صلاح ستيتية: أنا لستُ منفياً داخل اللغة الفرنسية
بيروت – الرأي: ما أن يُذكر اسم صلاح ستيتية حتى نستعيد السيرة المضيئة لهذا الشاعر والديبلوماسي اللبناني الذي بدأ حياته بتعلم اللغة الفرنسية بناءً على رغبة والده، ثم شغف بهذه اللغة وصار لاحقاً أحد كتابها الفرنكفونيين الكبار، وكان صديقاً لعدد من الشعراء مثل أدريه بروتون ورينيه شار وسيوران وإيف بونفوا …
تأخر ستيتية في الإعلان عن نفسه كشاعر، فصدرت مجموعته الأولى “الماء البارد المحفوظ” عام 1972 عن “دار غاليمار” العريقة، وكان وقتها في الثالثة والأربعين من عمره. هذه الباكورة وضعت اسمه بقوة في المشهد الشعري الفرنسي. شهرة ستيتية لم تنفِ هويته الأصلية، فهو كما قال عنه أدونيس “شاعر عربي يكتب بالفرنسية”. نال ستيتية العديد من الجوائز كان آخرها الجائزة الكبرى للفرنكفونية وجائزة مهرجان الشعر الدولي، فضلاً عن عدد من الأوسمة التي نالها كسفير للبنان.
في بيروت، حيث كان مدعواً إلى معرض الكتاب الفرنسي، التقينا صلاح ستيتية، وكان هذا الحوار:
* ما هي المحطات الأساسية في طفولتك ونشأتك في بيروت. ما هو الجوهري الذي تتذكره وتعود إليه؟
– أنا من مواليد 1929. في طفولتي، لم يكن لبنان خرج من القرن التاسع عشر. بيروت كانت صغيرة وسكانها حوالي 200 ألف نسمة، ولديها طابع متوسطي قديم ونبيل. كان هناك مساحات خضراء أكثر بكثير من اليوم. وكانت هناك أسواق قديمة تعود إلى القرن السابع عشر، ويوجد منها حالياً في دمشق وحلب ومدن عربية أخرى. أضف إلى ذلك فكرة أن بيروت ولبنان يقعان على المتوسط، وهي المدينة العربية الوحيدة التي تصدح فيها المآذن وتدق أجراس الكنائس معاً. مع مجيئ الفرنسيين في العشرينات وانفتاح المسيحييين بصورة خاصة على الغرب، وكذلك الطوائف المسلمة بدأت تتقبل أشياء غير مقبولة في البلاد العربية الأخرى. كان الشارع البيروتي يضم مزيجاً من الشرق والغرب في بلد منفتح على البحر ومهيَّأ لمناقشة الأشياء. اللبنانيون يشكلون 18 طائفة روحية، وطوال عمرهم يتناقشون على الصعيد الروحاني والثقافي والاجتماعي. هذا يقول أنا عربي، وذاك يقول أنا فينيقي. أما الثالث فيقول إنه متوسطي، فيرد عليه آخر بأن العالم العربي ليس متوسطياً. وأقول هنا أن العالم العربي وخصوصاً الشرق منه لم يكتشف متوسطيته إلا مؤخراً. لماذا؟ لأن القرآن يأتي بصورة عابرة على ذكر البحر. القبائل العربية كانت تنظر إلى الكعبة بوصفها وسط الأرض. الشعوب المتوسطية الأخرى كانت علاقتهم الأساسية مع البحر. علاقة العرب مع الكون قائمة على الأرض. المتوسط هو بحر جميع الأخطار، بحر الغزاة، الصليبيون ثم الاستعمار الفرنسي والانكليزي والإيطالي. القرآن نفسه يقول إنه “بحر الروم”. طوال عمره كان لبنان يتساءل: من أنا. الغريب أن هذا البلد الصغير، حتى في أيام العباسيين والأمويين ثم في العثمانيين، ظل محتفظاً بخصوصية ووضع خاص. وفي فترة الاستقلال قيل إن لبنان ذو وجه خاص. ولذلك أقول إن لبنان كان غنياً بتناقضاته. كانت التناقضات إيجابية في البداية ولكن المنطقة كلها تعرضت لتحولات، وجاءت إسرائيل لتتوّج كل المشاكل التي حدثت. من أنا؟ الذي كان سؤالاً طبيعياًَ تحول إلى نوع من المرض. الحرب الأهلية كانت انفجاراً لهذا المرض العميق الذي بدأ بميكروبات معقولة وانتهى بمرض عضال.
