نزاع الهويات
تحية لأمين معلوف
جاد الكريم الجباعي
تحيّة لأمين معلوف إنساناً ومبدعاً يرتقي بالفكر إلى مصاف الفنّ، حيث يتألّق الروح الإنسانيّ غنيّاً بثروة العالم وبهائه وتناسق لويناته وألوانه. فما أحسبه إلا بستانياً وحارساً ليلياً لعالمنا، يقلقه انطفاء المصابيح وانكساف الأنوار هنا وترنّحها هناك. هذه المقالة من وحي كتابه “اختلال العالم”، الصادر عن دار الفارابي ببيروت، 2009.
لا مراء في أنّ المنطقة الواقعة بين المحيط الأطلسيّ غرباً وحدود الهند والصين شرقاً هي البؤرة الرئيسة لنزاع الهويات الذي ينداح اليوم في جميع أرجاء المعمورة، نزاع هويات إثنية وقبلية ودينية ومذهبية وجهوية، هو علّة ما نشهده من فوضى وقتل وطغيان. ولا مراء في أنّ وسائل الإعلام والشبكة العنكبوتية ووسائل الاتصال وتداول المعلومات تزيد من شدّته وسرعة انتشاره. ولا مراء في أنّ هذا النزاع متعدّد الأوجه ومتفاوت الشدّة هو من أبرز عوامل “اختلال العالم” وتصدّع النظام العالميّ، وضرب من الانتكاس إلى الهمجية والتوحّش.
“في عصرنا هذا، يقول أمين معلوف، حيث تواجه كلّ ثقافة يومياً ثقافات أخرى، وحيث تحسّ كلّ هوية بالحاجة إلى ترسيخ وجودها بحدّة، وحيث يتوجب على كلّ بلد وكلّ مدينة أن ينظّم تعايشاً دقيقاً في كنفه، لا تعود المسألة مسألة معرفة ما إذا كانت أفكارنا المسبقة الدينية والإثنية والثقافية أقوى أو أضعف ممّا كانت عليه عند الأجيال السابقة، بل تصبح مسألة معرفة ما إذا كنّا سنعرف كيف نحول دون انزلاق مجتمعاتنا نحو العنف والتعصّب والفوضى”.(1)
التناقض بين عولمة أو كوكبة جارفة ومكتسحة، ذات سحنة إمبريالية، وبين خصوصيات مطلقة، هي ماض ملقى على هامش الحاضر، هو ما فجّر نزاع الهويات وجعله يحتلّ واجهة المسرح العالمي، ودفعه إلى حدوده القصوى. عولمة اقتصادية ومالية غير مضبوطة بأيّ ضوابط قانونية وأخلاقية، ومجافية لقيم العدالة والمساواة، همّها الوحيد دمج الاقتصادات الوطنية والمحلّية في اقتصاد عالميّ تحكمه دكتاتورية السوق، وتسيطر عليه الاحتكارات الكبرى، ويراد لها أن تكون القاطرة التي تجرّ جميع العربات، وخصوصيات مطلقة (= مغلقة) ترى في هذه العولمة تهديداً مباشراً لوجودها، فتنمو فيها نوازع السخط والكراهية التي تقنِّع غريزة الخوف، ولا سيما الخوف من الحرية، وهو الصيغة العصرية للخوف الذي ولَّد العبادات والعقائد الدينية على مرّ التاريخ، ولا يزال يعيد إنتاجها. والحرية هنا هي معادل رمزيّ للموت، لأنّها مغامرة في المجهول. الخوف من الحرية والعجز عن تحمّل تبعاتها هما أساس التشبّث بالبنى التقليدية والهويات الميّتة وإعادة إنتاجها.
