الطاهر لبيب: انهارت النخب المثقفة عندما كشفها الواقع وبقي المثقف المقاول
اسكندر حبش
نترجــم ضمــن مشــروع وضمــن نســق فكــري
الطاهر لبيب عالم اجتماع لامع وكتابه سوسيولوجيا الغزل العربي مفصلي، ثم انه مثقف بمعنى ان الثقافة كلها مجاله وبمعنى انه ينتج في الثقافة بمقدار ما يصارع فيها وبمقدار ما يحاكمها ويحاكم نفسه من خلالها. ثم ان الطاهر لبيب على رأس المنظمة العربية للترجمة التي تملك مشروع ترجمة فعلياً تتدرج في إنتاجه، ومضى عليها من الوقت وتجمع لديها من الرصيد ما جعل لها مكتبة فعلية، كان لنا معه هذا اللقاء:
أولا ما السبب الذي دفعك إلى المجيء إلى لبنان للعيش والعمل هنا، وماذا تعني لك بيروت بهذا المعنى؟
هذا سؤال لا أعرف أين تبدأ الإجابة عنه، هناك سببان، أولا هناك أمر مهني ساقتني إليه ريح طيبة، هي أقرب ما يكون إلى الصدفة، لأني لست مترجما ولست متخصصا في الترجمة، ولكن يبدو أن اهتمامي بالتعريب الجامعي، جعل البعض يفكرون في أن أستلم هذه المسؤولية، مسؤولية المنظمة العربية للترجمة. أما في ما يخص بيروت، فأولا تكويني الوجداني وإلى حدّ ما المعرفي، كان الشرق دائما حاضرا فيه، ويستهويني بجاذبية قوية، ولما اكتشفت بيروت في زيارات متقطعة، للمشاركة، بخاصة، في بعض الندوات والمؤتمرات أحسست أن هذا البلد، هو البلد المناسب لأن أستقر فيه ولأن يستقر فيّ في الوقت عينه. وجدت فيه، لا بعض الطرافة والجمال اللذين يتحدث الناس جميعا عنهما، بل وجدت فيه أنواعاً من المفارقات التي تستهويني بخاصة وأنا أعتقد أن المجتمعات، كما المجموعات والأفراد، التي لا تشدك إليها المفارقات الظاهرة أو الخفيّة هي مسطحة. لبنان بلد مفارقات عجيبة، لا أظن أن الوقت يتسع هنا لشرحها، ولكنها مفارقات تنبئ حدسا أو ميدانيا، بالثراء الفكري والاجتماعي، وأظن أن العشر سنوات التي قضيتها لغاية الآن، أكدت لي هذا الانطباع وإلى حد أني لم أعد أرى لبنان بدون هذه المفارقات. طبعا البعض يفضل الحديث عن التناقضات بدلا من المفارقات، وبطبيعة الحال كباحث اجتماعي لا أغض الطرف عن الجوانب السلبية الكبيرة والأساسية أحيانا في المجتمع اللبناني، ولكني ـ بحثا عن الراحة وعن العلاقة الحميمية بهذا المجتمع ـ قررت، وهذا حق من حقوقي، أن لا أرى إلا ما أريد أن أراه في لبنان، أي أن لا أرى إلا الأشياء الجميلة. هذا موضوع نقاش ولكنه من ناحية فردية وشخصية، حق من حقوقي ولا فائدة من مناقشته، لذلك أنا مرتاح كثيرا في هذا البلد، وأظنه مرتاح فيّ، أقصد في ذهني لأني أرى فيه الأشياء الإيجابية بالرغم من علمي علم اليقين أن فيه أشياء غير جميلة.
