الحدود
سليمان تقي الدين
منذ انهيار جدار برلين بين الألمانيتين (1989) اهتزت وتغيّرت الحدود بين الكثير من دول العالم. انفصلت دول عدة عن الاتحاد السوفياتي. تفكّكت يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. نقلت أميركا حدودها الأمنية إلى أوروبا الشرقية والشرق الأوسط. أزالت أميركا دولتين من الوجود باحتلالهما ونشر الفوضى (أفغانستان والعراق). أقام الكيان الصهيوني جدار الفصل العنصري في جزء من ما بقي من فلسطين. أمن الحدود صار عنواناً لكثير من النزاعات والقضايا بين سوريا والعراق وسوريا ولبنان، وتركيا والعراق وسوريا، وأفغانستان وإيران وباكستان والمملكة السعودية واليمن.
تكبر مسألة الحدود مع تصاعد الأزمات السياسية والأمنية داخل الدول وفي ما بينها. وقّعت سوريا اتفاقاً مع تركيا على فتح الحدود وإلغاء تأشيرة الدخول. تحاول إسرائيل حراسة حدودها الأمنية بدرع صاروخية، وأعلنت المملكة السعودية عن حزام حدودي أمني حديدي مع اليمن. استنفرت إيران حرسها الثوري على حدود باكستان استعداداً لملاحقة الإرهابيين.
تكلّلت الوحدة الأوروبية النامية منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي بإزالة الحدود بين دولها، وبعد نصف قرن على الاستقلال السياسي ترتفع الحدود سميكة بين الدول العربية وتتحوّل إلى مطالب وطنية. لكن بعض الحدود لن يصمد طويلاً أمام الحروب الأهلية فقد تشطّر العراق ويتشطّر اليمن والسودان وفلسطين ولبنان بين الطوائف والمذاهب والقبائل إن لم يكن لمشاريع دويلات مكتملة التكوين فلانقسامات لا تجد حلولاً في المدى المنظور.
المسألة هنا ليست رمزية. بين الحدود الكيانية والسيادية وبين التبعية أو ضعف الدول هناك علاقة جدلية. لم تنجز الدول النامية عندنا نموها المتوازن الذي يدعم شرعيتها، وما زلنا نعيش مفارقات بين طموحات نووية أو أمنية كما في النموذجين الباكســـتاني والإيراني وبين المشكلات الاجتماعية والفقر. ويكاد يتكرّر النموذج الســـوفياتي القديم عن عسكرة النظام وسباق التسلح مع مشكلات اقتصادية وتراجع في مستويات الحلول لقضايا الإنسان المعاصر.
يعيد العالم تكرار تجاربه السابقة على نحو مأساوي. النظام الإمبراطوري الأميركي يتوسل ويستخدم الحروب لكي يجني الثروات والمكاسب. بعض دول العالم الثالث تتعسكر تحت شعارات إيديولوجية لتأكيد نفوذها الإقليمي، أو العكس، تسعى إلى نفوذ إقليمي تحت شعارات إيديولوجية تفتح لها تحديات أمنية وسياسية.
الاتهامات المتبادلة بين دول المنطقة عن مسؤولية «الإرهاب» والفوضى الأمنية. في العالم العربي شكوى وقلق من العسكرة الإيرانية وضخ النفوذ السياسي في ثوب مذهبي. في إيران اتهامات للدول العربية بالتخاذل والتعاون مع المشروع الأميركي وفتح قنوات الاتصال مع إسرائيل. ثمة مفارقات لا تنتهي من السياسات هنا وهناك، بين تصعيد المواجهة للتفاوض مع الأميركيين كما في المشروع الإيراني، وبين تصعيد المخاوف العربية من إيران لحظة طي سياسات المواجهة العربية مع إسرائيل، ولو سياسياً. وفي مكان ما يتم الالتقاء الموضـــوعي رغم التوتـــر الإيديولوجي، وقد يقود التشدد، مرات، في مواضيع غير أساسية إلى تسويات ظالمة أو مهينة أو تفوح منها رائحة المصالح الفئوية.