لذلك، على الأرجح، لم تر الجماعات المغلقة والنظم والمنظومات الاستبدادية في دعاوى الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي أطلقتها إدارة بوش الابن، مجرّد كذبة أمريكية وقحة، بل رأت في الديمقراطية وحقوق الإنسان شرّاً مستطيراً ينذرها بالموت. الإدارة الأمريكية كانت تكذب، والجماعات المغلقة والنظم والمنظومات الاستبدادية تصدق، لأنها تريد أن تصدق، من هذا الجانب، من ترتاب بها، وتشكّ في صدقها أصلاً، ما جعل الديمقراطية وحقوق الإنسان في وعي هذه الجماعات وفي خطابها مرادفة للاستعمار والإمبريالية.
مشكلة الجماعات المغلقة، نخباً وجماهير، أنّها تنظر إلى العالم من خرم إبرة خصوصيتها المطلقة، فتخطئ في كلّ مرة تحديد موقعها فيه، ومسؤوليتها عن أمنه واستقراره وتقدّمه وازدهاره؛ فلا تدرك أيّ منها أنّها جزء من كلّية عينيّة، هي الأمّة، على الصعيد الوطنيّ، والجماعة الإنسانية والمجتمع الدولي، على الصعيد العالمي، وأنّ الجزء يتحدّد بالكلّ ولا يحدّده. فإنّ ما يبدو عندنا سجالاً ثقافياً وسياسياً حول العلمانية والديمقراطية هو وجه من وجوه نزاع الهويات، عندما يكون صريحاً، أو قناع من أقنعته، عندما يكون مدلَّساً وماكراً.
الأقليات الإثنية والمذهبية تنظر إلى الديمقراطية من خلال عصبياتها؛ فترى فيها خلاصاً من هيمنة الأكثرية الإثنية والدينية أو المذهبية، فتقرنها بالعلمانية مختزلة إلى “فصل الدين عن الدولة”. والأكثرية تنظر إليها من خلال عصبيتها؛ فترى فيها تبريراً لهيمنتها و”حقّها” التاريخيّ في الحكم، المضمون بأمر إلهيّ، بصفتها قوام الأمّة وعمادها ونظامها، فتغدو العلمانية في نظرها نافلة، بل دسيسة لتفكيك هويتها وتقويض كيانها وتبديد سلطتها، وإنكاراً لحاكمية الله. العلمانية والديمقراطية، في وعي هذه الجماعات، مجرّدتان من مبادئ الحرية والمساواة والعدالة ومن أيّ قيمة إنسانية. الأقلّيات تريد من الأكثرية أن تتخلّى عن شرطها الدينيّ أو المذهبيّ أو الإثنيّ من دون أن تتخلّى هي عنه، تماماً كإشكالية “المسألة اليهودية”. وهو ما لا تخطئه الأكثرية في شعار العلمانية، فتشنّ عليه حرباً “ثقافية” هي غطاء لحرب فعلية أو ممكنة على الأقلّيات.
من المسلّم به أنّ الأفراد لا يتخلّون، ولا يجدر بهم أن يتخلّوا، عن شرطهم الإثنيّ أو الدينيّ أو المذهبيّ أو عن أيّ من تحديداتهم الذاتية، وكذلك الجماعات، أكثرية كانت أم أقلّيات؛ ما اقتضى الاحتكام إلى شخص معنويّ ليس له أيّ شرط مسبق، لأنّه هو الشرط والشارط، وليس له أيّ تحديدات ذاتية، لأنه هو التحديد والمحدِّد، أعني الدولة الحديثة، دولة الحقّ والقانون، التي تحوز قبول جميع مواطنيها وموافقتهم وثقتهم واحترامهم، وتمنحهم بالتساوي هوية وطنية، قوامها حريات شخصية وعامة، ذاتية وموضوعية، وحقوق متساوية، وواجبات متساوية، وفرص متكافئة، واحترام للإرادة العامة التي يمثّلها القانون. شرعيّة هذا الشخص المعنويّ أو الاعتباريّ تنبع من العقد الاجتماعيّ بين أفراد أحرار هم أعضاء في الأمّة وأعضاء في الدولة على قدم المساواة، بغضّ النظر عن شروطهم المسبقة وتحديداتهم الذاتية. غياب هذا الشخص المعنويّ أو عدم شرعيته هو لبّ المشكلة، سواء على الصعيد الوطنيّ أو على الصعيد العالميّ.
