حزب الله والخلل في التوازن
لؤي توفيق حسن
تتفاوت القراءة لأحداث 8 و9 أيار بحسب الاهواء السياسية للمراقب. فالبعض يراها فخا منصوبا للمقاومة وقد وقعت فيه، فيما يرى البعض الآخر انها نصر موصوف لها مكنها من عمل (خرق استراتيجي) أوصل الى الدوحة وفرض بحث ما كان مرفوضا مجرد بحثه حتى الأمس القريب.
أما الحريص على المقاومة، بما هي وبما تمثل، فيحتاج الى جهد أكبر كي ينخب الحقيقة بين القولين السابقين. إذ لا يسمح العقل ولا بأي منطق تقبل فكرة تقصد حكومة السنيورة من قراريها ان تكون ضحية فطعماً لاصطياد المقاومة!!.
وهي لا تملك بالاساس الوسائل المادية لوضعهما في حيز التنفيذ، فيما لا يحتاج شارعها ـ لا سيما السني والدرزي ـ الى مزيد من التعبئة التي استمدت مادتها من أكثر من مكان، ومنها أخطاء حزب الله بالذات بدءا من التأخر في ادراك أهمية تعميم المقاومة ولو بشكلية («سرايا المقاومة»). وليس انتهاء بالاستعراضات العسكرية الضخمة لالوية المقاومة في المناسبات. والتي جاءت بوقعها لتلاقي الحقن الطائفي في ذروته وهو يسعر المخاوف من (المد الشيعي)!.
ان الأطراف اللبنانية التي فشلت في الحفاظ على تحالفها الرباعي المعقود قبل ثلاث سنوات، قد فشلت في بناء قواعد للصراع في ما بينها، تتجه عادة الادارات الواعية بفنون الصراع وتؤدي الى تفاهمات ضمنية لا يمكن الوصول اليها الا بعد سلسلة من الجرعات المدروسة. يظهر فيها كل طرف قدراته ما يؤدي في النهاية الى رسم الخطوط الفاصلة، او تجميلها لتثبيت الصراع عند مستوى معين و(تقليل كلفته)! بانتظار التسوية التي ترسي الحدود النهائية لنفوذ الطوائف ـ ولا سيما الكبرى ـ بعد إعادة تموضعها كما نشهد الآن على ما يبدو!!.
لا شك بأن ما أقدمت عليه حكومة السنيورة في قراريها هو من هذه الجرعات غير المدروسة، على مقياس ميزان القوى. وهو ما دعا الى ترجيح امكانية وجود جهة خارجية أوحت بذلك. لكن، بصرف النظر عن مدى الدقة في هذا الاعتقاد، فان الخارج لم يكن غائبا قط في اماكن أخرى وساهم في تشويش الرؤية أمام تجمع 14 آذار، حد اعتقاد بعض اقطابه انهم قادرون على كبح حزب الله. فيما ساهم هذا الاخير بدوره في تكريس هذا الاعتقاد ـ بالمعنى السلبي ـ عندما بدا متسربلا في السياسة بفائض قوته العسكرية!!.
وفي ظاهرة نادرة تتنحى القوة حد القول «لن نفعل شيئا حتى لو قتلتم منا الفا»!!. وهو ما بدا رسما لسقف من اللاعنف على طريقة المهاتما غاندي!. ودفع الى الاستنتاج بأن المقصود بالتهديد عام 2005 أي بقطع اليد التي تمتد على سلاح المقاومة ليس سوى اسرائيل.
لعل ذلك الفهم او الانطباع قد شجع حكومة السنيورة على الاعتقاد بأن رد الفعل على قراريها لن يتعدى مجالس الاعتراضات الكلامية. ما يضعهما في حدود (ربط النزاع) كما تصورت او صوّر لها فيصبحان فيما بعد من بنود المساومة على طاولة التسوية!!.
كان يمكن قطع الطريق على هذا العبث لو لم يغب عن الحزب كونه الأقدر على المبادرة. ان (الردع) وهو الطريق الأقصر لتفادي الاشتباك، يستند الى قاعدتين: الأولى انه «علاقة سيكولوجية تتوقف على التصورات التي تنطبع عند الطرف الآخر وتتحكم في سلوكه»، على حد وصف احد كبار الاستراتيجيين المعاصرين ـ (جيرفس) ـ.
أما الثانية فيرسمها آخر بنفس المستوى ـ (أورم) ـ بقوله «إذا تأخر الردع يصبح أقرب الى الإكراه في ما بعد لانه يجب عندئذ تغير قناعة المتحدي لوقف العملية بعد بدئها.. بدلا من الامتناع عن تنفيذها».
وهذا بالضبط هو ما حدث مع حزب الله في 8 و9 أيار حيث استعمل جرعة عالية من (الرد التعويضي). غير متناسب قط مع السبب. بل هو بالكيفية والطريقة عمل عسكري بحجم (ثورة)، او (انقلاب) على حد وصف تجمع 14 آذار. فاذا كان هذا هو القصد لدل ما حدث على خلل (معرفي) في قضايا الثورة التي تحتاج بحد أدنى الى كتلة سياسية أفقية متماسكة وجذرية خلافا للعديد ممن تحالف معهم حزب الله او صنّع بعضهم!!.
وأياً كان الأمر، فان الحزب بات الآن في وضع حرج سيتحمل فيه وزر أمرين: نتائج ما أقدم عليه. ونتائج الانكفاء عن اتمامه!.
فالاقدام مجرد الاقدام أسقط كل المقولات والحجج بان السلاح لن يتوجه الى الداخل. وأجج مشاعر الخوف. ورفع من حدة ردات الفعل العدائية حياله في الشارع الآخر.
والانكفاء سيفتح المجال واسعا كي يترجم فيه هذا السخط الى فعل حقيقي ـ (في جولة أخرى!!) ـ يتداخل فيه الداخل بالخارج كما يتصور البعض.
وبناء عليه يبدو أن ما حصّله حزب الله ـ آنيا ـ في الدوحة هو أقصى ما يمكن أخذه. لكنه لن يفك عنه الحصار وهو واقع بين حرصه على السلاح، وعدم قدرته على الامساك بالسلطة بمعنى انتاج او دفع قوى سياسية بديلة. وهذه الاخيرة تطرح السؤال عما إذا كان للحزب بالأساس مثل هذا الافق او كما كان يأمل به حلفاؤه «رافعة تغييرية»! على حد قولهم.
الوقائع أثبتت عكس ذلك وآخرها انه ذهب الى الدوحة كحزب شيعي وحسب، وليس كرأس تيار مقاومة عريض. فأدار ظهره لأقرب حلفائه أمثال عمر كرامي، وأسامة سعد، ولا سيما انه بحاجة الى (الصورة) بحد أدنى بعد احداث 8 و9 أيار، فضلا عن الصلافة في اقتصار التمثيل السني على جهة بعينها وخلافا لغيرها.
يجد المراقب الحريص أمرا مقلقا. وهو ان الأداء السياسي لحزب الله لم يعد يجاري منظومته العسكرية القوية.
اما العارفون من أصدقائه فيلحظون ان المؤسسة ـ او المؤسسات ـ المدنية في الحزب قد دخلت في حالة من الترهل والبيروقراطية، ما أفقدها (حسها الثوري). او بلغــة أخـرى ميزة الجندية المتيقظة!!.
والخـلاصة ان هذا الخلل في التوازن هو الذي أوجد هذه المشية العرجاء. ليأتي السلاح فيغطي عليها!
([) كاتب لبناني