك الجادّين – تُظهر أنّ هناك تغيّرا حقيقيّا في إنتاجك الفكري. كما أنني لستُ الوحيد الذي يقول هذا فقد انتبه المفكّر علي حرب إلى ذلك وأشار له أكثر من مرّة وأظن أنّ هذا التطوّر إيجابيّ وليس سلبيّا؟
هو تطور بالفعل وليس تغيّراً بالمعنى الانقلابي أو الفجائي للعبارة. صار لي في الساحة الثقافية حوالي نصف قرن وقد تطوّرت مواقفي وأفكاري وتحليلاتي ووجهات نظري كثيراً، ولكنّ تطوّرها كان عضوياً من الداخل؛ يأخذ بالمستجدّات باستمرار، دون قفزات دراماتيكية أو شطحات حادّة أو أزمات ميلودرامية من النوع الذي يمرّ به بعض الأدباء والكتّاب والشعراء والفنّانين. كان مساري الفكريّ انسيابياً نسبياً، ومتابعاً دوماً لما يجري حولي على المستويين المحلّيّ والإقليميّ والعالمي فكرياً وفلسفياً واجتماعياً وفنياً وعلمياً بصورة خاصة. لذلك أشعر بوجود صادق عظم واحد بجوانب متعدّدة وأبعاد متنوّعة واهتمامات متجدّدة ومتطوّرة. لا شك أنّني أنقسم على نفسي في بعض الأحيان، ثمّ أُرمّم الانقسام وأخرج بنظرة متماسكة ثمّ أتخطّاها إلى ما هو أبعد وأكثر راهنية، وربما أكثر نضجاً أيضاً. منهجي منهج الاستيعاب والتخطّي والتجاوز، وليس منهج الانقطاع والقفزات الفجائية أو ما يسمى بالقطيعة المعرفية. هذا كله لا يعني أنّ هناك صادق عظم آخر. دعني أقل أيضا بأنني أجهد كثيراً حتى لا أقحم في كتاباتي الجانب الذاتي والشخصي والفردي في المعالجة الموضوعية للمسائل التي أتناولها بالتحليل والنقاش. لذلك أبتعد كل البعد في التوجه إلى القارئ والمتلقي عموماً عن أسلوب “الحقّ أقول لكم…” فهو أسلوب خطابي دوغمائي يريد أن يفرض على المتلقّي قناعات ذاتية مسبقة حول كلّ ما هو «حقّ» و«حقيقة» ومعروف أنه أسلوب ما زال متفشياً إلى حدّ كبير في الخطابات العربية وفي الثقافة العربية وتعاملاتها عموماً. كما ابتعد بالطريقة ذاتها عن أسلوب البوح وتعرية النفس والجرأة الشديدة على الذات على طريقة ما فعله ادوارد سعيد في كتابه “خارج المكان”. هذه خصوصيات لا أهمية لها في الشأن الثقافي الجامع والهم العامّ.
دعني أقل أخيراً إنّه بسبب من ميراث عصور الانحطاط في الثقافة العربية الراهنة أردت عن وعي و تصميم إبراز وتأكيد أهمية العقلانية الحديثة (وليس العقلانية القروسطية التي يستنجد بها البعض اليوم عبر ابن رشد وابن خلدون)، والمادية العلمية والواقعية والدنيوية التنويرية النهضوية- خاصة كما وجدتها مجموعة في الفلسفة الماركسية- أقصد إبراز أهميتها وتأكيد دورها كلها في ازدهار آية ثقافة عربية معاصرة وحيّة وفعّالة وخلاّقة في القرن العشرين وربما ما بعده. لهذا السبب قد يبدو أنّ صادق العظم الأخر الذي تسألني عنه كان غائباً ثمّ أخذ يظهر شيئاً فشيئاً، ولكنّ الحقيقة هي أنّ صادق الأخر كان موجوداً وإن بأشكال أولية. ألم يقنعك كتاب «في الحبّ والحبّ العذريّ» بوجوده؟ ألم تقنعك «مأساة إبليس» بوجوده؟
ولكنني لا أسعى إلى انتهاك حرمة الجانب الشخصيّ لديك ولكنني…
ولكن هناك شيء ما في سؤالك لو تابعناه منطقياً حتى النهاية قد يؤدّي إلى ذلك، فأنتَ تتحدّث عن جانب مُخبّأ، محجوب، غير مكشوف الخ… عند صادق العظم. اعتبر هذا أمراً خاصاً بي أكشف أحياناً عن بعض جوانبه أو قد يستشفّه القارئ من النصوص ولكنني لا أعتبره مهمّاً مثل القضايا التي أناقشها وأعالجها.
أعتذر لهذا اللبس الذي حصل هنا، ولكن كلّ ما هنالك أنّني شخص لا يكتفي بقراءة السطور بل ما بينها والهوامش كذلك. أردتُ فقط أن أتساءل عن تطوُّر العظم الفكريّ وأقيس المسافة بين ما كان وبين ما هو عليه الآن وكلّ ذلك من خلال ما يكتب.
لا شك أنّ أيّ قارئ جيّد يفعل ذلك.
حسناً، إذن كنتُ أسأل نفسي هل تغيّر شيء في قناعات العظم الأولى أم هل لا زالت ثابتة؟ هناك فلاسفة وكتّاب كبار تخلّوا عن بعض كتاباتهم في الماضي. فمعروف أنّ جورج لوكاش تخلّى لاحقاً عمّا جاء في كتابه “التاريخ والوعي الطبقي” رغم أنّ الكثيرين يعتبرونه أهمّ كتبه. فتجنشتاين أيضاً تخلى لاحقاً في كتابه “بحوث فلسفية” الذي صدر بعد موته عمّا جاء في كتابه “التراكتاتوس” وتنكّر له بالكامل رغم أنه يعتبر من أهم الأعمال الفلسفية المعاصرة. وكثيراً ما أعاد الكُتّاب النظر بأعمالهم السابقة بشكل أو بآخر. نتحدّثُ نحن في الفلسفة مثلاً عن ماركس الشابّ الذي كان هيغلياً، ثمّ عن ماركس الناضج الذي تحرّر فيما بعد من سيطرة هيغل. يمرّ الفلاسفة غالباً بمراحل مختلفة في تطوّرهم الفكريّ وهم يعلنون أنّ بعض مواقفهم قد تبدّلت أو تغيّرت. ولكننا لا نلمح مثل هذه المراجعة لكتابات الماضي عندك، بل اعتدادا وفخرا بكلّ ما كتبته. وأرجو ألا أكون استفزازياً جدّاً بذكر عبارة قالها لك أدونيس على هامش نقاشكما حول كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد عندما استشهد بعبارة نيتشه: “الأفعى التي لا تغيّر جلدها تموت”.
