في ضبط الرأي العام لممارسات الرؤساء
د. منى فياض
عندما ينتقد المثقفون والمعارضون في العالم العربي توريث الأنظمة العربية الجمهورية ذات الطابع الاستئثاري الغالب– إذا لم نقل الاستبدادي- والتي لا تجد من يخلفها في الحكم، وفي مراكز السلطة سوى الأبناء. وعندما ننتقد الفساد المستشري، والذي أصبح وجوده عضوياً في مجتمعاتنا، سرعان ما ينبري مدافع عن الأوضاع المشكو منها بالاستشهاد بالديمقراطيات الغربية: انظروا إلى أميركا؟ بوش الابن خلف بوش الأب، أو سلسلة آل كندي في السلطة أو غيرهم كثر.. انظروا إلى فضائح الفساد.. إلى ما هنالك من الأمثلة والأدلّة الصحيحة بعامة في الشكل.
لكن ما يحصل في فرنسا هذه الأيام يوضح الفارق «بيننا» و«بينهم». تشكو الصحافة والرأي العام ذات الطابع التقدمي واليساري من «سطوة» ساركوزي ومن رغبته في «ضبط» و«مراقبة» كل شيء بنفسه. وذهب الأمر بصحيفة «الكانار أنشيني» إلى أن تعطي عنوانا فرعيا لإحدى مقالاتها: «ساكن الإليزيه يجد صعوبة في ضبط نفسه، لكنه يضبط مواطنيه بإفراط». في إشارة الى التعابير العصبية التي تفلت منه من وقت إلى آخر، وإلى حادثة انهياره ونقله إلى المستشفى عندما كان يمارس الركض، وإلى تدخله ومراقبته حتى لطول من سوف يأخذ معهم صوراً، بحيث لا يفوقونه قامة.
لكنه تعرّض لانتقاد حتى من أوساط اليمين، خصوصا بعدما حصل في الأسبوعين الأخيرين، وكان مثالاً معبراً عن الفارق الموجود بين الجمهوريات «الحقيقية»، وبين أشباه الجمهوريات في عالمنا الثالث. فساركوزي الذي «يراقب ويضبط» كل شيء، لم «يستطع منع» بطانته من ترقية ابنه الثاني، الذي لقبته الصحافة الفرنسية بـ«الأمير جان»، في إشارة إلى تحويل فرنسا الى ما يشبه الإمبراطورية الرومانية، بحسب دورية الإكسبرس، من أجل تسهيل تعيينه على رأس مؤسسة عامة. بحيث إن أعضاء في الحكومة لم يخفوا دهشتهم وملاحظتهم أن هذا عكس ما كان قد أعلنه ساركوزي عندما كان لايزال مرشحاً رئاسياً، من أن «قطع الرأس هو مصير الورثة»، عندما تعلق الأمر بآلان جوبيه، رئيس الحكومة الأسبق.
واللافت أن جان ساركوزي الابن الذي يبلغ 23 عاماً فقط، ولا يحوز سوى شهادة البكالوريا، وأمضى سنة واحدة في كلية الحقوق، تم ترشيحه لترؤس الـEpad، وهي مؤسسة عامة مسؤولة عن تجهيز منطقة الديفانس، ومهمتها تنمية هذا الحي الذي يعتبر أكبر حي للأعمال في أوروبا. ما يعني أنها توظف المليارات على حيّز يضم أكثر من 150 ألف موظف. عدّ الأمر في البداية مزحة، لكنها لم تعد كذلك، إذ سرعان ما بدا أن أصدقاء الرئيس على استعداد للمضي في هذا الترشيح حتى النهاية.
