صفحات الحوار

الفنان التشكيلي السوري سبهان آدم: “كنتُ أتمنى أن أصبح لصاً”

عارف حمزة
يتعافى حالياً الفنان التشكيلي السوري سبهان آدم من الكسور التي تعرّض لها جرّاء حادث السير المروّع، الذي كاد يودي بحياته، في شهر حزيران الماضي أثناء عودته من دمشق. سبهان يعتبر من الفنانين التشكيليين الشباب (1972) القلائل في شهرته وأسعار لوحاته وعروضها وطريقته في الرسم. فخلال عشر سنوات أصبحت هناك ظاهرة فنية اسمها “ظاهرة سبهان آدم”. فقد أضحت لوحاته تجوب صالات العرض في باريس وديجون وأفينيون وستراسبورغ وجنيف وبيروت ومدريد. وصدر كتاب تشكيليّ عنه بتقديم من الشاعر الكبير أدونيس، وقبلها كانت لوحاته داخل أحد أعداد “كتاب في جريدة”. بيعت لوحاته بأسعار كبيرة مقارنة بالتشكيليين في بلادهم العربية والذين هم على قيد الحياة. طريقته في الرسم تندرج ضمن المدرسة التعبيرية (شيلي، مونج.. وصولاً إلى مروان قصاب باشي)، التي اشتهرت لدى الألمان بتشويه الجسد البشريّ. وأكثر اللوحات لديه تحتوي على كائن واحد أو اثنين على أبعد تقدير. الكائن الواحد يكون أقرب تجسيماً له. يرسم طائراً يحمل وجهه ولكنّ الوجه يكون مشوّهاً وحادّاً ومكسَّـر الأبعاد كوجه بشريّ. اللوحات التي تحوي كائنين تشكّل صراعاً مختلفاً ومتواتراً مبنيّا على تشويه التواصل والألفة. ورغم ذلك يصرّح بأنّه متأثّر جداً بالفنان “مورندي” الذي اشتهر برسمه للطبيعة الصامتة!.

سبهان حسين محمد، الذي غيّر اسمه إلى سبهان آدم “لأمور تسويقية”. يستيقظ في الخامسة صباحاً، كبرنامج ٍ يوميّ، ويظلّ يرسم حتى الثالثة ظهراً ليتوقّف ساعتين كراحة وطعام، ثم يُكمل الرسم حتى الثانية ليلاً، أي أنّه يرسم لعشرين ساعة في اليوم، وذلك “من أجل تلبية المعارض الكثيرة”، فعدد لوحاته، خلال سنوات قليلة وصل إلى مئات اللوحات، لدرجة أنه أقام أربعة معارض بباريس في وقت واحد، بالإضافة إلى اللوحات التي أحرقها، والعديد من اللوحات الضائعة أو المسروقة أثناء تعامله مع المافيا.”مرّت فترة تعاملتُ فيها مع إحدى المافيات في سوق اللوحات ممّا اضطرّني إلى رسم لوحات كثيرة لتلبية رغبتها. ندمتُ كثيراً على تلك الفترة من الزمن لأنني خسرت مادياً”.

التشويه الذي تتكبّده كائنات اللوحة يراه الشكل “الواقعي والحقيقي عن كائناتي التي تعاني من الاحتشاد في هذه الحياة، لذلك فهي ترتاح أكثر في العزلة”.

الرسم بطريقة التعبيرية والقول بأنها أقرب إلى الواقعية وبأنها طريقة رسم أكاديمية، أي أن الأبعاد الجديدة للوجه أو باقي الأعضاء هي الأبعاد الحقيقية المرسومة بدقة لهذه الكائنات.. كلام أقرب إلى الخيال والشعر منه إلى الواقع.”قبل أن أكون فناناً تشكيلياً كنتُ متماساً مع أنسي الحاج وبول شاؤول وربما أقرب إلى محمد بنيس، وأقرب بشكل هائل إلى شوقي أبي شقرا، حيث العامي والمحلي. كنت أقرأ النصوص، لكائناتي النائمة في ذاكرتي ورغباتي، التي كانت أحد العوامل في تشكـّـل كائناتي لونياً”. إضافة إلى الشعر ارتبط سبهان مع المسرح ولكن مسرح يونيسكو أكثر. “من الصعب أن أدخل في مسرحٍ آخر، وفي الرواية كان الأقرب إليّ هو سليم بركات. أنا عندما أتكلم عن هذه الأشياء فلأنني جلبتها إلى لوحاتي”. هذا الكلام كدليل على سعة ثقافة سبهان في المسرح والرواية والشعر، يأتي إضافة لإطلاعه الكبير على مختلف مدارس الرسم بقديمها وحديثها، رغم رؤيته بأنه من المؤسف تسمية الفن بالحديث والقديم “فكل فنان تشكيلي هو حالة خاصة قائمة بحد ذاتها تحت بند الزعامة. يمكن القول أن هذا عمل فنانٍ ما دون تدجينه ضمن مدرسة أو زمن. فالإبداع حالة خاصة يمكن الإطلاع عليها بسبب إبداعيتها وبالتالي قدرتها على الاستمرارية في الحياة في أي وقت وأي مكان”. هذا الإطلاع والقراءات لم يجعل سبهان يفكر في الكتابة الأدبية بسبب صعوبتها “لأن لها سقفاً. وأية كتابة تحتمل الصدق بأمراضه ومآزقه، بالإضافة إلى سطوة الخطاب بتلاوينه الكثيرة. إذا فكرتُ بالكتابة فهذا يعني أنني سأدخل في هذه الدوامة السيئة. من الصعب أن يكون لي تسعين ألف فم في فمي. الرسم عندي أقرب وأسهل.”.

أحد النقاد الفرنسيين(ميشيل باكيه)، في مقالة له في صحيفة فرنسية، يقــول أن سبهان آدم متأثر، لدرجة محو الخصوصية، بأكثر من أربعين فناناً تشكيلياً من مختلف المدارس والأزمنة، بالإضافة إلى أنه “مستعلٍ على الثقافة”. هذا النقد لا يزعج سبهان، ولا يتوقف عنده أيضاً، لأنه يعمل ما يريد. “هناك الكثير من الأشخاص الذين انتقدوني، لدرجة الشتم، والذين قدموا لي خدمات كثيرة ساعدت في شهرتي وانتشاري، وهناك أشخاص طردوني بسبب رأيي ومزاجي المختلف. أنا لا أفكر بالأشخاص، لا عن سبب دعمهم لي ولا عن سبب طردهم لي. الأشخاص عبارة عن أشياء هلامية. أنا أجد راحتي في الرسم والاستمرار فيه. لا أستطيع أن أشغل دماغي وراحتي بذلك. الراحة هي أن يكون هناك عصفور محلق في الدماغ. ليس ميتاً أو واقفاً على غصن”.

البقاء في الرسم والرغبة العارمة في عدم التوقف تجهد سبهان للوصول في الشهرة إلى العالمية وعدم الاكتراث لكل ما يقال عن عدم أصالة فنه تاركاً الحكم لصالات العرض والانتشار. “أنا قلق بشكل ٍ دائم، وهذا القلق هو الذي يمنعني من النوم. أفكر بكل شيء ٍ حولي. أفكر بالطاولة والخشب والحديد والإسمنت. عن نفسية هذه الأشياء وكائناتها. إنها تهمني أكثر من الأشخاص لأنها صلبة ثابتة تتحول ولا تموت. أفكر كيف تستطيع كل هذه الحياة أن تستمر رغم تعرضها لشقاء أدوات النحت والصهر والتذويب. أحاول أن أعرف مدى قربها وبعدها وتأثيرها على عزلة الكائنات التي تعيش في داخلي. أنا لا أفكر بالعالمية ولكنني أفكر بالعيش مرتاحاً، خاصة من الناحية المادية. أن أكسب الكثير من النقود كي أظل قادراً على الرسم. أن أعتزل أكثر. فرغم أن الزمن فسيح إلا أنني ضيق، لذلك ضحيتُ،دون أن أقصد، بكثير من المواعيد والأصدقاء.”.

قرأ سبهان آدم كثيراً واطلع على مسيرة الفنّ ولكن لم يعجبه كل شيء. “قرأت (عمانوئيل كانط) ولم أفهم منه كثيراً، مع ذلك أحبّ العديد من المقاطع التي كتبها وأحفظها لأنها تعتبر زيت الفلسفة”. ينطبق ذلك على الأدب وزيت الكائنات التي تعيش بداخله وحوله!. ” أحب نيتشه عندما يقول بأنه يجب على الإنسان أن يعيش في خطر. أنا مؤمن بهذا الكلام، مثل إيماني بفنانين كثيرين، وحياة بعض السياسيين. وغير مؤمن بالثقافات الخطرة (الأمركة، الأوربة)”.

سبهان يرفض الاشتراك في معارض فنية مشتركة بسبب”عزلة الكائنات في لوحاته، إذ أنها متآلفة في جوها العام مع بعضها البعض ولكنها ترفض أن تـُعلق مع كائنات لوحات أخرى”. وهو ينصح الآخـرين أيضاً بالعرض فردياً. إذ أنه لا يفهم كيف يشترك فنانان في معرض واحد وهما مختلفان في كل شيء. سبهان الذي ذهب إلى باريس وباع لوحات كثيرة لم يزر أي معرض هناك، رغم أنه دُعي إليها، حتى لو كانت لفنانين عالميين. وفوق ذلك يستغرب كيف يقوم الناس بشراء لوحاته ولوحات الآخرين. “الرسام يرسم لذاته، وكذلك الشاعر والروائي. فأنا أتعجب من شراء الآخرين للوحات بأسعار قد تكون باهظة، خاصة أن المشتري يستطيع أن يرسم. كيف يشتري أحدهم شيئاً خاصاً بالآخر، وكيف يكون هناك أحد ما ينتج ويبيع للآخر أشياءه الخاصة؟”.