بعيدا عن هذه النظرة الشخصية، أي قرارك بأن لا ترى سوى الأشياء الجميلة، ولكن ألا يقدم لك هذا البلد كعالم اجتماع «حقلا للبحث»؟ وكم تنعكس هذه المفارقات فعلا، في صلب عملك كعالم اجتماع؟
أنا من الذين ينصحون طلبتي في العلوم السياسية في تونس، أو حتى في علم الاجتماع السياسي، بأن يتوجهوا إلى المخبر اللبناني لتطوير معارفهم في مجال الفكر السياسي والمؤسسات السياسية. وأعتقد أنهم يستفيدون من هذا المخبر أكثر مما يستفيدون من مخابر أوروبية. هذا لأقول إن التجربة اللبنانية هي تجربة لها خصوصيات كما يقال، استثنائية، إذا دُرست فإنها فعلا ستدفع الباحث إلى إعادة النظر في الأجهزة المفاهيمية والقواميس التي وراءها، لأن الباحث لن يجد التعريف والتحديدات الدقيقة في المراجع المعهودة لفهم وتفسير ما يحدث في لبنان. أعطيك مثلا: ما يسمى هنا بالطائفية. الطائفية في الفكر الاستشراقي وفي أغلب الكتب الأوروبية التي نعتمدها تترجم بالـ (Confession) أي أن البعد الديني هو العنصر التعريفي الأساسي، عندما تعيش في لبنان وتقترب من هذه الظاهرة يوميا وترى تجلياتها في مختلف المستويات والمجالات تفهم بسرعة أن الطائفة هي مجموعة اجتماعية مركبة فيها السياسة والاقتصاد والثقافة.. والدين، وتكتشف أن الدين ليس إلا بعدا من أبعادها وأحيانا ليس إلا شعارا من شعاراتها، وهذا ما يفسر مثلا أن الطائفة هنا لها مؤسساتها الاجتماعية ولها مؤسسات المجتمع المدني ولها مؤسساتها الرسمية، وليس فقط مساجد وكنائس بل أيضا جامعات ومشاريع الخ.. فبالتالي وكمثال أول، يحتاج الأمر إلى إعادة تعريف خاصة، إذا كنت من نوعي أنا من مجتمع لا يعرف الطائفة ولا يفهمها، بقيت مدة طويلة حتى أفهم ما معنى الطائفة. أعطيك مثالا ثانيا وهو ما تسمونه أنتم الديموقراطية التوافقية. لا وجود لهذه التسمية في قواميس الاجتماع السياسي. هذه ظاهرة خاصة وهي ديموقراطية غريبة جدا. وبالمناسبة أنا أعتقد كما كتبتُ مرة أن المجتمع اللبناني ليس مجتمعا ديموقراطيا بل هو مجتمع «حريقراطي» بمعنى أنه فعلا، في المستوى الفردي، قطعا لا وجود لأي مجتمع عربي يطالب فيه الفرد كفرد بالحرية الفردية ويعيش هذه الحرية كحرية فردية. فاللبناني من هذه الناحية كحريقراطي أي يطالب بالحرية ويمارسها وهذا ظاهر في حياته اليومية بما لا شك فيه. لكن أن نتحول من هذه «الحريقراطية» إلى الديموقراطية، حتى ولو سميت توافقية، فأنا أعتقد أن في ذلك مجازا كثيرا، لأن فيها تناقضات «ما تركب على بعض» كما تقولون، إذ هناك ديموقراطية وفي الوقت عينه نتفاهم على من يمثلنا ونتفاوض ونتنازل ونساوم ويزايد بعضنا على بعض إلى غير ذلك في تحديد وتسمية النخبة التي تمثلنا ديموقراطيا. لا يمكن ذلك، إما هناك انتخابات عامة كما يحدث في أوروبا والعالم ولكل اللبنانيين أن يختاروا بفضلها رئيسهم وممثليهم مجتمعين، وإما أن تصبح مرتبطة بالطائفة أو باعتبارات أخرى.
النخبة
لكن هذا الكلام يأخذنا إلى التساؤل عن مفهوم النخبة اليوم في لبنان والعالم العربي؟ ما هي النخبة؟
الواقع انه لم تعد هناك نخبة. من المجاز أيضا أو ربما من الخطأ التحدث عن النخبة. صحيح أن التاريخ الحديث والمعاصر، العربي، شاهد تشكل نخب كان لها الدور القيادي في المجال الفكري والسياسي. إجمالا نستطيع أن نقول إنها نخبة وبخاصة انها تنتمي إلى الطبقات الوسطى بما في ذلك تلك التي قادت عمليات التحرير في تونس أو في مصر أو في أي بلد آخر. هكذا كانت الطبقة الوسطى تتألف من محامين، أطباء، أساتذة… ولكن هذه النخب سرعان ما استنفدت من جهتين، الأولى جهة الدولة التي استفادت منها في البدايات لبناء ما يسمى بالدولة الوطنية ولتطوير وإنجاح مشاريعها التي تسمى أيضا وطنية بعد مرحلة الاستقلال، وهذا دام عموماً حتى السبعينيات. النخبة بهذا المعنى التي عولت عليها الدولة في بناء ذاتها وإنجاز مشاريعها استمرت 15 سنة لا أكثر، إذا اعتبرنا أن غالبية الدول استقلت في الستينيات.