تشبيه أدونيس غير موفّق على الإطلاق لأنّ الردّ عليه سهل بتشبيه شائع آخر، سلبيّ جداً وغير محترم أبدا، وأقصد التشبيه بالحرباء التي تغيّر ألوانها بسرعة وفقاً للظروف والأحوال. لذلك اعتبر أنّه لا فائدة من هذا المجاز الذي استخدمه أدونيس، وهو لم يقدّم أو يؤخّر بشيء بالنسبة للسجال الذي دار بينه وبيني، إذ بقي المرجع للحجّة وللاحتكام إلى الوقائع والنصوص والنتائج وتماسك المنطق وما إليه من مقاييس، وليس إلى الاستعارات القدحية المقتضبة والسريعة. لا شك أنّ بعض الفلاسفة، وخاصة في العصر الحديث، تصرّفوا بالطريقة التي وصفتها، ولكن هذا لا يشكّل قاعدة عامّة بالنسبة لتاريخ الفلسفة الحديثة. على سبيل المثال ماركس لم يتخلّ عن أعماله الأولى على طريقة من يبدأ متديّناً ومؤمناً ثم يتحوّل فجأة إلى مادّيّ عقلانيّ الخ. أو على طريقة المفكّر الذي يبدأ ملحداً ثمّ يتحوّل فجأة ولسبب من الأسباب إلى مؤمن ومتديّن. قام ماركس بعملية “تصفية حساب” مع وعيه المثاليّ السابق، وهذا أقرب إلى منهج الاستيعاب والتخطّي والتجاوز منه إلى منهج التخلّي والانقطاع الذي تُشدّد عليه أنت. كما أنّني لست متأكّداً تماماً أنّ لوكاش قد تخلّى بالطريقة التي تذكرها عن كتابه الأشهر “التاريخ والوعي الطبقي”.
أمّا بالنسبة لي، ليس لديّ استعداد للتنكّر لأيّ من كتبي السابقة، مع أنني لا أتبنّى بالضرورة كل ما ورد فيها. وكما قلت لك فإنّني لم أعد يوماً إلى كتاب أصدرته سابقاً لأعيد صياغته من جديد على ضوء الحاضر. بعض هذه الكتب صارت تشبه وثائق تعبّر عن مرحلة ما؛ بمعنى أنّها كتب مرحلية أكثر من كونها كتبا لها دوام. مثلاً كتابي عن تجربة المقاومة الفلسطينية المسلحة في الأردن قبل أيلول الأسود سنة 1970 ووصولاً إليه. فهذا الكتاب يحتضن تلك المرحلة وفيه توثيق لها ولتنظيماتها وللمناخ الفكري – السياسي العامّ الذي كان يسيطر في تلك الفترة. على سبيل المثال، كانت المرجعيات والنماذج المهيمنة وقتها هي حرب التحرير الجزائرية، حرب التحرير الفيتنامية، الثورة الصينية، الثورة الكوبية بتأثيراتها البالغة في بلدان أميركا اللاتينية. في الوقت الحاضر تمّ تخطّي تلك المرجعيات والنماذج وتجاوزها بصورة شبه كلية وبطرق شتى، وأنا أيضا تجاوزتها وتجاوزت معاييرها ومقاييسها ليس لأنها تجاوزت هي نفسها بنفسها فحسب، بل لأن التاريخ تجاوزها أيضا. لكن هذا لا يعني أن أتنكّر لكتابي أو أتخلّى عنه لمجرد أنه كان ابن مرحلته وزمانه.
أعلن لوكاش ابتعاده عن “التاريخ والوعي الطبقي” مع ابتعاده عن الهيغيلية أو عن هيغيلية ماركس الشابّ واقترابه من أطروحات ماركس الناضج، ماركس “رأس المال”. بين “التاريخ والوعي الطبقي” وكتاب لوكاش الآخر “تحطيم العقل” تغيّر ملحوظ…
فكرة الابتعاد جيّدة هنا وواقعية. قد يكون الابتعاد بريئاً بمعنى أنّه ناتج عن مجرّد مرور الزمن وتتابع الأحداث وتكيُّف الأشخاص العفوي مع ذلك كله. حتى في حدّه الأدنى، قد يكون الابتعاد شرطاً لفيض جديد سيأتي استناداً إلى ما تمّ انجازه سابقا.ً وربّما انطبق هذا الاعتبار على فتجنشتاين في ابتعاده عن “التراكتاتوس” باتجاه كتابه الأخير “بحوث فلسفية”. كما قلت لك: أنا لا أعمل عبر فكرة القطيعة المعرفية أو القفز الفجائيّ من البارادايم الذي اشتغلت بواسطته وبمقاييسه في السابق إلى برادايم آخر كلياً اشتغل بواسطته الآن وأطبّق معاييره. في الواقع أنا لا أجد أية فائدة في مثل هذه الطريقة في تناول أيّ مفكّر مهمّ ومحاولة فهمه وتفسيره، كما لا أجد طائل من تطبيقها على نفسي خاصة حين أتناول نفسي وأعمالي بالنقد، أجد في هذا التناول تزييف للطريقة التي اشعر بعمق أنّني أعمل بها وأتطوّر معها وعبرها.
