ما هو ديننا يا أبي ….؟
محمود عيسى
نهض باكراً وارتدى رداءه الأزرق وبنطاله الكحلي … وثبّت أقدامه في النعل, ثم وضع حقيبته الزرقاء علىظهره وأخذ ينط منادياً : ” لننطلق “… استقلينا سيرة أجرة, فبين منزلنا والمدرسة مسافة, وخوفاً من التأخر…
كنا الأربعة .. أنا وأمه وأخوه الصغير … الأربعة تغمرنا اللهفة والصمت … الخوف والفرح….
إلى المدرسة …
إن رعايتنا, ورعاية أمه التي أمتدّت 6 سنوات ستنتهي … وقد انتهت … تملّكها الارتعاش وهي تلتقط الصورة التذكارية من هاتفها المحمول …فالأمومة من الأشياء السهلة لقلب الأم كالطبيعة المثمرة التي لا تنفذ, كما هي عناصر الحياة.
تذكّرت حينها رسالة من ” رينيه إلى لويز ” في كتاب بلزاك, حيث تصف فيها ” رينيه ” اليوم الأول لابنها “أرمان” تقول في رسالتها : “فالتعليم العام يحصد زهرات هذه الطفولة المباركة في كل ساعة, يغيّر من طبيعة هذه النِعم العذبة وهذه البراءات المعبودة “.
أتابع المشهد مع ابني الأصغر … ودمعة ” الجيوكندة ” تنهمر من أمه … وكلما تقدم ابني خطوة نحو الرتل, أحسست بابتعاده عني … وكأنّ أيدي أمسكت به وأثقلت كاهله الصغير بالشعارات … وارتدى طوقاً لعنقه … أمام ناظري .
كان اليوم الأول في مدرسته فارقاً له ولنا, كما لآلاف الأسر السورية التي تدخل هذه التجربة للمرة الأولى.
كل ذلك كان عادياً ومتوقعاً … يطاول جميع أطفال المدارس.
عند انتهاء الدوام كان العديد من الأمهات ينتظرن خروج أطفالهن, وكنت معهنّ منتظراً وأستمع إلى زقزقة العصافير الحبيسة. وقبالة الباب الحديدي الذي انفتح, أخذت الأمهات تبحث عن أولادهن. أتابع موج الأطفال الأزرق … وأتفحص الوجوه الصغيرة المتشابهة الآتية … وفي داخلي خوف من أن أضيّع ابني …
خرج راكضاً نحونا أنا وأخوه, ينط فرحاً … لم يقف لأطبع قبلة … أمسك بي وقال : ما هو ديننا يا أبي ؟ !!!
كانت الصفعة لا القبلة …
حاولت الالتفاف عليها …
لكنه ألحّ في سؤاله … هل نحن ….. أم نحن … ؟!
وفتح حقيبته المليئة باثني عشر كتاباً, وأخرج كتاب التربية الدينية, مرحلة التعليم الأساسي ـ دفتر التلميذ ـ الفصل الأول للعام 2009 ـ 2010 م طبع لأول مرة..!
في خطوة غير مسبوقة لإقحام مادة الدّين في المنهاج الدراسي الرسمي من الصف الأول … فهل تلاميذ الصف الأول قادرون على وعي هويتهم الدينية …؟
وهل ينسى ابني وأقرانه أنهم مختلفون …؟ وأن هناك شيء, ايّاً كان, يمنع من وحدتهم وفي يومهم الأول من المدرسة؟
هل هي نعمة أو نقمة أن ابني قد اكتشف بأن زميله في نفس المقعد مختلف عنه ” دينيّاً ” واستلم كتاباً آخر … وانفصلا في درس الدين …؟! وهل تقف المسألة عند هذا الحد … أم تنقل إلى ما بعدها …؟!!
هل هي المساواة التي انكسرت في أذهانهم وعلى مقاعد دراستهم؟ ألا يؤدي ذلك إلى انخفاض حس المساواة وبالتالي المواطنة ونمو إحساسات أخرى… وبروز الانتماءات الأخرى ….؟
ومن جهة أخرى ندين استخدام مصطلح ” الكونات ” السياسي إذا استخدمه أحد ما بالإشارة إلى الساحات المجاورة…
فما الجدوى من إقحام الدين في أذهان التلاميذ الغضّة؟
المدرسة مشروع حلم … وحقل بداية … وفي البداية يزدهر الحلم والأمل … بشق طريق جديدة … عكس النهاية إذا لم تكن بداية لمشروع آخر أو تجاوز النهاية إلى بداية جديدة.
فهل أُجهض مشروع الحلم ووصل إلى نهايته ..؟
بالتأكيد لا أقصد من تناولي لهذه المسألة المساس بالدّين إطلاقاَ, فالحريات الدينيّة تأتي في طليعة الحريات العامة, لكن هل يمتلك الطفل في سن السادسة, وهو غير مميّز بالشرع وبالقانون, المقدرة على وعي هويته الدّينيّة, غير المتناقضة بالتأكيد مع مبدأ المواطنة إلا في معظم الدساتير العربية التي لا تضع المواطنين في بلدانها على مسافة واحدة؟ فبدل السعي نحو بناء دولة القانون, التي يكون فيها الإنسان مواطناً ويتساوى الجميع فيها بالحقوق والواجبات, دون أي تمييز بينهم على أساس كان … نزرع في أذهانهم اللامساواة والاختلاف ليس بوصفه رحمة.
وتمارس الأكثرية والأقلية, في دروس الدّين, وتغيب في الحقول الفعلية لها, كالمجلس النيابي, رغم أنه مكانها, وتتهرب الدولة من دورها في إلغاء الفوارق وتترك الانتماءات الدّينية في حقل الخيارات الحرة لجميع أفراد المجتمع!
من المهم, ألا يكون هناك إحساس بالانتماء إلى أقلية, أيّاً كانت هذه الأقلية, لاعتبارها تفقد بعضاً من حقوقها لأنها أقلية تحمل هوية ما.
خاص – صفحات سورية –
جميل جدّا ً .. مازلت حتى الآن اذكر صدمتي الأولى بالأديان ايضا ً في المدرسة ..
تحياتي