لبنان بحاجة إلى يسار
فواز طرابلسي
الاحتفال بالذكرى الخامسة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني ليس بالحدث العابر. ففي الاحتفال بأقدم حزب لبناني احتفالٌ بلبنان الذي لا يكبر الحزب بأكثر من أربع سنوات، كما أشار الأمين العام للحزب خالد حدادة في حديثه عن التداخل العضوي بين أقدم حزب لبناني وبين حياة الوطن بمختلف جوانبها.
على أن الاحتفال بعيد ميلاد هذا الشيخ ينطوي على مفارقتين: الأولى أن الحزب الشيوعي هو الآن حزب يطغى على عضويته عنصر الشباب.
والمفارقة الثانية هي أن الحزب يحتفل بذكرى تأسيسه والبلد أحوج ما يكون إلى يسار متجدد ينضم إلى أطيافه الفكرية والسياسية. والأمران كلاهما يشد وجهة المستقبل.
لبنان يحتاج إلى يسار لا لشيء إلا لأن قواه السياسية تزداد جنوحاً نحو اليمين، أي نحو المحافظة على الأوضاع القائمة والقبول بالتمايزات والفروقات بين اللبنانيين وكأنها معطى من معطيات الطبيعة أو الإرادة الإلهية أو الفرادة اللبنانية.
ولبنان يحتاج إلى يسار لوجود سياسة اقتصادية تنمّي التمايز الاجتماعي والمناطقي وتزيد الارتهان للخارج، وهي، رغم كل شيء، ليست تلقى البديل الجدي من طرف المعارضة.
ولبنان بحاجة إلى يسار تحديداً لكي يعيد التوازن إلى مروحة أطيافه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
ويجوز الزعم أن اليسار قادر على أن يقدّم جديداً هنا.
اليسار قادر، إن شاء واستطاع، على تجاوز أحادية الجانب والأولويات الزائفة في الأهداف والمهام والوسائل التي قام عليها الاستقطاب الاعتصابي الراهن بين المعسكرين.
وهو قادر أن يسهم بوجهة نظر تقول إن تنظيم التعبئة ضد العدو الإسرائيلي، والدفاع عن سلاح المقاومة ورسم استراتيجية للدفاع الوطني، لا تلغي ضرورة الالتفات إلى بلورة تصوّر جديد للعلاقات اللبنانية السورية يتجاوز منطقي القطيعة والتبعية ويذهب وجهة استكشاف المصالح المشتركة في إطار من الاحترام المتبادل لسيادة واستقلال البلدين.
وفي مجال السيادة والاستقلال، اليسار قادر، إن شاء واستطاع، أن يكون الداعي الأشد إلحاحاً إلى تخفيف الارتهان الاقتصادي للخارج، بدعم القطاعات الإنتاجية، وتخليصها من هيمنة حزب المستوردين والمصرفيين، لكي تشكّل القاعدة المادية التي يحقق بواسطتها الوطن الصغير المقدار الكافي والممكن من السيادة والاستقلال الوطنيين والسياسيين.
واليسار قادر، إن شاء واستطاع، أن يبلور نظرة جديدة لتجاوز المسألة الطائفية بما هي مهمة ديموقراطية بالدرجة الأولى تؤسس للمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، فيما هم، في النظام الطائفي، رعايا غير متساوين في الحقوق والواجبات والتمثيل السياسي والقانون.
واليسار قادر، إن شاء واستطاع، على ربط المسألة الطوائفية بمضمونها الاجتماعي، من طريق العدالة الاجتماعية: التوازن في التنمية المناطقية والتوزيع العادل للثروة ولخدمات الدولة على الجميع. واليسار هو الذي يتوجه للجميع قائلاً: وفّروا للمواطنين اللبنانيين العمل والخبز والصحة والسكن والماء والكهرباء والضمان الصحي والتعليم الديموقراطي والتقاعد ودلّونا على ما الذي يتبقى من الانقسامات والنزاعات الطوائفية.
واليسار قادر، إن شاء واستطاع، أن يزيل التشويه الذي يلحقه الحداثيون والإسلاميون على حد سواء بالعلمانية بتصويرها نقيضاً من التديّن أو ممحاة للهويات. فيعيد الاعتبار للعلمانية بما هي الحياد الديني للدولة ـ للدولة لا للمجتمع! ـ من خلال إعطاء اللبنانيين الحق الديموقراطي في أن يختاروا قانون الأحوال الشخصية الذي يريدون، مذهبياً كان أم مدنياً.