اسمح لي بنقطة أخيرة أعود بها إلى تساؤلك الجميل حول صادق العظم غير العقلاني وغير المادي والحالم، والذي يصرّ على أنّ “أصدق الشعر أكذبه” في الوقت الذي يصرّ فيه أيضا على “مادية الأشياء وواقعيتها الخ…”، يوحي تساؤلك وكأنّ التشديد على العقلانية والفكر العقلاني والمادي والعلمي وما إليه، يتناقض مع الإبداع والمخيلة والخيال والحلم والشعر والأدب والفن والحب والعاطفة عموماً، لأنّ هذه الظواهر تُنسب عادةً وتقليدياً إلى “الروح” والروح مضادّة للمادّة ومفارقة للجسد! أنت تعرف، بالتأكيد، أنّ مادية فرويد ومنهجيته العلمية المرافقة هي التي فتحت الطريق أمام الجميع لفهم ظواهر الحلم والمنامات على تنوعها عند الإنسان بعيداً عن الخرافة والسحر والشعوذة والجهل. مع ذلك قد تكون ما زلت تعتقد أنت بوجود روح مفارقة للجسد تفسّر هذه الظواهر. أمّا من جهتي فأنا أركز على الشروط المادية التي يتمّ فيها الإبداع وتعمل فيها المخيلة وتتفتح ضمن إطارها الأحلام إلى آخر منظومة الظواهر المنسوبة تقليدياً إلى ما يسمّى بالروح. هذا لا يمنع، بحدّ ذاته، الإساءة إلى الأدب والفن والإبداع والحبّ باختزالها إلى مجرّد شروط مادية بالمعنى المبتذل أو إلى مجرد شروط منطقية – صورية أو إلى مجرد شروط دينية – فقهية أو إلى مجرد شروط سياسية – اجتماعية أو إلى مجرد شروط أداتية – برغماتية. ونحن نعرف أن مثل هذا الاختزال القاتل كثيراً ما حدث في تاريخ الحضارات والمجتمعات والثقافات وفي حاضرها أيضا. لذلك يبقى الدفاع عن الفائض الرمزي والمعنوي والإبداعي والشعوري لكل ظاهرة من هذه الظواهر الإنسانية بامتياز مهمة عظيمة وملحّة ومستمرة دفاعاً عن “الروح” بالمعنى الإنساني الحي غير الغيبي الماورائي للعبارة. من هنا أهمية الردّ الجدليّ لشاعر عظيم مثل البحتري على صغار العقول الذين أرادوا اختزال مغزى الشعر إلى الشروط المنطقية – الصورية التي تحكم التخاطب الإنساني على العموم، وإلى مجرد التحديد الكلاسيكي المعروف لمعاني الصدق والكذب في بيت شعره الرائع:
كلّفتمونا حدود منطقكم *** والشعر يغني عن صدقه كذبه
كذلك بالنسبة لردّ ضياء الدين بن الأثير المشابه علي ضعاف العقول هؤلاء بقوله الذي لا يقلّ رهافة وجدلية عن سابقه: “فإنّ أحسن الشعر أكذبه، بل أصدقه أكذبه”.
من هنا أيضا دفاعي عن أدب رشدي وعن رواية “الآيات الشيطانية” تحديداً في وجه العقول الصغيرة التي اختزلت بجرّة قلم أدبه الروائي إلى شروط خطابات الدين والفقه واللاهوت ووقائع التاريخ والسيرة وما شابه. الدكتور السيد أشرف المدير العام للأكاديمية الإسلامية في كامبردج وعضو كلية التربية في جامعة كامبريدج الشهيرة، سأل بكلّ جدية في ردّه على رواية رشدي “الآيات الشيطانية”: هل يعقل أن يسقط بشر (في الرواية) من طائرة على هذا الارتفاع الشاهق ويصل سالماً إلى الأرض؟ أراد بهذا النوع من التعامل مع الأدب الدكتور السيد أشرف أن يثبت أنه أكثر واقعية وعقلانية ومادية من جميع مادّيي التاريخ وعقلانيّي العصور وواقعيّي العالم بأكمله. ليس من الواقعية أو العقلانية أو المادية بشيء التعامل مع الأدب بهذا المستوى من السخافة.
حسناً، قبل أن ننتقل إلى السؤال التالي أودُّ أن أسأل: بما أنّ البارادايم لم يتغيّر عندك فهل لا زلتَ تصنّف نفسك إذن فيلسوفاً ماركسياً مادّياً وتاريخياً؟
بالنسبة للمادّية بالمعنى الفلسفي فأنا ماديّ وأعتقد أنّ القارئ هنا سيكون واعياً إلى أنني لا أستخدم كلمة المادية بالمعنى المبتذل للكلمة. ثم إنّ التطوّر الكبير الذي يجري حالياً في العلوم الطبيعية وعلوم الوراثة ينحو نحو المزيد من تأكيد وجهة النظر المادية في ظواهر الكون. على سبيل المثال، كان هنالك في الفلسفة مشكلة اسمها (The Mind Body Problem) مشكلة العقل والجسد أو المادة والروح. في الوقت الحاضر ضمرت هذه المسألة وتراجعت لصالح الحديث عن الدماغ. حقول البحث الحالية تتحدث عن الدماغ بدلاً من الحديث عن الروح والعقل بمعانيها القديمة وهذا مثال من أمثلة أخرى. أرى أن التقدّم العلميّ يقرّبنا أكثر فأكثر من التصوّر المادّيّ للعالم والكون عموماً أكثر من أيّ تصوّر آخر روحي أو مثاليّ أو ما إليه. وكما تعرف كنت قد أكدت هذه المسألة في كتابي «نقد الفكر الديني» منذ زمن بعيد.
ولا بدّ أنّك تعرف كذلك أنه يجري الآن في هذه الأوساط العلمية والفكرية والفلسفية استبدال صرخة نيتشه الشهيرة حول موت الله، بتصوّر آخر أكثر واقعية وأقل شعرية يقول بأنّ مفهوم الله أصبح obsolete، أي أصبح مفهوماً دارساً بمعنى انقضاء عهده أو حتى شبه انقراضه.
إذا كان التقدّم يقرّبنا من التصور المادي ويبعدنا عن التصور الروحي، كيف تفسّر إذن استشراء ظاهرة الأصوليّة وعودة الدينيّ وسيادة الفكر الغيبيّ في زمننا المعاصر ومحاصرة السماء للأرض؟ كيف تفسر كيفية استثمار السلفيين والإرهابيين للتكنولوجيا في خدمة قضاياهم اللاهوتية والغيبية والإرهابية؟
لا أرى أية عودة جدية للديني في الفكر العلمي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التاريخي أو القانوني المعاصر. حتى في الأدب والفنّ والشعر والحبّ والجمال والإنسانيات عموماً لا أرى مثل هذه العودة، بل على العكس أرى أنّ المنحى العامّ هو المزيد من الابتعاد عن الديني ومقولاته وتفسيراته وتعبيراته إلا بالمعنى الرمزيّ والأداتي والتراثي البحت للعبارة. عند اصطدام فيروس أنفلونزا الخنازير بموسم الحجّ إلى مكة، إنّ أحداً لم يفكر في مشكلة تفادي تفشّي الوباء أثناء الحجّ تفكيراً دينياً، بل كان التفكير كلّه، في تلك اللحظة الحاسمة، علمياً، طبياً، مادياً، عقلانياً وواقعياً دون أن يقيم أيّ وزن للمقولات والتصورات والتفسيرات الدينية المعروفة. هنا السماء لا تحاصر الأرض على حدّ تعبيرك، بل الذي يحدث هو أنه في لحظة الحقيقة كثيراً ما تُهمل الأرض السماء من أجل تحقيق مصالحها الأرضية. لهذا السبب أنتج التاريخ شيء اسمه الأحكام السلطانية التي لا تقيم وزناً حقيقياً للأحكام الشرعية إلا من باب المراعاة والمراوغة والممالئة.
أما بالنسبة لما ذكرته عن الظاهرة الأصوليّة وتوسّعها وعودة الديني فيها وعبرها، فهي ظاهرة تاريخية – سياسية- اجتماعية وليست ظاهرة دينية بالمعنى الدقيق للعبارة ولها أسبابها غير الدينية بالتأكيد وأنا لا أريد الدخول في شرح هذا الموضوع الآن إذ تعرف أنني عالجت الظاهرة في عدد من دراساتي ومؤلفاتي كما أدليت برأيي حول أسبابها وخلفياتها ومستقبلها ولا أعتقد أن بروز مثل هذه الظواهر الدينية الشعبوية والسياسية في أي مكان من العالم يؤثر في الموقع القوي للفكر العلمي المادي عالمياً أو في قوته التفسيرية للظواهر أو في أهمية تطبيقاته العملية والتكنولوجية في حياة الإنسان المعاصر أينما كان ومهما كان دينه أو لا دينه.
أخيرا لا أجد ما هو غريب في استخدام السلفيين والإرهابيين للتكنولوجيا في خدمة تصوراتهم اللاهوتية والغيبية وقضاياهم السلطوية والتسلطية. هذا شيء طبيعي، أي أن تستخدم ما هو متوفر ومتاح من أدوات وأسلحة وما إليه في خدمة أغراضك. وهم في ذلك لا يشذّون أبدا عمّا هو سائد منذ قرون في العالم الإسلامي كله تقريباً، أي استخدام الأدوات الحديثة والتكنولوجيا الحديثة والأسلحة الحديثة دون الاهتمام بامتلاك المنهجية المعرفية والعقلانية والعقلية التي أنتجت هذه الأدوات والتطبيقات. تعرف ان العالم الإسلامي لم ينتج معرفة علمية تذكر أن كان بالطبيعة أو بالمجتمع أو بالإنسان منذ حوالي خمسة قرون على أقلّ تقدير.
كان العظم يمثّل واحداً من أبرز أساتذة قسم الفلسفة في جامعة دمشق. أتذكّر- أنا الذي دخلت ذلك القسم في أواسط التسعينات – تلك الحالة من الأيديولوجية الماركسية بفقهها وشيوخها وكتبها المقدَّسة. ألا تعترف معي بأن الأيديولوجية قد مارست دوراً سلبياً في طريقة تعليم وتعلُّم الفلسفة عندنا؟ ألا ترى معني أنّ ماركس الذي دافعتَ عنه أفضل دفاع في كتابك المتماسك جداً “دفاعاً عن المادية والتاريخ” كان الشجرة التي حجبت عنكم وعنا الغابة؟
بالنسبة للماركسية فأنا لم أكن يوماً ماركسياً أرثوذوكسياً. بالعكس كنت أُتّهم في ماركسيتي من قِبَل الأرثوذكسيين والحزبيين الشيوعيين والكثير من اليساريين حولي بالليبرالية. لأنّ مسألة حرية الفكر والتعبير والبحث العلمي كانت مهمة جداً بالنسبة لي. ولأنني لم أكن أحمل على محمل الجدّ مجموعة الأكليشيهات والأجوبة الحاضرة مسبقاً التي تمّ اختزال التفكير الفلسفي والاجتماعي إليها خاصة في عملية التدريس أو بالأحرى التلقين التقدمي الجاهز في معظم الأحيان. كنت أشدّد دوماً على المنهج في التناول والتفسير والمعالجة مما يعني أنه على مستخدم المنهج أن يبحث بنفسه ويفكّر بنفسه ويصل إلى استنتاجاته بنفسه. لا اعتقد أنني تمكّنت من تحقيق الكثير على هذا الصعيد لأن حال الجوّ المسيطر بقوة وقتها والمدعوم سلطوياً كان كما وصفته من خلال تجربتك. إن جزءاً مما قدّمته الماركسية هو نقل المنهج العلمي بمعناه الواسع إلى حقول الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس والفكر النقدي عموماً كما الدراسات الإنسانية. ذلك كله يعود بالأساس إلى الثورة العلمية في القرن السابع عشر وتطورها المستمر بلا توقف حتى يومنا هذا. غياب ذلك كله وحلول الملخصات الماركسية المدرسية محلّه وبأسلوب شبه قروسطي هو الذي مارس الدور السلبي الأكبر الذي لمسته أنت في عملية تعليم الفلسفة (وغير الفلسفة) وتعلّمها في الجامعة. بالنسبة للشيوخ الذين تشير إليهم – ومن حولهم المريدون- لم تكن الفلسفة والفكر عموماً، بما في ذلك الماركسية ذاتها، عندهم بحثاً حراً مفتوحاً على كل نقاش ومراجعة ونقد، بل أدوات أرادوا تسخيرها لخدمة “قضايانا الكبرى” بصورة أداتية فجّة جدّاً.
من تجربتي في التدريس في جامعة دمشق وفي قسم الفلسفة أجد أنه كانت هنالك أيديولوجيتان أعاقتا ما اعتبره الغرض من دراسة الفلسفة على مستوى الجامعة. أوّلا، الأيديولوجية العفوية السائدة التي تأتي من الخلفية الدينية والتي تعتبر أن التعليم والتدريس هو تلقين للحقيقة وليس بحثاً عنها أو هو تصديق لمجموعة من الحقائق المعطاة مسبقاً. إنّ مثل هذه الطريقة تشبه التدريس في كلية الشريعة والتعليم الديني عموماً. في قسم الفلسفة تغير المحتوى لكنّ الأسلوب بقي أسلوبا تلقينياً لا يعمل جدّياً على تربية عقل الطالب على السؤال والتساؤل والتنقيب والبحث والوصول بنفسه إلى قناعات ولو مرحلية، والطالب دائماً في وضع مرحليّ. ثانياً، أيديولوجيا غير عفوية مبنيّة حول الماركسية والفكرة الشيوعية ومنهما تمّ تحضيرها وتعليبها في أماكن أخرى مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية ولاحقاً الصين، وتم استخدامها لتلقين الطلاب الفكر الفلسفي والماركسيّ تحديداً بدلاً من المنهج السقراطي العقلاني الحرّ، مثلاً، الذي يمتحن الأفكار والأطروحات والتعريفات الخ.. عبر الحوار والسؤال والتساؤل والإجابة ونقد الإجابة المفتوحة كلها دوماً على المزيد. وأعتقد أنّ هاتين الأيديولوجيتين هما المسؤولتان عن حجب الغابة وفقاً لما ذكرت في سؤالك. إنّ فصل الماركسية عن الفلسفة النقدية أو التوجّه النّقديّ في الفلسفة هو الذي حجب النقاش الجدّيّ، وحوَّل التدريس الفعليّ للفلسفة في جامعة دمشق إلى تلقين، وأرجو أنّي كنت أقلّ وقوعاً من غيري في هذا المطبّ كما أترك تقدير ذلك لطلابي ولمن درسوا تحت إشرافي ولا بدّ أنّك تعرف أنه كانت لي تحفظات كثيرة على طريقة تدريس الفلسفة في جامعة دمشق.
