ما يحدث في لبنان

الدوحة والكوابيس وآمال الخارج

null

حازم صاغيّة

سيّئٌ جدّاً أن تتلوّن قوّة سياسيّة ما بلون الكابوس. هو سيّئٌ على غيرها بالطبع، ولكنْ سيّئٌ عليها هي في الدرجة الأولى وإشارةٌ الى ابتداء موتها المديد.

والمعارضة اللبنانيّة استكملت صورتها ككابوس. فحين تجلو خيمها عن الوسط التجاريّ، يتنفّس الناس الصعداء، وتعود الألوان والحركة والبيع والشراء وفرص العمل وزهو الأوجه ولعب الأطفال. هكذا يتّضح، من دون حاجة الى شرح، ذاك الفارق بين غنى الواقع وإعدامه. وحين توقف قوى المعارضة حربها، وهي وحدها من يشنّ الحروب، يخرج الناس من الأقبية والملاجئ وتُفتح المدارس والمؤسّسات وترجع علامات الحياة العاديّة. وحين يهبط «عناصرها» من الجبل، تبدو الأمور وقد عادت الى نصابها.

والكابوسيّة هذه لازمت صورة تلك المعارضة منذ نشأتها: مرّةً تحرق ومرّة تقطع الطرق ودوماً تهدّد وتتوعّد، على ألسنة قادتها الكبار، بالقطع والبتر وسائر العقوبات التي باتت الحضارة تنهى عنها. وهو ما يشي بافتراق عن الواقع لا يزال يتعاظم، يقابله ميل الى قسر الواقع واستئصاله لا يزال، بدوره، يتعاظم.

فصوغ لبنان الـ18 طائفة على قاعدة المقاومة لا يُقنع إلا من يقتنع بالمقاومة في ظلّ التفاوض السوريّ – الإسرائيليّ عبر الأتراك. والقول إن حرب بيروت الأخيرة ضربة استباقيّة «فُرضت» على «حزب الله» لا يردّدها إلا الذي يردّد أن حرب تمّوز (يوليو) كانت أيضاً عملاً استباقيّاً «فُرض» على الحزب نفسه قطعاً لدابر المؤامرة. فدائماً يُحمَل الحزب المذكور على الهجوم وهو لم يولد إلا ليكون دفاعيّاً، ودائماً ما ينتصر على خصوم «متآمرين»، فيردّ الصاع صاعين للذين يُفترض بهم أن يكونوا ضالعين في ذكاء تخريبيّ استثنائيّ!

وسَوقنا هكذا بعصا الميثولوجيا معضلة عميقة المصادر في حزب لا يريد أن يُسمّى طائفيّاً، فيهرب من هذا التخصيص الى عموميّة المقاومة. إلاّ أنه، بوصفه الطرف الأشدّ راديكاليّة في طائفته، لا يسعه المضيّ في حجب لونه الخصوصيّ. هكذا تتولّى الأدلجة المتعالية تزوير المطالب والرغبات الفعليّة، ما يعقّد دوماً جلاء الصور وما يقود الى تضخيم جيب الخرافة التي تستهوي الأطفال والمُطفّلين.

لقد غدا معظم اللبنانيّين، نتيجة الأمثلة هذه وغيرها، حيال انفصام غير معهود بين لغة المعارضة، و «حزب الله» منها خصوصاً، وبين لغة تتراوح بين المدنيّة والحسّ السليم. وهو ما يمكن قياسه على الفئات الأقلّ تسيّساً والأقلّ تطيّفاً ممن صارت اللغة الأولى لا تثير فيهم غير ابتسامة صفراء وحركة يد عازفة مترفّعة. فحين تمسي الأمور على النحو هذا تضحي القوّة، وقد افتقرت الى كلّ طاقة على الإقناع، ذاك الكابوس المحض الخارق.

وهكذا فإن ما تمّ في الدوحة وأطلق ارتياحاً مشروعاً، يُستحسن ألاّ يطلق أوهاماً عراضاً أيضاً، من قبيل القدرة، الى ما لا نهاية، على العيش مع الكوابيس المؤسطرة. ولربّما جاءت الدوحة تعبيراً عن استنفاد اللبنانيّين، موالاةً ومعارضةً، قدرتهم على التعامل مع الأزمة. فكلّ منهما جرّب علاجاته وانكشفت له حدود قوّته في تثبيت الكوابيس وفي إزاحتها. إلا أن ذلك لا يلغي وجود أزمة وكابوس يبحثان عمّن يبدّدهما مما لا يستطيعه سكّان البلد الصغير وقواه السياسيّة. فهل الأمل في سلام سوريّ – اسرائيليّ ربّما بات وشيكاً، في الذكرى الثلاثين لتوقيع معاهدتي كامب ديفيد، يوم شقّ أنور السادات الطريق الوحيد الممكن والمتوافر، تاركاً الكوابيس تتدبّر أمر المقاومين؟
الحياة – 24/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى