الدفع بالأزمة إلى المجهول
سليمان تقي الدين
فشل الحوار الوطني في «مؤتمر الدوحة» ينذر بمضاعفات خطيرة. لا الهدنة يمكن أن تبقى هدنة، ولا الفراغ المنظّم يمكن أن يبقى فراغاً منظماً. إذا استحال التفاهم على حكومة وحدة وطنية أو قانون انتخاب متوازن، فذلك يعني أن هناك من يراهن مجدداً على متغيرات في التوازن السياسي الحالي ويسعى إلى تحقيقها. لم تحاول المعارضة الإفادة من الصدمة التي أحدثتها الانتفاضة على قرارات الحكومة وأظهرت من خلالها القدرة على تغيير الأوضاع. لقد فتحت المعارضة خيارات لم تكن متاحة من قبل كأن تقبل بأحد أمرين، حكومة انتقالية حيادية أو قانون انتخاب متوازن. بل هي أظهرت مرونة فائقة في قبول مشروع الهيئة الوطنية لإعداد قانون الانتخاب وهو مشروع ينطوي على تسوية تاريخية وطنية تعبّر عن الحساسيات والاتجاهات المختلفة. إن تعطيل الحل السياسي للأزمة بالإصرار على منطق الغلبة الذي لا يستند إلى معطيات ووقائع يوحي وكأن هذا الفريق يستهين باحتمالات تفكك الوحدة الوطنية واندلاع النزاعات الأهلية المسلحة وربما يراهن مجدداً على عوامل خارجية تعيد ترتيب الأوضاع والتوازنات. هذا الموقف ليس مخيباً لآمال اللبنانيين ومحبطاً لتطلعاتهم بل هو يدفعهم حتماً إلى البحث عن خيارات خارج مشروع الدولة. فلم يسبق لفريق لبناني أن اختطف السلطة على هذا النحو وكابر في إقفالها على مشاركة الآخرين بذريعة أنه الجهة الوطنية الوحيدة التي تمثلهم وتعبّر عن طموحاتهم.
لقد كشف «مؤتمر الدوحة» عن نزعة في التسلط السياسي هي صنو الدكتاتوريات التي لا تحسب حساباً لإرادة الجمهور ولا للمعايير التي تفرض أن تكون القوانين أساساً للشرعية والمشروعية بما تتضمنه من عمومية ومساواة. لقد جاهد فريق السلطة أن يقتطع لنفسه دوائر انتخابية ملائمة لنفوذه بدل أن يتصرف بروح وطنية تصحح الخلل السياسي الذي كان أحد أسباب الأزمة وعنواناً بارزاً فيها.
وما كان يحكى عن قوانين عهد الوصاية صار مزاحاً ثقيلاً أمام الإصرار على تجديد وظيفة تلك القوانين والتمسك بها، فضلاً عن الحديث الممجوج عن الطائف الذي جرى إسقاطه بذريعة الشكوى من بعض تطبيقاته المشوّهة.
لكن مجمل السلوك السياسي لهذا الفريق في التفاوض ينحو إلى مقايضة المسائل الوطنية الأساسية بمطلب الاحتفاظ بالسلطة. فهو أقحم سلاح المقاومة على جدول أعمال محدد هدفه استعادة مؤسسات الدولة وتأمين الثقة بين اللبنانيين للتصدي للمشكلات الوطنية الأخرى. فلم يدرك هذا الفريق بعد أن القضايا الوطنية يجب أن تعالج في الحوار داخل سلطة موثوقة شرعية منبثقة عن إرادة لبنانية حرة. والحال أن الأزمة كانت لأن هذه السلطة جاءت في ظروف استثنائية وبناء لقانون لا يؤمن صحة التمثيل واستغلت أوضاعاً عاطفية يتثبت يوماً بعد يوم أنها كانت وسيلة لمشروع يأخذ البلاد من وصاية إلى وصاية أخرى. ولم يعد مفهوماً بعد ثلاث سنوات من الأزمة التي عمّقت مشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية ونشرت أجواء القلق وانعدام الثقة وشارفت على الانزلاق في حرب أهلية يتعاظم خطرها، كيف أن هذه السلطة وهذا الفريق السياسي لا يقبلان تسوية مشرفة تعيد للدولة دورها ووظيفتها وترفع النزاع من الشارع إلى المؤسسات وتطلق المنافسة الديموقراطية وفق فرص متكافئة للجميع.
لم يكن موقف المعارضة وهي تفاوض تحت سقف قانون الانتخاب على أساس الأقضية في الموقع السليم وفي الاتجاه الصحيح لمعالجة الأزمة. لقد فوّتت المعارضة فرصة لأن تكون فريقاً إصلاحياً يتطلع إلى إحداث تغيير فعلي في النظام الانتخابي يفتح آفاق التغيير في النظام الطائفي المغلق. كان على المعارضة أصلاً أن تتبنى مشروعاً انتخابياً يغيّر قواعد اللعبة التي أرساها النظام الأكثري وما يزال يؤديها في مصلحة الإقطاعيات الطائـــفية. وحسناً فعلت المعارضة عندما بادرت مـــتأخرة لتبني اقتراح الهيئة الوطنية لقانون الانتخاب بصيغته المركّبة، وما يمكن أن يحــظى بتأييد في أوساط شعــبية خارج جبهتي النزاع التقليديتين. إن التمـسك بنظام التمثــيل النسبي ولو جزئياً يكسر حدة التطاحن على تقسيم الدوائر وفـــق التجمعات الطائفية ويعطي للمنافسة السياسية مصداقــية أكـبر وعــدالة أكـثر ويـحد من احتــمالات الإقصاء والتهميش.
على أي حال ما رشح عن مفاوضات «مؤتمر الدوحة» لا ينبئ بأن البلاد بصدد المنافسة الديموقراطية والحلول السياسية السلمية. يبدو أننا مدعوون لاختبارات قوة جديدة. لم تعد الولايات المتحدة الأميركية على ما يبدو مهتمة فعلاً بنشر الديموقراطية أو تنميتها. كان الحوار في «الدوحة» حول تطوير الديموقراطية اللبنانية، وكانت الولايات المتحدة تصـوّب على «حــزب الله» الذي تضعه في خانة «الإرهاب». ومن البديهي ألا تشجع أصدقاءها في لبنان على قبوله فريقاً في النادي الديموقراطي. ولا ندري عن أي مشروع وطني يمكن أن يتحدث عنه فرقاء الحوار إذا كان مستقبل البلاد صار مجهولاً إلى هذا الحد؟!
السفير