أود أن أوضح موقفي بأنني لا أدعو هنا إلى حرق أو قطع هذه الشجرة التي حجبت الغابة، ولكن إلى إعادة اعتبارها شجرة ضخمة ومثمرة في غابة الفلسفة لا تختزل في ذاتها كل الغابة وقد لا تكون أهم أشجارها. تعلّمنا في جامعة دمشق أن نقرأ تاريخ الفلسفة من مواقف ماركسية فكان هناك مركز نقرأ انطلاقاً منه تاريخ الفلسفة أي ما قبل وما بعد ماركس، حتى الفلسفة الإسلامية لم تنجُ من ذلك حتى أننا كنا نظن أن الفارابي وابن سينا وابن رشد أعضاء في الحزب الشيوعي ومؤسسين لكومونة باريس أو لثورة 1917 في روسيا. في كتابه “نقد النص” (إذا لم تخنّي الذاكرة)، انتقد علي حرب هذا التوجه في كتابك “دفاعاً عن المادية والتاريخ” في فصل حمل عنوان: “صادق العظم إرادة المعرفة أم إرادة الماركسية؟” أشار فيه إلى إعادة تقييمك لتاريخ الفلسفة السابقة على ماركس من وجهة نظر هذا الأخير ثم الحكم على الاتجاهات الماركسية اللاحقة عليه مثل ماركسية جورج لوكاتش وألتوسير وسارتر بوصفها انحراف عن ماركسية ماركس أو إنها أرادت من الماركسية الروح دون الجسد والمثالية دون المادية. هذا التوجه كان سائداً ومسيطراً لدى الأساتذة الكبار في قسم الفلسفة في جامعة دمشق مع الإشارة إلى أن يوسف سلامة كان يغرِّد خارج السرب.
أنا سعيد جداً انك أثرت الآن مسألة التعامل مع الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم بهذه الطريقة المبتذلة في قسم الفلسفة، وأثرتها بهذه الصراحة والوضوح ومن موقعك كطالب مرّ بالتجربة. أقول لك أنا سعيد لأنّ هذه المسألة كانت مصدر اختلاف دائم وخلاف حادّ أحياناً مع بعض زملائي في القسم الذي كانوا ينحون هذا المنحى في تدريس تاريخ الفلسفة العربية – الإسلامية. كنت أعارض دوماً هذا النوع من الإسقاط الارتدادي وانتقده – وأنت “حكّيت لي على جَرَب” الآن كما يقول المثل الدارج، كما يبدو أنك نفَّست أنت بدورك عن هم كان جاثماً على صدرك منذ تلك الأيام. كما قلت لك سابقاً، هم أرادوا تسخير الفارابي وابن سينا وابن رشد لخدمة «قضايانا الكبرى» بإقحامهم لهؤلاء الفلاسفة و على النحو الكاريكاتوري الثوري الذي وصفته في قضايا مثل الوحدة والاشتراكية والماركسية وغيرها وهذا وهم وأيديولوجيا وتزييف من النوع الأداتي المبتذل والتشويه الفج. طبعاً، لا اعتقد أن قضايانا الراهنة ستتأثر سلباً أو إيجابا إذا علمنا أن الفارابي كان فيلسوفاً إشراقياً مثالياً وفقاً لتقاليد عصره الفكرية. لم أنْسق أبدا مع هذا الوهم في عملي، بل عارضته بقوة وحزم ولربما كنت أقرب إلى يوسف سلامة من غيره في هذا، وأرجو أن يقبل مني يوسف هذا الظن.
بالنسبة لنقد الدكتور علي حرب الذي أشرت إليه لا اذكر التفاصيل الآن، لكنني أقول كما أني أعدت قراءة مجرى تاريخ الفلسفة الحديثة من منظور ماركسي (لكني لم أجعل أياً من ابن رشد أو توما الاكويني فيلسوفاً ماركسياً!) فقد حاولت أيضا أن أموضع ماركس نفسه في سياق تاريخ الفلسفة ذاته وتطوره وبخاصة بعد الثورة العلمية الكبرى في القرن السابع عشر وعصر الأنوار الذي تلاها في القرن الثامن عشر. أضف إلى ذلك أن إعادة قراءة الماضي على ضوء انجازات الحاضر واكتشافاته وعلومه ومناهجه مسألة مشروعة تماماً وإلا لما كان هناك أي تراكم أو تقدم في المعرفة الإنسانية عموماً. قراءة تاريخ فكرة السببية عند الأشاعرة، مثلاً، قبل ابن رشد شيء وقراءته بعد ابن رشد وعلى ضوئه شيء آخر جديد. قراءة عقلانية ابن رشد قبل ديكارت شيء وقراءتها بعد ديكارت وعلى ضوئه شيء آخر كذلك. تعرف أنه ليس غريباً أن يظهر في سياق ثقافة حيّة علمية متطورة مفكر كبير مثل فرويد، مثلاً، فتتم إعادة قراءة الماضي على ضوء البارادايم الذي أنشأه وبناه، وأنا اعتبر هذه مسألة مهمة و يكمن الخطأ والعجز في ألاّ تحصل. فقراءة مسرحية “هاملت” كانت قبل فرويد شيء وأصبحت بعده شيئاً جديداً ما فيه إثراء عظيم وتقدم هائل. كذلك، فإن عمليات فهم واستيعاب وتسفير أحداث مثل الثورة الفرنسية او تاريخ صراع الطبقات في المجتمعات البشرية أو ثورة الزنج في التاريخ العربي – الإسلامي تنتقل كلها إلى مستويات بحثية وتفسيرية أرقى بما لا يقاس بعد ماركس وغير ماركس من الباحثين المعاصرين مما كانت عليه قبلهم. فالثقافة الحيّة تعيد النظر دوماً بنفسها وبحاضرها وماضيها على ضوء انجازاتها واكتشافاتها الحالية المتراكمة.
في مثل هذا الإطار تأخذ إعادة القراءة بُعداً ابستومولوجيا ومعرفياً وتناصّاً مفيداً جداً، ولكن المشكلة أن تسيطر الايدولوجيا على الابستملوجيا وتبتلعها فيصبح الأمر مجرّد وجود حقائق مسبقة يُدافَع عنها بشكل دينيّ (حتى لو لم تكن دينية الطابع). نظرة إلى الماضي تجعلني أشعر بهيمنة الايدولوجيا على تعلُّم الفلسفة في جامعاتنا، ولكننا لم نكن نشعر بهذا الأمر عندما كنا على مقاعد الدراسة بل كنا متحمّسين للماركسية ولأساتذتنا الماركسيين. مع قدومي إلى فرنسا تغيرت رؤيتي للأمر بشكلٍ ما.
مع قدومك إلى فرنسا حصل معك ما يجب أن يحصل. بل لو لم يحصل معك ذلك لكان هناك عُطل ما أو عجز ما وأنا اعتبر هذا ميزةً راقية فيك. فأنا أعرف أشخاصاً جاؤوا مثلما جئت ورجعوا لما يمكن أن ترجع إليه أنت ولكنهم في المحصلة لا راحوا ولا جاؤوا. لو انك لم تتغير بعد مضي خمس سنوات في جامعة دمشق وخمس سنوات في السوربون لكانت المصيبة كبيرة حقاً.
دعني أعود قليلاً إلى علي حرب… إن مناقشتي لماركسية لوكاش والتوسير وسارتر لا تستند إلى إصدار أحكام بالانحراف وما شابه، خاصة وأن كلمة “انحراف” مثقلة بإيحاءات الاتهامات السياسية شبه الدينية المعروفة وبالعقوبات المترتبة عليها على طريقة العقوبات التي يفترض أن تلحق بالهرطقة والزندقة والخروج على الجماعة وما إليه. نقدي وتقييمي للفلاسفة المذكورين لا علاقة له بكل هذا. على عظمة كتاب لوكاش “التاريخ والوعي الطبقي”، فإنه صنع من الماركسية، في المحصلة، لاهوتاً بروليتارياً ملحمياً أفرغ الماركسية من محتواها العلمي ومن تاريخيتها ومن تاريخانيتها أيضا، كأي لاهوت آخر. أما بنيوية التوسير فقد أوصلت الماركسية إلى المأزق السكوني ذاته – والبنيوية سكونية غير تطورية وغير تاريخية بطبيعتها – بإصرارها على القطيعة المعرفية عند ماركس وعلى القفز الفجائي وشبه اللاعقلاني من بارادايم إلى بارادايم آخر مما سلب الماركسية مجدداً، وبالمحصلة، تاريخيتها وتاريخانيتها وتطوريتها. وأنا لا أنكر للحظة أن نقدي هذا قابل هو بدوره للنقد والمراجعة والنقاش كأي اجتهاد مفتوح على المزيد.
في مقالتك عن العولمة، والتي ألقيتها محاضرة في قسم الفلسفة في أواخر التسعينات و توسّعت فيها لاحقاً في كتاب “ما العولمة” الذي صدر بالاشتراك مع المفكر المصري حسن حنفي، كنتَ ترى أن العولمة ستقوم بتوحيد الهويّات وستقضي على الاختلافات والفوارق. ولكن ألا ترى معي أن العولمة تعملُ بدلاً من ذلك على تجذير الهويات القومية والدينية والطائفية إلخ؟ ألم تؤدي سيرورة العولمة المتسارعة في البلدان العربية مثلاً الى التشبث بالتقاليد الخاصة والارتداد إلى الهويات الأضيق فالأضيق نتيجة ما أسماه هابرماس”الخوف من اقتلاع الجذور”؟
عندما كان هابرماس يتحدث عن اقتلاع الجذور، كان يتكلم عن ذلك في إطار الحداثة أو الربط بين العولمة والحداثة. إن الرأسمالية هي، في الواقع، من يقتلع الجذور وهي التي تلغي طبقات اجتماعية، وتخلق طبقات جديدة وتعيد التوزيع السكاني وتغير في بنية المجتمعات وتوازنات المدينة والريف، الصناعة والزراعة، وهذا بسبب صيرورة الرأسمالية التاريخية. لقد قدّمتُ العولمة بوصفها طوراً من أطوار حِراك الرأسمالية التاريخية بحيث لم يبقَ على سطح الكرة الأرضية إلا بعض الجيوب هنا وهناك لم تتأثر بعد في العمق بصيرورة الرأسمالية. أنظرُ شخصياً إلى الحداثة، كتوصيفٍ عام، على أنها البنية الفوقية المتطوِّرة للرأسمالية التاريخية، لكن من يقتلع الجذور هو في الحقيقة التطوّر الرأسمالي الذي ينتج ردود فعل تتمثّل في التشبُّث بالجذور. ولكن بأي شيءٍ يتم التشبُّث حقاً؟ يتم التشبُّث بالعوامل الفوقيّة مثل القيم والعادات والتقاليد، أي الفولكلور. أرى أنه عندما يكثر الحديث عن القيم والتقاليد، ويتعالى التغني بها، فهذا مؤشر على أنها في طريقها إلى الزوال، إذ عندما نحياها حقاً لا داعي للتشبُّث بها والدفاع عنها أو الإفراط في التغني بها. التشبُّث هنا يعني أن الرأسمالية تهددها و تجرفها بطريقها. أنا لم أقل أن العولمة ستوحّد الهويات بأي معنى بالمطلق. كانت نظرتي تاريخية إلى هذه المسائل. فأنا اعتقد أن الهويات تتشكّل تاريخياً وتنحلّ تاريخياً أيضاً ولا أعتقد بوجود هويات ثابتة كلياً كالماهيّات أو الجواهر الثابتة أبداً. لا بد أن تؤثر العولمة بوصفها طوراً جديداً من أطوار الرأسمالية التاريخية على الهويات، وأعتقد أنها ستقوّي جوانب منها وتجرف جوانب أخرى وتصنع هويات جديدة معولمة أو ذات طابع عولمي – أممي – كوسموبوليتي. على سبيل المثال سينشأ أدب عولمي وفن عولمي يسد الحاجات الثقافية والروحية للنخب الجديدة هذه صاحبة الهوية العولمية الجديدة أيضاً. كانت النقطة الأخرى التي ركّزتُ عليها تتمثل في معالجة الرأي القائل بأن العولمة ستُضعف أو تزيل الدولة، وقد أخذتُ موقفاً نقدياً من هذا الرأي وقتها وما زلت. لقد كانت وجهة نظري تؤكد واقعة وجود دول قويّة تقف وراء العولمة وتدفع بها وتوسِّعها ولها مصالح فيها، ومن يصطدم بهذه الدول يتعلّم أنها لم تَضعُف. ونحن نرى الآن مع الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة كيف تتدخل الدول بقوة و حزم من أجل تجاوز الأزمة وإنقاذ النظام المالي العالمي القائم. الأزمة المالية الحالية هي أزمة في داخل العولمة الرأسمالية (أي واحدة من أزماتها المتعددة والكثيرة) وليست أزمة العولمة الرأسمالية ككل وبحدّ ذاتها كنظام سائد اليوم في كل مكان تقريباً. لهذا السبب تمكّنت الدول، وبخاصة العظمى منها، من التدخل بنجاح إعداداً لتجاوزها بعد الحد من تفاقمها.
ولكن أليس من الصحيح كذلك أن ترافق العولمة مع ثورة الاتصالات والمعلومات قد حوّل العالم إلى قرية صغيرة مما أدى إلى اقتحام للأنا وللهويات التي لم تتعرف على صيرورة الحداثة، فشعرتْ مع تسارع وتيرة وإيقاع التغير أنها ستُجرف بعيداً في التيار لو قُطعت جذورها مما دفعها للتشبُّث بهوياتها بشكل أكبر. وفقاً لهذا التصور يمكن لنا أن نفسّر الأصولية بوصفها رد فعل على العولمة.
عندما كانت الحرب الباردة مستعرة و مسيطرة، كانت كل مشاكل العالم الهامة خاضعة للمنطق الاستراتيجي المتعالي لتلك الحرب. أي أن جميع الصراعات الأدنى، من قومية إلى إثنية إلى قَبَلية إلى عشائرية الى إقليمية تحررية… الخ، كانت مضبوطة ضمن المنطق الأكبر المتعالي للحرب الباردة بحيث كان الطرفان الكبيران يتدخلان في ضبط أية مشكلة عملية كان يمكن أن تُهدّد التوازن الدولي وبحيث لا تؤثر على منطق التوازن ذاك. مع انتهاء الحرب الباردة شعرت العناصر الصغيرة بأن لديها هامش أكبر لتلعب وتتحرك وتؤكد نفسها. وأنا أعتبر أن العولمة فلتت من عقالها مع سقوط الاتحاد السوفييتي رغم أنها كانت موجودة قبل هذا السقوط. أنت تعلم أن الظاهرة عندما تبدأ قد لا نلحظ وجودها، ولكننا ننتبه لها عندما تختمر وتنضج وتتطور، حينها نبدأ البحث عن بداياتها الأولى. اندفعت العولمة بكل قواها وأصبحت ظاهرة لا يخطئ ملاحظتها أحد بعد تلاشي ذلك المنطق الاستراتيجي الذي حكم الحرب الباردة فسمح للقوى الموجودة على هامشه التصرف بحرية أكبر.
بهذا المعنى العام جداً يمكن أن نرى في الأصوليات الدينية الراهنة رد فعل على العولمة بعد انتهاء الحرب الباردة لصالح الغرب. بعد ذلك أخذت العولمة الرأسمالية تقفز من مكان إلى آخر على سطح الكرة الأرضية وبسرعة هائلة دون الاهتمام كثيراً بالثقافة المحلية، أو بالخصائص القومية الموضعية أو بالطبائع الإثنية المختلفة إلى أخره، إلا بما يخدم مصالحها وأغراضها ولا يصطدم بمطالبها الحيوية أو يضربها. هذا أعطى القوى المحلية و الإقليمية حرية أوسع في التصرف الثقافي والديني والاجتماعي والحربي، بما في ذلك التشبث والاقتتال الأهلي أحياناً مع التحديث والتطوير والإصلاح في أحيانٍ أخرى. لكن هذا بحد ذاته لا يفسر الكثير عن الحركات الأصولية وعن نشأتها وتفاقمها بسبب عموميته المفرطة ولا بد من أخذ الشروط المحلية والمجتمعية لكل حركة أصولية ناشطة اليوم. لا شك أن الأصولية الإسلامية هي رد فعل كما تؤكد، لكنها رد فعل، في نظري، على أزمة العالم الإسلامي في تفاعله الفاشل حتى الآن مع الحداثة الرأسمالية وفقاً للتعريف الذي قدمته لك للحداثة قبل قليل. الاستثناء الوحيد هو تركيا التي أصبحت نموذجاً ناجحاً نسبياً على ما يبدو يتطلّع إليه القسم الأكبر من الإسلاميين الوسطيين حالياً بدلاً من إيران، وبالتأكيد بدلاً من الأصولية الجهادية التكفيرية. لا أرى نجاحاً آخر حقاً غير تركيا علماً أن تركيا لم تكتفي بالتشبُّث وردود الفعل فقط.
هل تعتقد أن الولايات المتحدة الاميركية، وبعد سقوط منافسها الاتحاد السوفييتي، قد قامت بخلق عدوّ جديد لها هو الإسلام؟ هل حلَّ ما أدعوهُ” سباق التدين” في مرحلة ما بعد الحرب الباردة مكان سباق التسلح الذي كان سائداً في مرحلة الحرب الباردة بحيث يواجَهُ الديني بالديني؟
أولاً، أجد فكرة اختراع العدو فكرة تبسيطية وحتى ساذجة. فماذا يعني أنهم اخترعوا عدوّاً؟ هناك عالم إسلامي كبير وله مصالح مُتضاربة مع أميركا وقد هاجمها البعض باسمه وباسم الإسلام في عقر دارها في 11سبتمبر٢٠٠١، والإسلاميون اعتبروا ذلك معركة شبيهة بغزوات بدر وأُحُد وغيرها وأعلنوا فكرة الجهاد العالمي فردّ عليهم الأميركيون والغرب بنفس الطريقة وذات اللهجة. وعلى أيّ حال لا يمكن الركون إلى الخطابات المُستخدمة من قِبَل هذا الطرف أو ذاك. لا يخدعني منظر مواجهة الديني بالديني كما تقترح. وراء المواجهة إرادات قوة ومصالح حيوية وهذا هو الأهم.
كيف ينظر العظم إلى مستقبل الفلسفة النقدية العقلانية في العالم العربي الذي أخذ يكفهر بحجب السلفية وينزلق إلى ليل الأديان؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تفعل في عصر الإرهاب؟ ثم هل تستطيع الفلسفة أن تنشأ في بلادٍ مضطربة في حالة حربٍ دائمة؟ ألم تزدهر الفلسفة في أثينا المستقرة ولم تعرف لها طريقاً في إسبارطة المُقاتلة؟
لا أرى هناك رابطاً دائماً بين ازدهار الفلسفة وبين فترات الاستقرار أو الاضطراب. فكثيراً ما ازدهرت الفلسفة في فترات مضطربة وقلقة أو أحياناً كانت تخبو وتنام في مراحل ازدهار اجتماعي وحضاري. في مراجعة سريعة لتاريخ الفلسفة لا أجد أمثلة على مثل تلك العلاقة التي تفترضُها ولا يوجد تلازم مُنتظم بين صعود وانحدار الفلسفة أو هدوء واضطراب عصرها.
لا شك أن هناك فترات استقرار لم تُنتج فيها فلسفات، ولكن استقرار المجتمع، برأيي، شرط أساسي لازدهارها. هناك رأي مهم لنيتشه في هذا الصدد. ففي كتابه الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، يشير إلى أن الرومان قد عاشوا عصرهم الذهبي بدون فلسفة، ولكنه يؤكّد من جهة أخرى أن الفلسفة لا يمكن أن تزدهر إلا عند الشعوب المُعافاة.
ابن رشد مثلاً عاش في مرحلة مضطربة جداً، ولكنه أنتج فلسفة.
سؤال أخير اذا سمحت: لم يترك لنا صقر أبو فخر بعد حواره البلا ضفاف مع العظم شيئاً كثيراً لنسأله، ولكن بعد هذه الرحلة الأوديسيّة التي حارب فيها عوليس/ العظم الوحوش الخرافية وغضب الآلهة وتنقل فيها عبر كل بحار العالم وعرف في رحلته نساء كاليبسو، هل عرف هذا البحّار أخيراً الطريق إلى أحضان بينلوب وإلى دروب إيثاكا؟ وما أقصده هنا هل لا زال الحب عندكَ هو تقاطع خطوط الحياة المتوازية ومفارقة الاشتداد والامتداد؟ وماذا عن الوطن؟ هل يقيم العظم في حقيبة سفره؟ ألا تتفق معي أن إيثاكا لم تكن وطن عوليس بقدر ما كان الرحيل الدائم بحثاً عن الوطن؟
ذكّرتني بقصيدة خليل حاوي”البحّار والدرويش”. كان خليل حاوي أحد أساتذتي في الجامعة الأميركية في بيروت. في قصيدته تلك يظل الدرويش قابعاً في مكانه ويلتقي على بابه الله والدهر السحيق فيما البحّار هو فاوست العصر الحديث وربما كل العصور. أنت تعرف أني مقيم في الوطن (دمشق و بيروت). أسافر وأبحر كثيراً ولكنني أعود. لذلك ليس لدي إيثاكا تنتظرني، وإذا استخدمتُ تعبير فرويد أقول أيضاً لا أريد بالتأكيد العودة إلى الرحم الأول حيث السكينة والسلام. ليس هذا هدفي أو ما أطمح إليه أو أريده. لذا لا “أحنّ إلى خبز أمي” لأنني قطعت حبل السرة منذ زمن طويل كما قتلت آباء السماء والأرض جميعاً في داخلي لحظة الرشد والنضج والرجولة والاستقلال. ما يهمني هو الإسهام في الثقافة المعاصرة وبخاصة الثقافة العربية التي أريد لها أن تكون ثقافة حية، ثقافة تجدّد نفسها وتعيد قراءة ماضيها وتستشرف المستقبل وتحمل العلم الحديث والفكر الفلسفي الذي نجم عنه على محمل الجدّ وتقيم وزناً للعقل النقدي والبحثي وللتقدم أيضاً. هذه هي إيثاكا بالنسبة لي. إذا لم تحصل في العالم العربي محاولة قوية وسريعة وجادة لإنتاج معرفة علمية في العلوم الأساسية وتفرعاتها، فسيكون من الصعب على الثقافة العربية في القرن الواحد والعشرين أن تكون فاعلة حقاً أو مؤثّرة ومُشعّة إلى خارج محيطها الضيق وأن تكون مُحترمة من الثقافات الأخرى التي تجد مركز قوتها في إنتاج المعرفة العلمية. إن ما أقصده هنا هي العلوم الأساسية والعلوم الدقيقة وليس فقط العلوم الاجتماعية والإنسانية كعلم الاجتماع والأدب. ولا بد أنك تلاحظ أن هذا الرأي مرتبط ببعض الأطروحات التي كنتُ قد قدمتها في كتابي “دفاعاً عن المادية والتاريخ”، أي مركزية الثورة العلمية في القرن السابع عشر وما نتج عنها من إعادة الفلسفة ترتيب نفسها وقراءة نفسها على ضوء النتائج التي جاءت بها تلك الثورة. وبما أن العالم الإسلامي ومعه العالم العربي لم ينتجا أية معرفة علمية تذكر منذ قرون فإن احتمالات تجاوز الظلامية أو فتح مستقبل مقبول لثقافة نقدية أو عقلانية عربية مُشعّة تصبح أضعف بكثير مما نعتقد. واضح من أسئلتك الفاحصة أنك أنت أيضاً تقوم بإعادة قراءة تجربتك الماضية نقدياً وبتصفية حساباتك مع وعيك السابق ومع قسم الفلسفة في جامعة دمشق ومع أساتذتك هناك بما فيهم صادق العظم، وهذا شيء جميل ومتقدم ودليل نضج وأنا أقدره كثيراً وأدعو إلى المزيد منه، لأنه بلا عمليات المراجعة هذه لا يوجد تقدم فكري أو تراكم معرفي أو ثراء ثقافي، بل مجرد إعادة و تكرار واجترار.
أما بالنسبة إلى الجانب الآخر من سؤالك أعتقد أنك تدرك تماماً أن حياة البعد الواحد ليست لي أو للبحّار، وبلا نساء كاليبسو تشحب الأبعاد الأخرى كلها وتضمر، كما أن التعامل مع مفارقة الاشتداد و الامتداد هو بمعنى ما تجربة العمر على هذا المستوى بحلوها ومرِّها بوهجها وخيباتها بعد تقاطع خطوط الحياة المتوازية وقبلها —إنها الحياة.
هل تريد أن تقول كلمة أخيرة عن الحُب؟ هل لديك شيء تضيفه لما قلته في السابق عن هذا الموضوع؟
ما زلتُ أتمتع به رغم تقدّمي في السن. من يعرف الحب لا يحتاج أن يقرأ عنه مع أن القراءة ستزيده ثراء وعمقاً، أما من لا يعرفه فلن تساعده قراءات الدنيا كلها.
موقع الآوان