يبدو أنّ الأمر برمّته متعلّق بمسألة الشرعية السياسية والأخلاقية بالتلازم الضروريّ. “فإنّ غياب الشرعية في أيّ مجتمع بشريّ هو شكل من أشكال انعدام الوزن الذي يخلخل جميع السلوكيات”، (وكذلك غياب الشرعية على المستوى الدولي). “فمتى كانت أية سلطة، أية مؤسّسة، أية شخصية، لا تستطيع أن تحوز صدقية معنوية حقيقية، ومتى بلغ الأمر بالناس حدّ الاعتقاد بأنّ العالم غابة يسودها الأقوى، وكلّ الضربات فيها مباحة، لا يعود هناك بدّ من الانجراف نحو العنف القاتل والطغيان والفوضى”. (186)
“إذا كان الله غير موجود فكلّ شيء مباح”. بتعبير ديستويفسكي. الله هنا هو الحبّ والخير والحقّ والجمال، في الروح الإنساني، وهو قوّة القانون ومضمونه الأخلاقيّ، في المجتمع والدولة، وفي المجتمع الدولي. فإنّ غياب الشرعية مقترن دوماً بغياب القانون وضمور المبدأ الأخلاقيّ، ومن ثمّ بغياب الحرية والمساواة والعدالة، ومن لا يرى حريته الموضوعية في القانون لا يعرف الحرية. ما قيمة الإيمان إذا لم يكن سموّ الله مؤسّساً لسموّ القانون، الذي يتساوى أمامه الجميع في الكرامة الإنسانية وفي الحقوق والواجبات. أين الإيمان إذا لم يحبّ المرء لغيره ما يحبّه لنفسه، وإذا لم يعامل الآخرين كما يحبّ أن يعاملوه؟
من البدهي أنّ نزاعاً يتوفّر على مثل هذه القوّة في الاندفاع، ومثل هذه السرعة في الانتشار، ومثل هذه القدرة على تهديد الأمن والسلام العالميين، من البدهي أن ينتج ضلالات وأوهاماً بحجم الكوارث التي تنجم عنه. ولعلّ من أكبر الضلالات والأوهام، التي أنتجها حتى اليوم، إدراك هذا النزاع الهمجيّ على أنه صراع حضارات، أو نزاع ثقافات، لا صراع همجيات ونزاع هويات، إذا فهمنا الحضارة على أنها الثقافة وقد تموضعت، أو تحقّقت، وغدت واقعاً مادياً وأخلاقياً حيّاً، هو العامل الحاسم في تحديد الهوية. الإنسان هو الإنسان، في كلّ زمان ومكان؛ فالثقافات والحضارات تواصلية وتكاملية، بخلاف الهويات التفاصلية الميتة، والقاتلة، لأنها كذلك، أي لأنها ميّتة، ومن ثم تفاصلية (كل ما هو حيّ تواصليّ، وكلّ ما هو ميّت تفاصليّ). من ينكر أنّ الهمجية، التي نشهد تجلّياتها في كل مكان، راسب من رواسب التاريخ، التي تطفو اليوم على السطح؟
إنّه مكر التاريخ. العالم كلّه متورّط في الهمجية ومسؤول عن نتائجها، والعالم المتمدّن والمتقدّم، بوجه خاصّ، يدفع دين حداثته الناقصة وقيمه المبتورة، دين العلمانية الناقصة والديمقراطية المبتورة، والعقلانية الأداتية، النفعية، بل الكلبية، بحصر المعنى. ونحن مسؤولون عن تخلفنا وانغلاقنا وتأخّر وعينا وفكرنا وركود حياتنا وتخشّب أيديولوجياتنا الشمولية والتفاضلية والتفاصلية، وندفع ديْنها وديْن ما نتج منها على كلّ صعيد.
العلمانية المثلومة والديمقراطية المبتورة والعقلانية الأداتية تتجلّى كلّها في ما يسمّى “احترام الخصوصيات”؛ “فإنّ ما يسمّى احترام الخصوصيات الإثنية أو الدينية أو المذهبية، أكثر من احترام الإنسان الفرد لإنسانيته وفرديته، موقف يضمر عنصرية مقيتة. “كلّ شيء يكمن في غير المقول، في المضمر، وفي المفترض الإثني. وبكلمة أو ألف، يتصرّف المرء على هذا النحو، لأنّ “أولئك الناس” ليسوا “مثلنا”. فلا بدّ أن يكون الإنسان خالياً من كلّ إحساس كي لا يفهم أنّ هذا “الاحترام” للآخر شكل من أشكال الاحتقار ودليل على كراهية. على كل حال إنّ الأشخاص موضوع هذا “الاحترام” يحبّونه بهذه الصفة” (236). والجماعات المهووسة بخصوصيتها تحبّه بهذه الصفة أيضاً، فلكم يطربنا ويريحنا احترام خصوصية العرب والمسلمين.
كيف يعقل أن نحترم محمولات الإنسان وتحديداته الذاتية أكثر من الإنسان ذاته؟ الإنسان، الفرد، أهمّ من العروبة إذا كان عربياً، وأهمّ من المسيحية إذا كان مسيحياً، ومن الإسلام إذا كان مسلماً .. وأهمّ من الليبرالية إذا كان ليبرالياً ومن الاشتراكية إذا كان اشتراكياً، فمن دونه لا يمكن أن يكون هناك عروبة أو مسيحية أو إسلام أو ليبرالية أو اشتراكية. فبأي عقل وبأيّ حكمة وبأيّة أخلاق يقتل العربيّ لأنه عربيّ أو المسيحيّ لأنه مسيحيّ أو المسلم لأنه مسلم أو اليهوديّ لأنّه يهوديّ..؟ مصالح الأفراد والجماعات والأمم والشعوب متعارضة ومتناقضة وغاياتهم شتّى؟ أجل. ولكن، من قال إن حلّ أيّ تعارض أو تناقض هو حذف أحد طرفيه، إلا في عرف الهمجيّ الّذي إذا أراد أن يقطف ثمرة يقطع الشجرة التي تحملها؟ القتل عامّة، والقتل على الهوية خاصّة، همجية خالصة وحيوانية محضة لا تليق بالبشر، منذ اخترعوا اللغة واهتدوا إلى الاجتماع.
لا حظ أمين معلوف أنّ “هذا الميل إلى عدم اعتبار الآخر إلا من خلال نوعيته الدينية أو الإثنية، وعادة التفكير هذه التي تربط الناس الوافدين من الخارج بانتماءاتهم التقليدية، وهذه العاهة الذهنية التي تمنع رؤية الشخص بمعزل عن لونه أو انتمائه أو لهجته أو اسمه شائعة في كلّ المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور. غير أن مثل هذا الموقف في “القرية الكروية” الراهنة لم يعد مقبولاً، وهو يسيء إلى فرص التعايش داخل كل بلد وكل مدينة، ويهدد البشرية كلها بتمزّقات لا تعوّض ومستقبل يسوده العنف”. (237)
منذ غزو نابليون لمصر إلى يومنا وساعتنا، والعرب، أفراداً وجماعات، ينظرون إلى العالم، وإلى الآخر، من زاوية خصوصيتهم المطلقة وجوهرهم المتعالي وماضيهم “المجيد”، فيكرهون العالم، ويكرهون أنفسهم. ولا شفاء من هذه الكراهية إلا بتغيير زاوية النظر إلى العالم وإلى الذات. لا شفاء من الكراهية إلا بالنظر إلى الذات من منظور كونيّ وإنسانيّ، وبالنظر إلى الخصوصية من منظور العمومية والراهنية و”الكلية العينية”، على كلّ صعيد، وإلا سنظلّ في عالم الجواهر والمطلقات المتعالية على الواقع وعلى التاريخ.