عندما سألت سبهان عن سبب وجود أكثر من مائتي لوحة بخلفية حمراء. ردّ بأنه لا يتورط في التفكير بلون خلفية اللوحة “اللون الأحمر في خلفية اللوحة هو ليس الأحمر المعروف والدارج. أشعر بأنه أحمر خاص بي يتغير وفق نفسيتي و قراءة نفسية اللوحة”. وهذا يذكرنا بحديث ” لغارسيا ماركيز” عن الأصفر الذي يفضله والذي يراه مختلفا ً عن الأصفر الدارج، في أحد حواراته الصحفية الطويلة.

يشجع سبهان جميع الناس على الرسم، ويرى أنه بإمكان الجميع أن يرسم ربما أفضل من أسماء كثيرة تتحكم بالمعارض والإعلام وسوق اللوحات. كما أنه يشجع الآخرين من فناني جيله (رغم نبذه لهذا المصطلح). فالخوف يتكسر أمامهم عندما يسمعون بتجربته وشهرته وأماكن عرض لوحاته وتسويقها. لكنه يرى أن مشكلته هي مع الإعلام لعدم وجود وقت لديه للانتشار إعلامياً، حتى أن هناك الكثير من اللوحات المنشورة والمنتشرة إعلامياً مسروقة من أعماله “ولكنـني لستُ متفرغاً للدفاع عن حقوقي وفضح لصوصية الغير”.

بانتهاء معرضه يسارع سبهان للعودة إلى الحسكة (شمال شرق سوريا)، ليرتاح بين أهله والعلاقات العائلية البسيطة، والعزلة التي يجدها متوفرة، وبالتالي القبض على ضوء الرسم، أكثر من تواجدها في دمشق أو حلب أو اللاذقية، حيث الإعلام وصالات العرض المحلية والأجنبية.

معرضه الأول كان في المركز الثقافي بالحسكة عام 1989حين كان عمره سبعة عشر عاما، ولكنه لا يريد أن يتذكر ذلك، بل يعتبر بدايته الحقيقية في عام 1995 في المركز الثقافي الألماني (غوته)، ويؤكد أن الشعر كان حاضراً في بدايته، ولكن بعد المعرض الثالث “بقيَـتْ العين و ذهب الشعر”. سبهان لا يحمل سوى الشهادة الإعدادية، والتي حصل عليها بصعوبة بعد رسوبه في امتحاناتها في المرة الأولى. ولم ينتسب إلى كلية الفنون الجميلة، وإنما حصل على معارفه في الرسم بجهود ذاتية. كان حلمه في الطفولة المبكرة أن يصبح بائع فلافل “بسبب رائحته الأخاذة والرائعة”. ثم حلم أن يكون لصاً تأثراً بروبن هود وعادل أدهم وتوفيق الدقن. وعندما دخل المدرسة الابتدائية كان يتمنى أن يصبح آذن المدرسة (فرّاش) تأثراً بآذن مدرسته أبي هاشم. كان يريد أن يكنس صفوف المدرسة ويبيع السكاكر والبسكويت للأطفال. وعندما أصبح عمره خمسة عشر عاماً كان يبيع الدخان المهرب. أما الآن فإنه يتمنى أن يصبح “راعي غنم” لأن زواجهم وحياتهم الفارغة وعملهم محفوظ ومؤمَّن ويعيشون دون قلق بل براحة كبيرة لا يمتلكها أبداً.

ربما هذه الصراحة من قبل التشكيلي سبهان، بعد شهرته ومعارضه الكثيرة، قد تكون مضحكة أو مدعاة للسخرية أو لتصفية حسابات معه، إلا أنها صراحة الشخص الذي يريد لو يكتب سيرته بحقيقتها التامة. سيرة لا يتم إنشاؤها من أجل الإعلام والناس والأهل .”ولدتُ في بيت ريفي. لم يكن هناك بيئة مثقـفة كي تريد مني أن أصبح طبيباً أو مهندساً. تلك البيئة الريفية هي الأكثر حناناً وإيلاماً. أنا لم أرسم في صغري، إنما تزوجت فجأة وطلقت فجأة ورسمتُ وأصبحت مشهوراً فجأة .. أهلي ربما كانوا يريدون مني أن أصبح شرطــي مرور”!.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى