أوباما “فرصة العرب” أم أوباما “ألعوبة المؤسسة”؟
محمد علي الأتاسي
وقع صدفة بين يدي، قبل فترة، كتاب لباراك أوباما عنوانه “أحلام من أبي: قصة ارث وعرق”. بدأت متثاقلا في تصفحه ولكنني لم أتركه إلا بعد أن أتيت بنهم ومتعة على كامل صفحاته الخمسمئة. أهمية كتاب “أحلام من أبي” مقارنة بكتب أوباما اللاحقة، لا تنبع فقط من انه بمثابة سيرة ذاتية مكتوبة بأسلوب شيق وذكاء في التحليل وصدق مع الذات، بل تأتي أساساً من كون مؤلفه وضعه وهو لم يزل شابا جامعيا طموحا، تبوأ لتوه رئاسة تحرير مجلة هارفرد القانونية العريقة في العام 1995، كأول رئيس تحرير اسود البشرة لهذه المجلة، وقبل أن يخطو خطواته المتسارعة في عالم السياسية الأميركية.
الناشر، الذي أعجب بصعود أوباما داخل المؤسسة الجامعية العريقة، طلب منه أن يضع كتابا يلخص فيه تجربته الغنية بين الثقافات والأعراق، كسليل أسرة متعددة العِرق وكمنظم اجتماعي في أحياء السود في شيكاغو. فإذا بالكتاب يتحول سيرة ذاتية شيقة، وواحدا من أكثر الكتب مبيعا في أميركا، في أعقاب دخول أوباما عالم السياسية وتدرجه في المناصب من عضو شاب في مجلس الشيوخ في ولاية إيلينوي لثلاث دورات متوالية، الى عضو في مجلس الشيوخ الاميركي عن الولاية نفسها ابتداء من العام 2004، الى مرشح للرئاسة الأميركية ومن ثم يصبح رئيساً. طبعا هذا لا يعني أن أوباما في زمن وضع كتابه هذا لم تكن لديه شبهة طموح سياسي كبير، بل على العكس كان واضحا أن مؤلف الكتاب يرى لنفسه دورا سياسيا عليه أن يؤديه، لكنه بالتأكيد لم يكن يتصور يوما أنه سيتبوأ سدة الرئاسة الأولى في أميركا.
من هنا فإن أهمية الكتاب تأتي من كونه يروي من دون مجاملات وبأسلوب شفاف وشيق مسار عائلة متعددة العرق والجنسية وقصة كفاح وصعود رجل اسود في مجتمع تغلب عليه التفرقة العنصرية، وبحثه الدؤوب عن جذوره الأفريقية وعن أبيه، المثقف الجامعي والمسلم الكيني، الغائب – الحاضر الأكبر في حياته.
أهمية الكتاب بالنسبة الى قارئ من منطقتنا، أنه يبين بما لا يدع مجالا للشك، أن العالم الإسلامي بديانته وثقافاته المتعددة لم يكن عالما خارجيا بالنسبة لباراك أوباما. فهناك السنوات الأربع التي قضاها في اندونيسيا برفقة والدته وزوجها المسلم الاندونيسي، حيث تعلم اللغة المحلية وحضر دروس الديانة الإسلامية في المدرسة. وهناك زميله الطالب الباكستاني الذي تقاسم معه المسكن في نيويورك. وهناك زياراته لكينيا وأخوته الكينيين غير الاشقاء الذين يدينون بالإسلام وبعضهم لا يشرب الكحول ولا يأكل لحم الخنزير. وهناك بعض الناشطين السود المسلمين الذين تعاون معهم أثناء عمله كمنظم اجتماعي في شيكاغو. وهناك والده الموظف الحكومي بنشأته المسلمة وأسلوب حياته اللاديني وجنازته التي أرادتها الحكومة الكينية جنازة مسيحية، في حين فرضتها القبيلة جنازة إسلامية. وهناك أولا وقبل كل شيء، وكما يروي في كتابه، اسمه الثلاثي المسلم باراك (أي مبارك) حسين أوباما الذي لطالما حمله معه وعانى بسببه من العنصرية والخوف من الإسلام، حتى من قبل بعض السود المسيحيين. هذا الاسم الثلاثي الذي سيصرّ أن يلقي به خطاب القسم الرئاسي في واشنطن.