ومن الناحية الأخرى، انهارت النخب وتفككت لأنه عندما جعلها الواقع تكتشف أن تصوراتها ومشاريعها الفكرية والسياسية بنيت في معزل عن الواقع، بل على مرجعيات خارجية ـ أكانت ماركسية أم غير ماركسية ـ وبخاصة الماركسية إذ كانت تمثل التقدم بالمعنى الماركسي. كانت النخب ماركسية بالدرجة الأولى أو قومية. اكتشفت إذاً، بالأحرى لم تكتشف بل ان الواقع الكاسح الصارم هو الذي جعلها تكتشف، أن مشاريعها وتصوراتها التي ضحت من أجلها وجعلتها تدخل السجون وتتعرض للقتل، والتي قدمت تضحيات كبيرة من أجلها، أنها بعيدة عن الواقع وليس لها هذا التأثير التي كانت تزعمه. أعطيك مثالا: في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، ظهر مفهوم المثقف العضوي والمثقف التقليدي وظهر تأثير غرامشي على المثقفين العرب في طريقتين مختلفتين، في المشرق العربي ظهر غرامشي كمناضل وفي المغرب العربي كمثقف بالدرجة الأولى. أي ظهر اثنان من غرامشي، لكن في أي حال ظهر وكثر الحديث عن المثقف العضوي وعم التنظير للمثقف العربي العضوي، فيما ليس هناك أي عضوية حقيقية بالمعنى الغرامشي إذ أكتُشف أن المثقف التقليدي المرتبط بأصوليات مثل الأصوليات الدينية، أكثر «عضوية» من العضوي نفسه، لأنه يملك فعلا قاعدة اجتماعية يمثلها فيما الآخر اكتشف أنه لا يمثل لا العمال ولا الفلاحين ولا غيرهم. وبالتالي فإن النخبة انهارت وتفككت بسبب خارجي هو الدولة التي بالمناسبة استغنت عن دورها بعد أن ساهم في المرحلة الأولى، وفي بعض الحالات، كمعارضة مصطنعة، من صنع الدولة نفسها لكي يبين النظام أنه ليس وحده في الساحة. هناك إذاً أسباب كثيرة من الخارج ومن الداخل أدت بالنخب الى ان تكتشف انه لم يعد لديها ما تقوله. ولذلك، في تعريفي للمثقفين، كما كتبت سابقا، أنه بعد أن كنّا نعرف المثقف اعتمادا على مكانه في علاقات الإنتاج بشكل تقليدي أو اعتمادا على التزامه بالمعنى السارتري أو بالمعنى الغرامشي، اكتشفنا أن هذا التعريف انتهى وأن الإمكانية الوحيدة الآن في تعريف المثقف هو من خلال رؤيته للكون. إذا كان من خلال هذه الرؤية، أميز أربعة أصناف للمثقفين. هناك المثقف الذي كنا نتحدث عنه في الستينيات والذي أسميه المثقف الملحمي لأنه فعلا كان يملك مشاريع ضحى من أجلها وكانت له مشاريع يؤمن بأنها كانت قابلة للانجاز. هذا المثقف الملحمي، وبعد أن انتهت الملحمة للأسباب التي ذكرتها لك، استمر بعض افراده يشهر سيف ملحمته فتحول في رأيي إلى نمطين: إما إلى مثقف بدائلي أي يواصل طرح البدائل كسمير أمين مثلا وإما إلى مثقف محبط وأسميه المثقف التراجيدي الذي أكن له وجدانيا الكثير من الحنان لأنه مثقف يذكرني بالمثقف الذي يسميه لوكاتش المثقف الإشكالي، الذي يعرف أن مشروعه غير قابل للانجاز ولكنه يتمسك به مع ذلك. ويصبح إنجازه في تناول المستحيل نفسه. أما المثقف المسيطر الآن، السائد، المتحكم فهو ما أسميه المثقف المقاول، هذا المثقف المقاول متحكم في مسارات الفكر عن طريق سلطته المؤسسية بالدرجة الأولى، الذي يتخذ اليوم أشكالا وأسماء كثيرة لم تكن مألوفة مثل المستشار والخبير والمحلل السياسي.. وللنكتة فإن هذه الألقاب الجديدة ظهرت في أوقات الكوارث. مثلا في حرب العراق فوجئنا بزملاء لنا نعرف أنهم مجرد أساتذة في اختصاص معين فإذا بك تراهم على شاشات التلفزة مكتوبا تحت صورهم «خبير استراتجي»، وهذا أقصى وأقسى المسخ (وأعتذر على هذه الكلمة) هم هؤلاء الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى استراتيجيين عسكريين. هذا النوع من المثقف لم يعد مطلوبا منهم أن يفكر فهو مثقف غير مفكر وبالمناسبة نحتاج اليوم حقيقة إلى تصفية الحساب مع هذه الأسماء. إذا كان هناك اليوم تمسك بلقب المثقف فلنفكّر بالمفكر.
المسخ
كيف تفسر هذا الامّساخ الكفكاوي، بمعنى ما هي هذه الآلية التي حولت شخصا من باحث في الفلسفة على سبيل المثال إلى باحث استراتيجي؟ أي ثمة أسباب اجتماعية في ذلك.
بالطبع ثمة أسباب اجتماعية. من وجهة نظري، من أكثر الدراسات فائدة ومن أكثرها طرافة حول ما ينجز اليوم، هي الدراسات حول مسار المثقفين، أين كانوا وأين أصبحوا. لو أخذت عينة ممثلة على الصعيد العربي للمثقفين العرب، وتتبعت مساراتهم، أعتقد، أنه مهما كان موقعك، ستصاب بالدوار، لأنها مسارات ملتوية ومتفرعة إلى مسارب لم تكن منتظرة. لو تساءلت قبل عشرين سنة أو أكثر، وحاولت أن تتنبأ في تلك الفترة، ومهما كانت إمكانية بحثك، وقدرتك على استشراف المستقبل لا أتصور أنه كان بإمكانك أن تتصور ما قد وصلوا إليه اليوم، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من الماركسية إلى الأصولية، من الراديكالية إلى وحشية الليبرالية اليوم، من مناهضة الأنظمة ونقد الأنظمة السياسية إلى الاندراج فيها إلى الاستسلام الكامل الخ… لماذا حدث هذا؟ هذا سؤال مهم جدا. أعتقد، على الأقل، أن هناك سببين أو ثلاثة، سأحاول أن أرتجلها إذ يحتاج الأمر إلى تفكير أكثر. السبب الأول هو مواصلة لما قلته سابقا: الشعور باليتم المرجعي، تراجع المرجعيات الأساسية، لا عربيا فقط بل أيضا دوليا وما لقيته هؤلاء من تعذيب بخاصة بعد سقوط حائط برلين والمعسكر الاشتراكي، ما جعل الكثيرين منهم وبينهم ماركسيون، نعرف اين اصبح بعض الماركسيين الآن، كم كانوا مغالين بماركسيتهم وكيف أصبحوا الآن. ما ينطبق على الماركسية ينطبق على القومية العربية، إذ كان الاثنان يمثلان المرجعية الأساسية، لقد أخلى مثقفوهما المكان للأصولية. الأصولية ملأت الفراغ، فراغ التراجع وبالتالي فالفكرة الأولى هي الشروع باليتم وهو شعور من الصعب أن يتحمله الشخص مع البقاء حيث هو. لا بد للبحث عن مخرج أو بديل في المخارج التي كانت موجودة. وحتى لا نظلم المثقفين، هناك كثير منهم انكفأوا على ذاتهم، تراجعوا إلى حيزهم الخاص. تدريس ـ بيت. هذه ظاهرة أصبحت معروفة الآن، في العالم العربي، الكثير من المثقفين الذين يحترمون أنفسهم أو الذين اكتشفوا أن لا بديل امامهم فكريا، ولا نضاليا، تراجعوا وتركوا وسلموا بهذه الطريقة. العنصر الثاني هو تزايد صعوبة الحياة اليومية للمثقفين. أين غالبية المثقفين الذين نتحدث عنهم؟ إنهم أساتذة جامعيون، صحافيون، وكتاب… في موازاة ازدياد الحاجيات، خلق نوع من الكبت عند المثقف الذي يريد أن يلبيها، وأصبح من أجل ذلك، مستعدا للتنازل من أجل إرضائها. الأمر الثالث، هو سلطة الدولة، أو على الأصح أجهزة الدولة، التي ازدادت مراقبة وقمعا، قد يكون هذا القمع ذكيا أكثر مما كان عليه من قبل، وقد يكون خفيا أكثر مما كان عليه من قبل ويتسرب في قنوات خفية مختلفة. هذا أيضا جعل الرقابة الذاتية من المثقف تزداد. ثمة عنصر رابع مهم في رأيي وهو إغراءات الإعلام وسرعة تحول المثقف الغُفل غير المعروف، إلى نجم فقط عن طريق وسائل الإعلام، وبخاصة التلفزات. هذا أغرى الكثيرين وهذه الوسائل الإعلامية فخ منصوب لسببين بالنسبة إلى المثقف. السبب الأول هو أنك إذا جئتها اضطررت إلى قول ما هو منتظر منك بما في ذلك من قبل السلطة السياسية وهذا ينطبق على الأغلبية ما عدا بعض العناصر التي تعلن معارضتها، أما الغالبية فمجرد أن تذهب إلى التلفزة لتتكلم تذهب وقد حددت كلامها وليس عليها الا أن تقوله. أما السبب الثاني فهو أنك تعرض نفسك في كثير من الأحيان إلى الإهانة، والإهانة تتمثل في أنك تخضع أحيانا وبشكل مذل في الإجابة عن أسئلة، ونحن نشاهد بعض مقدمي البرامج كيف يطالبون ويأمرون بقوة وصلابة مثقفا كبيرا أن يجيب وأن لا يهرب من سؤال.. ولا يخطر للمثقف، كما يقول بارت، أن يسأله عن شرعية سؤاله. هذه بعض العوامل في رأيي التي جعلت المثقفين يتحولون بشكل غريب. في حين أعتقد أنه ليس مطلوبا من المثقف الأصيل، ويجب أن لا يقبل إذا طلب منه، الاعتذار عن وعي سابق.
المنظمة العربية للترجمة
لننتقل إلى جانب آخر، الحديث عن المنظمة العربية للترجمة. ما الدافع وراء تأسيس هذه المنظمة، كيف تأسست؟
أولا أنا لم أكن عضواً في تأسيسها لا ماضيا ولا حاضرا بل دعيت إلى استلام إدارتها العامة بعد أن أسست، وقد أسستها مجموعة من المثقفين بمبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية لتلبية حاجة طال التعبير عنها في الواقع، وهي الحاجة إلى حركة ترجمة تكون مندرجة ضمن تصور مشروع نهضوي عربي. هذه الفكرة هي الأساس، وبالتالي فإن الترجمة منذ البدء، في ما يخص المنظمة، لم تنشأ باعتبارها مسألة تقنية بل كمسألة نهضوية عربية. ونشأة المنظمة كمؤسسة كان من المنتظر أن يجمع لها مال كاف، لضمان الاستمرارية والاستقلالية ـ وهي مؤسسة مستقلة غير ربحية بعيدة عن كل الأنظمة والسياسات ـ لتوسيع عملها، لكن للأسف لم تجمع من المقدار المقرر إلا الخمس، فكان علينا أن نبحث عن أطراف للتعاون والدعم. في البداية كانت هناك صعوبات لكن ما إن أصدرت المنظمة بعض كتبها، ونالت منذ الكتاب الأول بعض الجوائز، حتى لفتت الانتباه، وبدأت أطراف مختلفة تستجيب للتعاون، ونستطيع أن نقول اليوم إن بعض هذه الأطراف الهامة عربيا هي التي تطلب اليوم من المنظمة أن تتعاون معها. ولذلك ترى على أغلفة أغلب كتبنا موجود هناك عبارة «بدعم من …» نستطيع أن نقول الآن إننا خرجنا من عنق الزجاجة المادي وبدأنا ننتج كتبا، نستطيع موضوعيا أن نقول إنها وجدت انتشارا واسعا وترحيبا ومنذ ثلاث سنوات تحصل على أهم الجوائز… بدأت تفرض حضورها، والأهم فرضت حضورها على نار هادئة، بدون إعلام ودعايات بل فقط عن طريق كتبها وهذا ما كان مطلوبا. والأهم أن هناك معايير صارمة نلتزم بها في المنظمة.