المهم، نعود إلى السؤال. والدي درس في كلية تركية لا يزال بناؤها موجوداً اليوم. ذهب إلى اسطنبول ليحصل على وظيفة تؤمن له الاستقرار المادي. عندما عاد كان الفرنسيون قد وصلوا إلى لبنان. حين سمع أبي الجنرال غورو يقول إنهم باقون هنا ألف سنة، قال لنفسه إن الفرنسيين لا بدّ جادون في كلامهم، ورغب في تعليمي الفرنسية لكي أنجح فيما لم يُعط هو الفرصة للنجاح فيه باللغة التركية. أدخلني إلى مدرسة فرنسية رغم كلفتها الباهظة. ثم تابعت دروسي في اليسوعية. قلائل من المسلمين درسوا مثلي. كانوا يذهبون إما إلى المقاصد أو المعارف. ثم حصلت على إجازة في الحقوق. وفي “المدرسة العليا للآداب” في بيروت، كان هناك شخصان لعبا دوراً أساسياً في حياتي، جورج شحادة الشاعر، وغابرييل بونور مدير المدرسة. كان بونور فلتة بحد ذاته. جاء صدفة إلى لبنان كمفتش للمعارف الفرنسية فأحب لبنان وأحب التواصل المسيحي المسلم. اليسوعيون لم يحبوه لأنه جلب معه بضاعة فرنسية توازي بضاعتهم، وربما بعض اللبنانيين سيحبون هذه البضاعة غير الدينية أكثر من بضاعتهم الدينية. كنت أطرح أسئلة تباغت بونور، فانتبه لي واهتم بأمري. وفي الوقت نفسه، كان هناك جورج شحادة.
* هل كان يعمل في المدرسة؟ هل كان أستاذاً؟
– (يبتسم) كان شحادة أشبه بالقرنفلة التي يضعها الرئيس صائب سلام على صدره. كان شاعراً ملهماً ومدللاً. بونور لم يكن شاعراً. كان ناقداً ويمتلك حساسية أدبية وشعرية فائقة. هو من خلق شحادة. كان صديقاً لأعظم الشعراء في فرنسا. خلق واكتشف شعراء كباراً مثل: إدمون جابيس في القاهرة. اكتشف ماكس جاكوب وكان أول من كتب عنه. صرنا أصحاب أنا وجاكوب ونلت لاحقاً جائزته. واكتشف أيضاً هنري ميشو. عن طريق بونور حصلت على منحة لألتحق بمدرسة الدراسات العليا في السوربون. بونور اقترح علي أن أدرس عند المستشرق الشهير لويس ماسينيون. أنهيت دراستي حول سوسيولوجيا الإسلام. وبصورة خاصة الروحانية الصوفية عند الحلاج وابن عربي. ماسينيون أعطاني جزءاً من شخصيتي. الانسان يولد مرة من أمه ثم يولد عشرات المرات من بعض الكتب وبعض النساء وبعض الشخصيات. أنا أقول أني قرأت كل شيئ، ولكن هناك عدد من الكتب أثرت علي وغيرت حياتي. ديوان الحلاج مثلاً. القرآن. جلال الدين الرومي. السريالية، وكان من حظي أني تعرفت على بروتون شخصياً. كان كاتباً كبيراً ولكني لم أتقبل الكتابة الآلية في السريالية. أحببت الرومنطقيين الألمان: هاينه ونوفاليس. كنت محظوظاً بأن أقرأهم باللغة الفرنسية.
* ما هي مصادر شعرك؟
– الشيئ الذي لعب دور أساسي في حياتي هو النار. نار العالم. وظلام العالم في الوقت نفسه. نار الحب. ونار الحرب، فأنا عشت حروباً كثيرة. كانت الحرب أشبه بعادة متوسطية لا بد منها. قبل أن تصل الحرب إلى بلدي، نشرت أول ديوان لي عن غاليمار عام 1972، وكانت أول قصيدة تقول: “من سينقذ هذا البلد من مجيء أصوات أحذية العسكر الذين قد يأتوا ليخطفوا الماء البارد المخطوف”. إيف بونفوا كتب لي بعد ذلك بسنوات أني تنبأت بما سيجري في لبنان قبل أن تحدث الحرب. نعود إلى النار. نار الكلام المصفى. أنا آخذ اللغة والكلام وأضعه على النار، أخلصه من كل ما يمكن أن يحترق إلى أن يبقى ما لا يحترق. وتبقى الكلمة التي مثل الجوهرة أو الماس. النار تستدعي ما هو ضدها أي الماء. أول كتاب لي هو “الماء البارد المحفوظ”. عندما نكتب لا ندرك من أين تأتي الصور. الشعر هو شفافية على سر. الشعر هو لغة شفافة وقلبها أسود. هذا تعريفي للشعر. الشفافية تجعلك تقبل بالنقطة السوداء في داخلها رغم أنك لا تفهمها، ولكن لأنها مرتبطة بالشفافية فهي قادرة على منحك شيئاً من شفافية السواد أيضاً. السواد فيه شفافية أيضاً. إلى جوار ذلك، هناك تساؤل عن الألم عن الموت.. النور، الليل.. الأديان تعطيك مفتاحاً وحلولاً ناجزة ونهائية. البعض يعتبر أن هذا المفتاح يفتح البيت العام، أنا لست من سكان البيت العام. أنا مثل دوستويفسكي ساكن تحت الأرض. والآن أنا ذاهب إلى الموت مع سؤال: هل هناك من جواب؟ قد يكون الموت هو إلغاء السؤال وليس جواباً. السؤال هو الموت. السؤال يسير معك كظلك.
* ماذا عن حضور المرأة في شعرك؟
– كل كلمة في شعري تقول أهمية المرأة بما هي فيه من كهرباء ومن رمزية. أنا أرى في المرأة أولاً بأنها هي الغير وليس الآخر. عندي شهوة كبيرة للمرأة واحترام كبير في الوقت نفسه. عندي نوع من التقديس للمرأة ولكن عبر الرغبة فيها. تقديسها وتدنيسها بالكلمة نفسها.
* معجمك الشعري قليل المفردات. يبدو أن هذا جزء من سرك الشعري. أنت تشتغل على أشياء ومواد أولية قليلة مثل المشتغلين على المعادن النفيسة. حين نقرأ شعرك نحس أنه شعر صرف. تعمل على اصطياد صور واستعارات من الوجود اليومي ولكنك تحضر هذا الوجود إلى القصيدة وتكتم جلبته فيلمع فقط. هناك سكينة وتأمل عميق ولكن هذا يخفي أسئلة غير مرئية.
– صحيح. عندما أبدأ قصيدة تأتيني أولاً كلمة أو ثلاث كلمات. وأروح على مدى أيام مثل شخص يحاول أن يُخرج شبكة العنكبوت من عتمتها الداخلية من دون أن يفسد خيوطها. وهذه عملية بطيئة. أعرف إن كانت الكلمة الإضافية القادمة هي من صميم الكلمات الثلاث الأولى أو خارجة عنها. حين يحدث ذلك أحذف ما استجد. أنتظر مع كلماتي الأولى إلى أن تنضم كلمات من نفس العالم والمزاج إليها. قصيدة من عشرة أبيات قد تأخذ مني ثلاثين ورقة بيضاء.
* تقول إنك كمن يركب حصانين. حصان اللغة العربية وحصان اللغة الفرنسية. ألم تشعر يوماً بأنك منفي في اللغة؟
– لا. هناك كتاب كثيرون يكتبون بغير لغتهم الأم، ويقول واحدهم أنه جريح أو ممزق بين اللغتين. أنا لم أشعر بذلك يوماً. وأظن أن السبب الأساسي عائد إلى أني بدأت تعلم الفرنسية وأنا صغير بعمر الـ 4 ستوات. وأظن أني عشقت الفرنسية. كما أني كنت قارئاً نهماً. باختصار أنا لست منفياً داخل اللغة الفرنسية.
* أنت لم تنشر أي كتاب بالعربية. ربما هذا جعل استفراد الفرنسية كاملاً بك وعيشك في داخلها في سكينة كاملة.
– أنا أظن أن الكاتب لا يستطيع السيطرة على لغتين. أظن أن هناك كاتبين فقط استطاعا فعل ذلك وهما: بيكيت وناباكوف. الكاتب هو ابن اللغة، ومن الصعب جداً أن تكون له أمَّان.
* هل ساهمت صداقاتك مع شعراء مثل شار وبونفوا، وحبك لملارميه ورامبو، في صنع جزء من سمات شعرك؟
– بونفوا يكبرني بثلاث سنوات. كنا في العشرينات حين تعارفنا. لم يكن قد نشر وأنا لم أكن أكتب الشعر وقتها. كان يقرأ لي شعره وأحببته. كنت أحب شعر شحادة أيضاً. بونفوا أثّر في بنبرة إلقائه وصوته. قلت لنفسي: الشعر ينبغي أن تكون فيه نبرة قوية. أنا كنت ناثراً، لأن سيطرة شحادة علي جعلتني أخاف من الشعر. كنت أقول إما أن أصل إلى الطهارة أو النقاء الشعري وإما لا. جاء بونفوا وفهمت منه أن الشعر ممكن. كانت هناك طهارة مختلفة عند بونفوا. ثم قرأت شعراء آخرين، وكتبت الشعر لاحقاً. بعد تبنّي دار “غاليمار” لأول دواويني، كان شحادة عندي وطلب مني أن أقرأ. وكان يوقفني في سطر معين ويقول لو كنت أنا لاستبدلت هذه الكلمة وكتبت غيرها. بعد أن استوقفني مرتين أو ثلاث مرات، قلت له: انتبه، أنا أكتب ضدك الآن. لو كان شعرك يكفيني لما كتبت. أنا أحب شعرك، ثم جاء يوم أدركت أن هذا الشعر لا يكفيني. لذلك لن أغير هذه الكلمة أو تلك. فقال لي الحق معك. وهذا حدث مع الأصوات الشعرية الأخرى.