لكن ماذا يعني هذا الكتاب بالنسبة لحقيقة مواقف الرئيس الأميركي الحالية من منطقتنا؟ ربما لا يعني الشيء الكثير، بسبب السنين التي تفصلنا عن زمن تأليفه في العام 1995، يوم كان أوباما لا يتجاوز 33 عاما. هذه السنين الطويلة التي إذا لم تغيّر وحدها بالرجل فإن الحياة السياسية والمناصب التي تقلدها كفيلة وحدها بتغيير آرائه وقلبها رأسا على عقب. مع ذلك فإننا سنحاول أن نبين في السطور اللاحقة أن شيئاً من أوباما مؤلف الكتاب موجود في أوباما رجل السلطة، من دون أن يعني هذا أن بإمكان الرجل أن ينقلب على منطق المؤسسة التي صنعته رئيسا، أو أن يخل بتوازنات القوى التي تتربص به. لكنه مع ذلك يبقى في حدود الإمكانات المتاحة أمامه مؤسسيا وضمن توازنات القوى التي تتحكم به، فرصة حقيقية للعرب لم يتمكنوا بعد من استخدامها!
لقد مضى على تبوؤ الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما سدة السلطة في البيت الأبيض ما يزيد على تسعة أشهر، لم تتوقف خلالها بعض الأصوات العربية عن التشكيك في صدق نيات الرئيس الجديد تجاه العالمين العربي والإسلامي، انطلاقا من المنطق القائل انه نسخة ديموقراطية ملطفة من جورج بوش، الرئيس المحافظ الذي سبقه، لا يختلف عنه بالنسبة الى قضايا الشرق الأوسط سوى بالقشور وإطلاق الوعود وتسويق الكلام المعسول، في الوقت الذي تبقى فيه سياسية الولايات المتحدة الأميركية تجاه منطقتنا وتحديدا تجاه إسرائيل، هي نفسها لجهة الالتزام التام بمصالح إسرائيل وأمنها القومي وتفوقها العسكري.
يمكن وجهة النظر هذه، أن تؤخذ على محمل الجد إذا كان المقصود منها الإشارة إلى الاستمرارية (بما فيها التغيير ضمن الاستمرارية) التي تغلب على سياسات الدول الكبرى الخارجية، وبالأخص منها الإمبراطورية الأميركية، والتي هي في النهاية حصيلة توازنات قوى وتقاطع مصالح وأطماع جيوبوليتيكية، لا تغيرها بسهولة (ولكن تغيرها أحيانا) المعطيات الأخلاقية ومبادئ العدالة وتوجهات الرأي العام وتبدل القادة وتغير الغالبية البرلمانية.
لكن المشكلة مع وجهات النظر هذه، تكمن في أنها تنطلق بخصوص أوباما من واحد من افتراضين اثنين كلاهما مبني على خطأ في التحليل السياسي. الأول يجعل الرئيس الأميركي المنتخب ألعوبة في يد المؤسسة الحاكمة ويلغي بالكامل قدرته على إعادة النظر في أي من التوجهات السياسية الأميركية في منطقتنا، فيما الثاني يفترض أن أوباما يملك صلاحيات حقيقية لمراجعة السياسية الخارجية الأميركية ومواقفها المنحازة تجاه إسرائيل، لكنه لا يقوم بفعل ذلك، لكونه متعاطفاً ضمنياً مع إسرائيل وخاضعاً لضغوطات اللوبي المؤيد لها في واشنطن.
ما تتجاهله هذه التحليلات هو أن الإمبراطورية الأميركية عانت اخيرا من مآزق خارجية وداخلية كبيرة، لم تزدها حقبتا جورج بوش الرئاستان سوى تفاقماً، سواء لجهة الغرق في وحول الحربين العراقية والأفغانية، أو لجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية على مقومات الاقتصاد الأميركي نفسه. من هنا فإن صعود أوباما السريع والفرص السانحة التي تمكن من اقتناصها في طريقه إلى البيت الأبيض، لا تعبر فقط عن كاريزما هذا الرجل ومواهبه، بل هي في جزء منها تعبير عن الحاجة الموضوعية للنظام الى التغيير وإن كان في حدود الخروج من عنق الزجاجة! لا بل أن عنق الزجاجة هذا يخص تحديدا منطقتنا. فمنذ أحداث 11 أيلول وما تلاها من أعمال إرهابية، ومن توتر متصاعد في العلاقات مع العالم الإسلامي، ومن فشل للمشروع الأميركي في العراق، ومن مغامرات عسكرية فاشلة لإسرائيل في كل من لبنان وغزة، هذه الأزمات المتفجرة تشير مجتمعة إلى أن هذا التغيير (أو حتى التجميل) يجب أن يطاول السياسات الأميركية في منطقتنا.