ما هي هذه المعايير؟
من أهمها، الإتقان الحقيقي والفعلي للغتين المنقول منها والمنقول إليها. هذا شيء لا تنازل عنه. ثانيا أن يكون المترجم من أهل الاختصاص في موضوع الكتاب. فنحن لا نقبل، على الطريقة السائدة، أن يترجم عالم اجتماع في الاقتصاد وأن يترجم عالم الاقتصاد في علم النفس، أبدا، بل يجب أن يكون للمترجم صلة بالموضوع التخصصي. ثالثا المطلوب من المترجم أن يكون مترجما باحثا لا مجرد مترجم بالمعنى التقني للكلمة.
أي لا أن يكون ناقلا؟.
أبدا، وإنما أن يكون عارفا قدر الإمكان بالثقافة المنقول منها وأنا أقول أكثر من هذا، من وجهة نظري، أفضل الترجمة ليس نقلاً من ثقافة إلى ثقافة بل نقل من ثقافة إلى ثقافة. أي أن تحملك الثقافة على الترجمة وهذا يتطلب معرفة كبيرة. بالإضافة إلى هذا ومهما كانت قيمة ومكانة المترجم، لا بد أن يراقب كتابه ويراجع وهناك كتب روجعت أربع أو خمس مرات، من أشخاص مختلفين من أهل الاختصاص، علما بأن هناك كتبا ترجمت ثم أغفلت بعد وصول النصوص إذ تبين أنها غير قابلة للمراجعة لرداءتها وسوئها. هذا إلى جانب التحرير والتوثيق والفهرسة. فالنص يمر بمراحل عديدة. وبعد ذلك كله، تبقى الترجمة هي ترجمة، أي قابلة للنقد وما شابه. لكن تلخيصا للطموح الأساسي للترجمة ليس إنتاج ترجمة لا مأخذ عليها، فهذه ترجمة غير موجودة. الفرنسيس اليوم، وبعد أكثر من ستين سنة، يعيدون ترجمة فرويد. وحتى هذه الترجمة التي تبدو ترجمة نهائية والتي التأم حولها العديد من المتخصصين عليها الآن بعض الملاحظات. هدفنا الأساسي بناء نموذج جديد للترجمة يعبر عن أقصى ما يصل إليه الجهد العربي في الترجمة.
كيف يتم اختيار العناوين؟
هناك سبع لجان تعمل مكونة عربيا من متخصصين معروفين في مختلف المجالات وهم الذين يقترحون علينا عبر مداولات، بالإضافة إلى ما يرد علينا نحن، فالاختيار لا علاقة له لا بالبيروقراطية ولا بالشخص ولا بالمزاج بل هناك مجموعات علمية تفكر وتقترح وتناقش. هذا من ناحية الاختيار أما من ناحية المضمون فهو يقوم على فكرة أساسية وهي أن الترجمة العربية بما أنها قائمة على الارتجال وعلى الصدفة وعلى عدم التخطيط تترجم كتبا خارج النسق الفكري، مثل من يقتطف تفاحة جميلة بدون أن يعرف الشجرة. فكرنا أن نهتم بما يسمى بمحطات تاريخ الأفكار الأوروبي، بشكل أنه عندما نكوّن هذه المكتبة في العلوم الإنسانية، نستطيع أن نقول إجمالا وبنسبة لا بأس بها إن هذه الكتب تستطيع أن تعطي فكرة عن النسق الفكري.
السفير الثقافي