نصدق ليبرمان
ميشيل كيلو
قال وزير الخارجية “الإسرائيلي” إنه لا توجد إمكانية لتحقيق السلام مع الفلسطينيين في السنوات المقبلة. وهو صادق في ما قاله، رغم أن من سيحرجهم كلامه من ساسة العرب سيقولون، على جاري عادتهم، إنه يتكتك، أو يبعث برسائل كاذبة إلى العالم ليرفع ثمن القبول “الإسرائيلي” بالسلام، أو يناور ليضع حكومته أمام تصلب داخلي لا تستطيع التراجع عنه دون خسارة شعبيتها لصالح حزبه، أو يكذب ليظهر بمظهر الشخص الأكثر تمسكاً بمصالح “إسرائيل”، حيث لا تني الاتجاهات المتطرفة تزداد تطرفاً فيها، جاعلة من الصعوبة بمكان الرجوع عن سياسات الاحتلال والاستيطان، فمن الطبيعي أن يحاول وزير خارجيتها، بصفته من غلاة المتطرفين الأكثر تشدداً، تصعيد تحديها للعالم، قبل تبلور حل نهائي للمسألة الفلسطينية، بيد أمريكا المقتدرة.
كعادته، سيجد العقل السياسي العربي السائد مسوغات لكلام ليبرمان تحرفه عن قصده الأصلي، وتعتبره كلاماً عابراً مما يصدر عادة عن الصهاينة، يخفي مآرب تتصل إما بالصراعات الداخلية “الإسرائيلية”، أو بالسعي اليميني العنصري الصهيوني لإفشال سياسات الولايات المتحدة الجديدة في الموضوع الفلسطيني. وستحاول السياسات المعبرة عن هذا العقل أن تكرر هذه المرة أيضاً ما سبق لها أن فعلته مئات وآلاف المرات، حين نسبت مقاصد لأقوال وسياسات العدو تجافي مقاصدها الحقيقية، لتوهم رعاياها العرب أن ما يقال لا يستحق أن يؤخذ على محمل الجدية، ولا يستوجب تعديل أو تغيير سياسات العرب حيال فلسطين، وأن أمريكا ستدبر أمر من يتشدقون بأقوال متشددة من “الإسرائيليين”، وهم زمرة قليلة من المتطرفين، لا تقرر سياسات بلدها وليس لها غير تأثير جزئي ومحدود عليها، فلا يجوز تصديقها، وإلا دخلت سياساتنا في دائرة ردود أفعال تسيء إلى مصالحنا العليا، وفاتها خدمة قضايانا العادلة.
هل كان ليبرمان يكذب ويعبّر هذه المرة أيضاً عن سياسات حزبه المتطرف؟ وهل قال ما قاله لاعتبارات تتصل بصراعات داخلية فقط؟ أعتقد أن من الهبل تجاهل ما قال الوزير النازي أو اعتباره مجرد رأي شخصي لا يمثل سياسة “إسرائيل” الرسمية، ولا تعبر عن إجماع الأحزاب والمؤسسات الصهيونية، وتالياً عن إجماع وطني يتخطى أي تشكيل حزبي أو سياسي جزئي.
ليبرمان يقول الحقيقة، مثلما كان يقولها من قبل وايزمان وبن غوريون وشاريت وبيجن ودايان ورابين ونتنياهو وشارون وأولمرت، لكن العقل السياسي العربي السائد رفض دوماً تصديقهم، وانساق وراء وهم الأسباب الحزبية التي أملت تصريحاتهم، مع أن الوقائع كذبت استنتاجاته كل مرة، وبينت أن ما قاله هؤلاء اليوم صار غداً حقيقة الواقع “الإسرائيلي” والعربي. لكن الفهلوة العربية تواصلت، وتواصل بسببها اعتقاد سياسيينا أن حسابات “الإسرائيليين” هي نتاج اعتبارات ضيقة تشبه اعتباراتهم هم، وأنها تنصب جميعها، في ما وراء مظهرها الخارجي العام، على مصالحهم الشخصية، الخاصة والمباشرة، فلا يجوز أن نضفي عليها دلالات ومعاني تتجاوز حقيقتها،
وإلا وقعنا في كمائن مضللة، وعجزت أعيننا عن رؤية ما خلفها، فاستبدلنا جزئيتها بعمومية وهمية لا وجود لها في الواقع، واقترفنا أخطاء فادحة أضرت أفظع الضرر بنا.
عندما كان “الإسرائيليون” يقولون الحقيقة، توهم ساستنا أنهم يكذبون ويخادعون، وأن من الحكمة عدم تصديقهم. وعندما كانوا يكذبون، اعتقد ساستنا أنهم يقولون الحقيقة، وأن الحكمة تقتضي تصديقهم. وفي الحالتين استغفلنا أنفسنا، أو فاتنا فهم ما يحدث، ودفعنا ثمناً باهظاً بدا قليل الأهمية في نظرنا، نحن الذين نرى في محاسبة المسؤول فكرة غريبة عنا، نعدها مساً شنيعاً بكرامتنا الشخصية وعزتنا الوطنية.
ثمة، في ما يتصل بتصريح ليبرمان، فارق مهم بين ما يحدث اليوم وما كان يحدث بالأمس القريب. اليوم، لم تعد القضية الفلسطينية شأناً عربياً، لقد صارت قضية محض فلسطينية وحسب، أعفت الحكومات العربية من تصديق أو تكذيب الصهاينة أو من اتخاذ موقف من تصريحاتهم. المشكلة أن الفلسطينيين تبنوا موقف العرب وصاروا يتعاملون مع تصريحات الصهاينة باعتبارها جزئيات تتصل بمواقف حزبية داخلية، ولا تعبر عن حقيقة سياستهم ومراميها العملية، رغم أن نتائجها ملموسة يمكن رؤيتها في كل مكان من أرض فلسطين.
لا يصدق ساستنا ليبرمان، كي لا يفعلوا شيئاً من أجل فلسطين. لكن المواطن العربي يصدقه، ربما لكون مصالحه ليست من النوع الذي يتطلب تخليه عن عقله. يصدقه مواطننا العربي، الذي يرى انعكاسات ما قاله في الأراضي العربية المحتلة وتجاه شعب فلسطين. ويعتبرها بحق نتيجة لما بلغته الأوضاع العربية من انحطاط يطلق أيدي الصهاينة فينا، ويشجعهم على تهديد وجودنا المتلاشي، الذي لم يكن قريباً في أي وقت مضى من حافة الهاوية كما هو قريب منها اليوم.
الخليج