* تقصد أن أصوات الآخرين تحولت إلى إنجاز شخصي مسجل باسمك، أي أنهم خدموا في شعرك كنوع من القراءات المؤثرة التي تحدث دوماً؟
– عندما تمتلك لغةً وتمتلك عالماً ولديك الطريقة والمهارة فلن تحتاج أحداً بعد ذلك. أنا أخذت من الصوفيين. يقول الله عند ابن عربي أنه كنز مخفي أحببت أن أظهر حتى يُضاءَ بي العالم كله. الشاعر – على صغره – يقول الشيئ ذاته، يقول أنا كنز مخفي أظهر إلى النور حتى الغير يرى أن ما أقوله يعنيه هو أيضاً. النبي يتحدث إلى الانسان باسم الله، والشاعر يتحدث إلى الانسان باسم الانسان. الشعر ليس شيئاً للزينة. معك حق عندما قلت منذ قليل إن مفرداتي قليلة. إنها قليلة لأنها جوهرية: النار، النور، الحب، الموت، القمح، نظرة امرأة، العشب، الغروب… وهذه المفردات غير مصحوبة بكمنجة عالية. أظن أن ما يعطِّل الكثير من تجارب الشعر العربي هو خطابيتها وصوتها العالي. الموسيقى الداخلية موجودة في الكلمات ولا تحتاج إلى كمنجة خارجية ولا تحتاج إلى مسرح ومنبر. الشعر كما أفهمه هو سرّ. في الصوفية، يُقال عن الشخص الملهم والمقرّب من الله: “قدَّس الله سرّه”. ما هو سر الشاعر. إنه عقله الباطن المملوء بالأشياء والتناقضات والوحوش التي ينبغي إظهارها إلى النور بصفاء، وتصبح عناصر من النور نفسه. ما يأتي من الخارج له قدرة على إفساد الشعر أحياناً. فيكتور هيجو شاعر فرنسي كبير، ولكنه أقل الشعراء الفرنسيين شعراً. لماذا؟ لأنه واقف دائماً على مسرح. هو شاعر مهم لأنه هزّ اللغة الفرنسية في زمنه. صادف أني كنت عضواً في لجنة تألفت لمناسبة مرور 200 عام على ولادته، وجرّبت أن أنجز أنطولوجيا لألف بيت من أفضل شعره. أعدت قراءته فلم أعثر على ألف بيت، فأخفضت الرقم إلى 750، ثم إلى 500، إلى أن اكتفيت بـ 279 بيتاً على مستوى مستوى الشعر الطاهر والصافي الذي لا غشّ فيه. وكتبت طبعاً أن الأنطولوجيا هي نتاج ذائقتي، وأن الباب مفتوح لمن يريد إضافة أبيات أخرى. الشعر العربي لا يزال لفظياً. وحتى عندما يكون داخلياً، فإنه – وبسبب تأثره بالشعر الغربي – يمتلك وجهاً نحو الشارع ووجهاً نحو الغرفة. أنا أقرأ لشاعر عربي كبير، فأقول إن هذه الصورة الشعرية مميزة، إنما لا تكون أصلية وصافية، لأني أدرك أني قرأت شيئاً قريباً منها وأعرف من أين أتت هذه الصورة. هذا الشاعر يلقي قصائده وجمهور يستمتع بها، ولكن الجمهور لا يعرف أن ثمة شاعراً يقف خلفه ويلقِّنه ما يقوله.
* هل تقرأ للشعراء العرب؟
– طبعاً. أنا قرأت كل شعراء جيلي، وأستطيع القول إني لعبت دوراً في تعريف الغرب بهم. أنا ترجمت قصائد لأدونيس والسياب. الترجمة عمل صعب. إن لم تكون بمستوى الشاعر الذي تترجمه تجد نفسك وراء هذا الشاعر، وإذا كنت ملهماً ستسبقه. هذا لا يجوز. سأذكر لك مثالاً: كنت قد ترجمت “النبي” لجبران. وبسبب قرار الناشر إصدار طبعة جديدة وفاخرة منه، وجدت أنها فرصة لتعديل في ترجمة بعض الكلمات. قلت للناشر ربما أكون بالغت قليلاً في ترجمة بعض المواضع فلم يمانع. وحين بدأت اكتشفت استحالة تعديل بعض الكلمات فقط. وهكذا أعدت ترجمة الكتاب كله. لماذا؟ لأن شعر جبران رمادي. أنا أضفت إليه قليلاً من الفضة هنا وهناك. لكي أزيل الفضة في هذه المواضع كان علي أعيد ترجمته بالكامل.
الراي