الثورة التي أخطأها العرب، ولجمها غيرهم وآخَرُهم، أعني الغرب نفسه، بلجام الوطنية أو القومية حيناً، ولجام “المركزية الأوروبية” حيناً آخر، هي الثورة الكوبرنيكية على صعيد المعرفة والفكر والأخلاق، أعني تغيير زاوية النظر إلى الطبيعة وإلى العالم، إلى المجتمع والدولة وإلى الإنسان، وإلى المرأة خاصة، فأخطؤوا كل ما كان بعدها وما نتج منها، فلم يثر فيهم سوى سوء الظنّ. ولو أوغلنا في تفاصيل الحياة الواقعية لتبين لنا، بما لا يقبل الشك، أنّ العرب اليوم “غرب” لا يعترف بذاته، ولا يعرفها، ولا يريد أن يعرفها. فلِمَ نستهجن، أن يندرج “الغرب” في أيّ تعريف أو محاولة تعريف للذات، ضاربين صفحاً عن حقيقة أننا نتقدم لأن العالم يتقدّم، أي إننا نتقدّم بفضل “الغرب” نفسه، ومتجاهلين وحدة العالم التناقضية، ووحدة التاريخ البشري ووحدة اتجاهه؟ ألا يلفت النظر استمرار ثنائية، بل ثنوية، الشرق والغرب، وليسا تحديدين جغرافيين، في وعينا وفكرنا وفي سلوكنا السياسي؟
ومن الضلالات التي أنتجها نزاع الهويات أيضاً اختزال النزاع الدائر إلى مفهوم سائب يتأبّى على التحديد، هو الإرهاب. فالحرب “المقدسة” على الإرهاب باتت مشكلة عالمية بدلاً من أن تكون حلاً لمشكلة عالمية، وغدت غذاء لنزاع الهويات، تصبّ زيتها على ناره بدلاً من أن تكون وسيلة لإخماده. لقد آلت الحرب على الإرهاب إلى نوع من “حرب الجميع على الجميع”، فلم يعد أحد من البشر في مأمن. إنه زمن الخوف، وصناعة الخوف، و”إدارة التوحش”، فهل يعقل أن تواجه المدنية الإرهاب بإرهاب أشد همجية وضراوة، وهل يعقل أن تواجه التطرف بتطرف أشد، وأن تواجه الخصوصيات المطلقة بكونية زائفة عارية من أيّ قيمة إنسانية، هي غطاء لخصوصية مطلقة بلغت ذروة الغطرسة؟ السياسات اللاعقلانية واللاإنسانية للدول الديمقراطية كانت وبالاً على الديمقراطية وحقوق الإنسان في جميع أرجاء العالم، بما في ذلك الدول الديمقراطية ذاتها، حتى بدا أن هذه الدول الديمقراطية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، تخون قيمها ومبادئها.
هل ستنتهي هذه الحرب (العالمية) بعقد اجتماعيّ، حقوقيّ وسياسيّ وأخلاقيّ، جديد على صعيد العالم هذه المرّة، لكي تتمكّن البشرية مجتمعة من مواجهة الأخطار المحدقة بها؟! ذلك ما تفرضه الحاجة، وما يؤمِّله ما تبقى في العالم من عقل وحكمة وحبّ للحياة. هذا باب لا بدّ من طرقه، بل هذا هو الباب الذي لا بدّ من طرقه مرّة تلو مرّة، حتى ينفتح على مصراعيه؛ فهو المخرج الوحيد من الهمجية الكونية، والمدخل الوحيد إلى مدنية كونية، إلى هوية الاختلاف، إذا كان العالم قد صار قرية كونية حقاً وفعلاً. كلّ شخص مثل أيّ شخص ومختلف عن أيّ شخص، كلّ مجتمع مثل أيّ مجتمع ومختلف عن أيّ مجتمع، كلّ دولة مثل أيّ دولة ومختلفة عن أيّ دولة … والبشرية كلّها في مركب واحد. هوية الاختلاف، أي وحدة التشابه والاختلاف، وحدة التنوع والتعدّد، هي مبدأ الكونية التي تستحقّ اسمها، والتي تمنح جميع الخصوصيات قيمتها ومعناها.
الهويات الإثنية والدينية والمذهبية والطائفية والجهوية وما في عدادها كلها “هويات قاتلة”، بتعبير أمين معلوف، هويات ميتة، لا تمتُّ أيٌّ منها للهوية الفعلية الحيّة بأيّ صلة. الهوية ليست شرطاً سابقاً على الوجود، ولا شيئاً ساكناً وهامداً في الوجود، فلا أحد ولد أو يولد عربياً أو مسلماً أو مسيحياً.. هوية الفرد هي ما ينتجه الفرد نفسه، وما يكتسبه، على الصعيدين المادي والروحي، في الحاضر والراهن. وهوية الأمة هي ما تنتجه الأمّة نفسها، وما تكتسبه، على الصعيدين المادّي والرّوحيّ، في الحاضر والراهن. ذلكم هو معنى الخصوصية التي تستحقّ اسمها، بوصفها تعيُّناً واقعياً لكلية الإنسان وكونية العقل، والتي بموجبها يصير الإنسان مرآة الإنسان.
لماذا نحمِّل أنفسنا، نحن سكان هذه المنطقة الممتدة بين “المحيط والسَّد”، بتعبير عبد الله العروي، مسؤولية اختلال العالم وتهديد الأمن والسلام في كل مكان؟ ألا يكفينا ما ينسب لنا وما ننسبه لأنفسنا من تخلّف، وأننا ضحايا الاستعمار والهيمنة والنهب والاستغلال والغطرسة والاستعلاء؟ جوابي الذي قد لا يخلو من مغامرة معرفية وأخلاقية هو: لأننا كذلك، نحن مسؤولون، قبل غيرنا، وأكثر من غيرنا، عن اختلال العالم وتهديد الأمن والسلام في كل مكان. لأننا متخلّفون، ونحبّ أن نتقدم، ونريد أن نتقدّم، (مع أنني لست متأكداً من أننا نريد أن نتقدّم تأكّدي من كوننا نحبّ أن نتقدم) ولأنّنا ضحايا، ونتوق إلى الحرية والمساواة والعدالة، نحن مسؤولون عن أقوال الآخرين وأفعالهم مسؤوليتنا عن أقوالنا وأفعالنا. فهل بوسعنا النهوض بمسؤوليتنا الإنسانية، التاريخية والأخلاقية، كما نهض وينهض بها الآخرون، أم سنظل نشكو من كوننا متخلفين، ونتذرع بكوننا ضحايا، وننتظر قوة مفارقة تنقذنا مما نحن فيه؟
العقلاء في العالم المتقدم باتوا يدركون، أكثر من أيّ وقت مضى، أنّ الجنوب هو مشكلة الشمال، والشرق هو مشكلة الغرب، وأنّ التخلّف هو مشكلة التقدّم، والفقر والعوز والبؤس مشكلة الغنى والوفرة، والفوضى والدمار مشكلة النظام العالمي والقانون الدولي، والنساء مشكلة الرجال، والملوّنين مشكلة البيض، والأقليات مشكلة الأكثرية، والعنصرية عار على الجميع، فهل سيدرك ذلك العقلاء في عالم ما بين السَّد والمحيط؟ لا يزال الرهان معقوداً على العقلاء.
الإنسان لمَّا يبدأ بعد؛ والقوة الغاشمة ليست المعنى الأخير للتاريخ؛ فالتاريخ الماضي كله، حتى ساعتنا التي ستمضي، هو تاريخ اغتراب الإنسان عن الإنسان. فهل نحن ذاهبون إلى الأمام، إلى تاريخ الإنسان وحضارة الإنسان، إذا تغاضينا عن هموم أمين معلوف وتجاهلنا قلقه وفاتتنا رؤيته الإنسانية؟
هامش: 1 – أمين معلوف، اختلال العالم، دار الفارابي، بيروت، 2009، ص 80. وسأشير إلى الاقتباسات اللاحقة بإدراج رقم الصفحة في المتن.
موقع الآوان