لكن الاستياء الكبير الذي أثارته ترقية الابن، والانتقادات التي تصاعدت في فرنسا والخارج، والضغط والاستنكار الشعبيين لغالبية كبيرة من الفرنسيين.. كل ذلك أجبر الرئيس على التراجع. فلقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد «سي. إس. آي» قبل أسبوع من التراجع عن الترشيح للمنصب، أن ثلثي الفرنسيين تقريباً (64 في المئة)، وأكثر من نصف أنصار اليمين (51 في المئة)، ينتقدون هذا الترشيح. وسبق للناطق باسم الحزب الشيوعي الفرنسي، أوليفييه دارتيغول، القول بأن «مستوى نفاد الصبر في البلاد دفع عائلة ساركوزي الى التراجع. جان لن يرث إيباد مباشرة من أبيه. سيمكنه ذلك أن يكرس جهوده لدراسته الجامعية، فمن الأفضل أن يتعلم مهنة بدل الحصول على إرث كبير». وفي أوروبا، لاحظت «الإندبندنت» أن الجمهورية الفرنسية سجلت نقطة على حساب «الإمبراطور نيكولا الأول».
أعتقد أن هذا هو الفارق بين الجمهوريات الحقيقية وتلك المزيفة: وجود الرأي العام وقدرته على الضغط على السلطات على أنواعها، لكي تتراجع عن قرارات يعتبرها خاطئة أو ليست في مصلحة البلد.
الرأي العام هو أهم اختراع أوجدته المجتمعات الحديثة، وهو أهم ما يمكن أن يواجه الفساد والمحسوبية المتفشيين عالمياً، ولو على درجات. فهل يلعب الرأي العام opinion publique في بلادنا الدور نفسه الذي يلعبه في الغرب؟ والإجابة كلا بالطبع. لكن لماذا؟ لسبب بسيط، وهو عدم وجود الفرد المستقل، المسؤول وغير التابع. ولتقلص الحرية أيضاً، ناهيك عن ممارسة الرقابة الذاتية من شدة الخضوع لأنواع الرقابات المختلفة ولأنواع القمع الظاهر منها والمخفي.
ما هو الرأي العام؟
يتكون الرأي العام من وجهات النظر المأخوذة من مجموعة من الناس فيما يتعلق بموضوعات تثير الاهتمام العام. والرأي عادة ليس عرضة للبرهان الذي يمكن التحقق منه، فهو يمثل عموماً حكماً تقييمياً أو تفصيلياً، أو تقديراً لنتائج أحداث قد تقع في المستقبل.
ويتميز الرأي العام باحترامه لتوجه الجمهور وكثافته، ولمدى اتساع الجمهور المعبر عن آرائه ومدى العمق المعبر عنه. يعتمد الرأي العام على حرية التعبير والاتصال، فإذا كانت حرية التعبير غير محترمة والاتصال صعباً أو مختزلاً تصبح إمكانية تشكل الرأي العام أو قياس تغيره أكثر صعوبة واستحالة.
يكون الرأي العام أقوى في مجتمع حر، منفتح ومتقدم، عما هو عليه في مجتمع منغلق وبدائي. على أنه حتى في هذا الأخير، لا يمكن تجاهل الرأي العام فيه. لكن الجهود لمعرفة الرأي العام كانت دائماً ميزة المجتمعات الديمقراطية.
وهذا ما يفسر جوهر الفارق «بيننا» و«بينهم». وكلما انفتحت مجتمعاتنا وتحولت نحو الديمقراطية الحقيقية، ونحو حرية التعبير واحترامها وتسهيل الاتصال، كلما أمكن الضغط من أجل شفافية أكبر، ومن أجل إلزام جميع المسؤولين باحترام إرادة من انتخبوهم، وإخضاعهم للمحاسبة الدائمة، وليس عبر صناديق الاقتراع فقط. هذا إذا كان هذا الاقتراع معبراً أصلاً عن رأي الشعب حقيقة، وليس نوعا من اقتراع بالتزكية، كما يحصل دورياً في عدد من البلدان العربية. وتستطيع الأقلية في لبنان، أعرق «ديمقراطية عربية»، أن تضرب عرض الحائط، بنتائج انتخابات شرعية ونزيهة، ويتم تحويل النواب المنتخبين عن الشعب فيها إلى مجرد أتباع ومنفذين لأوامر الزعيم الأوحد للائحتهم الانتخابية، ولمن يدعمه من الأقاليم المجاورة والأقل مجاورة.
فهل يمكن أن ننتظر أي اعتبار للرأي العام؟ هذا الاختراع «الإمبريالي» الذي يبعدنا عن دفء عادات الاستبداد والولاء والطاعة القبليّة.
كاتبة من لبنان
أوان