لا بل إنه يمكننا المجازفة بالقول إن أوباما كمنشأ وكسيرة ذاتية وكسيرورة سياسية وصولا إلى موقعه الحالي داخل النخبة الحاكمة، غير بعيد كلياً عن بعض التيارات في النخبة الأميركية الحاكمة التي باتت ترى أن أم المشاكل في المنطقة، كانت ولا تزال، القضية الفلسطينية، وأن عدم إيجاد حل عادل لها يمكنه في نهاية المطاف أن يضر بالكثير من المصالح الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
يكفي في هذا السياق أن نتأمل في الإشارات والرسائل التي بعث بها أوباما في اتجاه العالمين العربي والإسلامي بعد وصوله إلى الحكم وتعيينه جورج ميتشل بدلا من دنيس روس، الإسرائيلي الهوى، مبعوثا للشرق الأوسط. فمنذ مقابلته الصحافية الأولى كرئيس والتي خص بها قناة “العربية”، إلى خطابه أمام البرلمان التركي والذي ذكّر فيه بالجانب المسلم في سيرورته، إلى خطابه في جامعة القاهرة، والذي تجرأ فيه وقارن بشكل غير مباشر بين معاناة الفلسطينيين ومعاناة السود في أميركا وفي جنوب أفريقيا، إلى خطابه الأخير أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، الذي، وإن تكلم فيه عن دولة إسرائيل اليهودية، فإنه أعاد التأكيد على عدم شرعية المستوطنات وتحدث عن “دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتماسة ومتواصلة في امتدادها الذي ينهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967″، لم يتوقف باراك أوباما عن إبداء حسن النية والرغبة بالانفتاح على العالم العربي والإسلامي. صحيح أن هذه الإشارات بقيت في إطار المبادرات الرمزية والأقوال أكثر منها في إطار الأفعال، لكنها مع ذلك تشير في أي اتجاه ينظر باراك حسين أوباما. وإذا كان صحيحا أنه لم يستطع إلى اليوم، بخصوص القضية الفلسطينية، انتزاع أي تعهد من نتنياهو بتجميد الاستيطان والانخراط الجدي في محادثات الوضع النهائي، فإن لا شيء يثبت أن عملية عض الأصابع وشد الحبال بين الطرفين قد توقفت. لا بل إن كل الدلائل تشير إلى أن عملية الشد والجذب هذه، لا تزال مفتوحة ومستمرة بين الطرفين، في الحدود التي يسمح بها التحالف الإستراتيجي بينهما.
طبعا سيكون من السذاجة في ظل ميزان القوى الحالي، أن نتصور الولايات المتحدة الأميركية بقيادة باراك أوباما تصوت في مجلس الأمن لمصلحة قرار يدين صراحة إسرائيل لجرائمها في غزة، أو تقلص من شحنات الأسلحة المتطورة لإسرائيل وتعيد النظر في أسس التعاون العسكري والتكنولوجي بين الطرفين، أو توافق على إيقاع عقوبات اقتصادية أو مالية على الدولة العبرية إن هي لم توقف النشاطات الاستيطانية. لكننا سنكون أكثر سذاجة وتقاعساً، إن بقينا نحن العرب كالمتفرجين ولم نستفد من فرصة وجود باراك حسين أوباما في البيت الأبيض، للضغط على إدارته، بشتى السبل، لاتخاذ مواقف أقل انحيازا للجانب الإسرائيلي.
يكفي هنا، أن نسأل أنفسنا ماذا فعلت الدول العربية عموما، والقيادات الفلسطينية خصوصا، في مواجهة الزحف الإسرائيلي الجارف وبناء الجدار وقضم الأراضي وتوسيع المستوطنات؟ ماذا فعلت لتعديل ميزان القوى، ولو قليلا، لمصلحتنا؟ عندها سندرك أن المشكل الرئيسي فينا وليس في باراك حسين أوباما!
(كاتب سوري)
النهار