من هنا فإن ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني مناسبة استثنائية لا لمجرد التذكير بالمكان الذي يتعيّن على اليسار أن يملأه في حياة البلد، وإنما لطرح السؤال عن استعداده للارتقاء إلى مستوى هذا الدور وتلك المهمات.
شاء الحزب الشيوعي أن يلوّن ذكراه باللون الأحمر من خلال شعار: «غيِّر بالأحمر». التغيير بالأحمر؟ شعار دافئ وموحٍ وجميل، وهو فوق ذلك إعلان نوايا ضاج بالأمل. ولكن لن يأتي التغيير بالأحمر دون الانتهاء من خلط الألوان وبناء الشخصية المستقلة للأحمر ورؤياه المتكاملة وقواه الذاتية واستعادته ثقته بنفسه.
وهذا يتطلّب استجماع اليسار لمصادر قوته وفي مقدمتها: سلاح النظرية. وهو السلاح المجهّز لا للعنف وإنما للمعرفة. ويملك اليسار أغنى نظرية في معرفة النظام الرأسمالي الذي يحكم عالمنا من أجل تغييره.
والتغيير بالمعرفة يعني بلورة الهوية والرؤية. تزداد الحاجة إلى هذه وتلك في لحظات الهامشية والضعف. بدلاً من العكس وهو ما درج عليه اليسار عموماً والحزب الشيوعي خصوصاً: التنازل في النظرية والأهداف، ما يفقد الهوية والموقع الاجتماعي والشرعية الشعبية. من حق اليسار والحزب الشيوعي، بل من واجبهما، استعادة المشروع اليساري كاملاً: مشروع تجاوز الرأسمالية نحو الاشتراكية بما هي نظام يبني نمط حياة جديداً وإنساناً جديداً. وللذين يقولون بأن هذا تجريب للمجرَّب يجيب المسرحي الألماني الكبير برتولد بريشت: مات بشر كثيرون وهم يحاولون الطيران. لكن هذا لم يمنع الإنسان من أن يطير في نهاية المطاف!
هذه طوبى؟ نعم. والطوبى هي محرّك التاريخ. هناك من يدعو إلى الطوبى الخلاصية الانتظارية، والوعود بالجنات في السماء. يقدّم اليسار طوبى الممكن. الجنة على الأرض. وقد باتت ممكنة لأن عالمنا ينتج ما يسد الحاجات الأساسية لجميع سكانه لولا التوزيع المتفاوت للثروات والموارد عن طريق مؤسسة الملكية الفردية وآليات السوق واستغلال الإنسان للإنسان. والطوبى هكذا تصوّر للمستحيل من أجل تحقيق الممكن.
و«غيِّر بالأحمر» يستدعي بناء قوى التغيير. أي تمثيل الفئات المهمّشة والمفقرة والمنتجة والشباب والنساء والحركات الاجتماعية والعمل على توحيد تحركاتها ونضالاتها وابتكار وسائل عمل جديدة. تكمن قوة الخصم في المال والقوة. وقوة اليسار في المعرفة والناس.
«غيِّر بالأحمر» يفترض استخلاص الدروس من التجارب. وأولى الدروس من التجارب الأخيرة: التخلّص من الأحادية البرلمانية. تزداد أهمية هذا الدرس إذا تذكّرنا أن الحزب مهووس، منذ اتفاق الطائف، بفكرة تكاد أن تكون وحيدة: إيصال مرشح له إلى الندوة البرلمانية بما هو مقياس رئيسي للإنجاز السياسي. يأتي الاحتفال بعيد الحزب على اثر انتخابات نيابية مثلت أسوأ أداء برلماني عرفه الحزب في تاريخه. لا معنى للوم قانون الستين أو النظام الطائفي على تلك النتائج. الأحرى قراءة الأداء البائس حيث صوّت إثنا عشر ألف ناخب بالورقة البيضاء، من غير ما حملة تدعو إليها، وأقل من ثمانية آلاف لمرشحي الحزب. هذا التصويت بمثابة إنذار للحزب حول ضعف الهوية واللون والرؤيا والسياسات. إنها رسالة تقول إن الحزب، الذي لم تصوّت له أكثرية أعضائه ومناصريه، ضعيف اللون، لا يقدّم اعتراضاً كافياً على السائد سياسياً ولا يحمل التمايز الكافي عن الكتلتين المتنافستين، خصوصاً أنه قرّر أن يخوض المعركة منفرداً بعد أن رفضت المعارضة أخذ مرشحيه الرئيسيَين على لوائحها.
دعوة لترميم اليسار؟ الأحرى لإعادة تأسيسه. أو البدء من البدايات. والبدء من البداية يعني المزج الخلاّق بين حكمة السنوات المتراكمة وحماسة البدايات!
السفير