ما بعد جدار برلين: العالم مكان خطر!
أركوس فلامينيو بيريس*
في الذكرى العشرين لانهيار جدار برلين، أجرى الصحافي البرازيلي أركوس فلامينيو بيريس حواراً مع المؤرّخ البريطاني إريك هوبسباوم، هنا نصّه:
بعد مرور عشرين عاماً على سقوط جدار برلين، ما هو برأيك الإرث السياسي والاقتصادي لهذا الحدث؟
إريك هوبسباوم: بالتأكيد، الإرث الاقتصادي هو أقل درامية من الإرث السياسي. اقتصادياً، مثّل السقوط تدميراً لما بقي من نظام اشتراكي موجه في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، الذي كان أصلاً على مسار انحداري، واندماجاً للمجموعة الاشتراكية القديمة في الاقتصاد الرأسمالي المعولم.
وقد أدى ذلك إلى انهيار اجتماعي واقتصادي في الاتحاد السوفياتي السابق، مع أن روسيا وعدداً من الجمهوريات الاشتراكية القديمة عرفت في ما بعد انتعاشاً ما نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة وعدد من المواد الأولية الصناعية.
وستبقى هذه المنطقة على الأرجح مع بعض الاستثناءات، بالمقاييس النسبية، متأخرة عن الغرب أكثر مما كانت قبل سقوط الجدار.
أخيراً، نما في هذه المنطقة مستوى معيب من التفاوت الاقتصادي.
أما النتائج السياسية، فهي ضخمة، إذ حوّلت روسيا من قوة عظمى إلى دولة لم تعد اليوم أكبر مما كانت عليه في القرن السابع عشر.
إضافة إلى ذلك، قفز الاتحاد الأوروبي من 15 إلى 27 دولة، وقد أُنشئت ألمانيا موحدة في متن الكتلة.
من جهة أخرى، نتج من سقوط الجدار استعادة الحروب (كصراع البلقان في التسعينيات) وعدم الاستقرار السياسي في أوروبا، بعد سقوط الدولة الشيوعية، يوغسلافيا الموحدة. وقد أدى ذلك إلى جعل البلقان أكثر «بلقنة» مما كانت عليه من قبل.
ونتج من سقوط الجدار أيضاً تدمير نظام دولي مستقر، إذ توهّمت الولايات المتحدة أنّها تستطيع، بصفتها القوة العظمى المعولمة الوحيدة، أن تمارس هيمنتها على مجمل الكون، ما أدى إلى تحويل العالم، من الآن وصاعداً، إلى مكان خطر.
لم تتحوّل برلين، بعكس التوقعات الصادرة قبل عشرين عاماً، إلى إحدى العواصم الأوروبية، وقد شهدت ألمانيا، بالرغم من غناها، تخطّي الصين لها اقتصاياً. فهل مثّل سقوط الجدار فشلاً بهذا المعنى؟
هوبسباوم: لم تتحول برلين إلى عاصمة أوروبية كبيرة لأن التوحيد السياسي للألمانيتين الغربية والشرقية لم يحولها إلى بلد موحد بنيوياً.
وقد فقدت ألمانيا الشرقية السابقة قاعدتها الاقتصادية لمصلحة ألمانيا الغربية، مع أن سكانها هم اليوم في وضع أفضل بكثير مما كانوا عليه قبل 1989. أضف إلى ذلك أن الشطر الشرقي يعرف مستويات من البطالة العالية، وما زال يفقد جزءاً من القاطنين فيه لمصلحة ما كان يُعدّ ألمانيا الغربية.
سكان برلين اليوم هم أقل بكثير من أهميتها التاريخية. وتبدو للزائر ككائن نحيل يرتدي معطفاً كبيراً لا يلائم وزنه الحالي. أما ثقافياً، فلم تستعد برلين الموقع الذي كانت تحتله بين عامي1871 (عندما دشنت الإمبراطورية الجرمانية الرايخ الثاني) حتى 1933 (عام صعود هتلر).
هذا لا يعني أن ألمانيا ككل هي اليوم على مسار انحداري. ولا يمكن بالمناسبة مقارنتها بالصين (بلد من 80 مليون نسمة مقابل بلد من 1،3 مليار). ورغم أن الناتج القومي الصيني أصبح يتخطى رديفه الألماني، ما زالت الصين أقلّ نمواً بكثير وأكثر فقراً بما لا يقاس وعلى مستوى مختلف تماماً في ما يخص التكنولوجيا المتقدمة.
وإذا كان هناك من مخاطر في المستقبل على ألمانيا كقوة عظمى اقتصادية، فهي ناتجة من البطء النسبي للنمو الاقتصادي داخل المجموعة الأوروبية.
هل مثّل سقوط الجدار إفلاساً للفكر اليساري؟
هوبسباوم: يرمز سقوط الجدار إلى أزمة الفكر اليساري دون أن يكون هو السبب في ذلك، فتلك الأزمة تعود إلى السبعينيات.
بكل دقة، أنهى سقوط الجدار المعتقد الذي كان يرى في الاشتراكية السوفياتية (اقتصاد موجه تسوقه سلطة مركزية بعد أن قضت على السوق والمبادرة الفردية) صيغة ممكنة من الاشتراكية.
وفي الحقيقة، وبما أنها كانت الشكل الوحيد لترجمة الاشتراكية في الواقع، ألحق انهيارها إحباطاً في صفوف الاشتراكيين ككل، مع أن القسم الأكبر منهم كان له أصلاً موقف نقدي من النظام السوفياتي.
يبقى أن جذور أزمة اليسار أقدم من ذلك بكثير، ولم تصل إلى نهايتها بعد. إلا أن انهيار الرأسمالية المالية المعولمة في العامين الأخيرين، وقد مثّل رديفاً لسقوط جدار برلين بالنسبة للأديولوجيا النيوليبرالية، يمنح فرصة لإعادة فتح الآفاق أمام اليسار، على أمل أن يحدث ذلك على قواعد أكثر واقعية من الماضي.
* عن مجلّة «فوليا دي سان باولو» البرازيلية