صفحات العالمقضية فلسطين

مات الجدار يحيا الجدار … الآخر بالطبع

حسن شامي
عندما نشر الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط مجموعته الشعرية يعنوان «غرفة بملايين الجدران»، كان يرمي على الأرجح إلى التعبير بلغة الترميز والإيحاء والتكثيف الدلالي والكنائي عن حال الخناق الوجودي التي يتخبط فيها عبثاً الفرد التائق إلى الخلاص من حصار خانق وحابس للقدرات ولشروط التحقق الذاتي. ولم يكن يضيره في شيء أن يلجأ قارئه إلى المطابقة بين عبثية التخبط الفردي وبين عبثية تنسب للدنيا والحياة عموماً، بحيث يتبدى العالم كلّه وكأنه غرفة بملايين الجدران.
مع ذلك، يرجح في الظن أنّ الماغوط لم يكن يفكّر آنذاك، أي في ستينات القرن الفائت، لا في جدار برلين الفاصل بين عالمين وحربهما الباردة ولا في جدران أخرى. فشاغله لم يكن سياسياً ولا جغرافياً، في المعنى العريض للكلمة، ولا بأس بذلك ما دام الأمر يتعلق بمقاربة شعرية للضيق الفردي الوجودي النزعة والبحث عن لغة أكثر حداثة وسيولةً للتعبير عن الحاجة إلى التمرد والشكوى والاحتجاج والقلق. فلنقل إنّ للشعر، كما للسياسة، نصاباً وطريقة في التعبير يستقل بهما ويتمايز عن مستويات ولغات أخرى في تناول المسائل الجامعة والمشتركة. والمقصود بهذا أنّ الحديث عن الجدار، أكان بصيغة المفرد أم بصيغة الجمع، يقود حكماً وبالضرورة إلى المسألة الأكبر التي يتحصل فيها على معناه: الحدود، سواء تعلق الأمر بحدود الفرد أو بحدود الجماعات والدول وأقاليمها المادية والرمزية في آن.
في برلين كان الاحتفال بإزالة الجدار مشهدياً أيضاً. إضافة إلى عددٍ من قادة الدول المعتبرة وممثليها كان الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف الذي كان بلده مركز الإمبراطورية السوفياتية السابقة والمتآكلة، خصوصاً بعد أن كسرت أسنانها في أفغانستان، فجاء سقوط جدار برلين بمثابة تتويج لسيرورة انهيارها. لا حاجة للتذكير بأهمية الحدث ألمانياً وأوروبياً وعالمياً، على أنّ هذا لا يعفي من مساءلة الحدث (الذي أعاد توحيد ألمانيا وساهم في تسريع الوحدة الأوروبية وفي نشر فكرة عن العولمة وفتح الحدود والأسواق)،عن مدى تأثيره وحضّه على معالجة جديدة أو متجدّدة لفكرة الحدود وما تستتبعه أحياناً من إقامة جدران فاصلة. فهناك، على سبيل المثال لا الحصر، من كان يتابع الاحتفال بسقوط الجدار البرليني وترشيحه لأن يعدّ عيداً عالمياً فيما لسان حاله يقول: عيد بأية حال عدت يا عيد، مع أنه شديد الانفتاح على محتجزين في غرفة بملايين الجدران وبنوافذ قليلة. إذ الأرض الوطنية ها هنا تصير أشبه بسجن أو معتقل.
إنه محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية. فقد أعلن أبو مازن عزوفه عن الترشح لولاية ثانية في الانتخابات العامة المقبلة تاركاً للشارع الفلسطيني ولمسؤولين عرب وغيرهم وحتى لمسؤولين إسرائيليين أن يطالبوه بالعودة عن قراره بعدم الترشح، وقد تزامن ذلك تقريباً مع عدم التطرق لا إلى جدار الفصل العنصري الذي أقامته الدولة العبرية في انتهاك صريح للقوانين الدولية ولا إلى الجدران الكثيرة المغروزة غرزاً أشبه بالطعنة المتصلة في قلب الحياة الفلسطينية. فوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون استوحت من ذكرى سقوط «جدار العار» البرليني ما يحثّ على الدعوة إلى شراكة أقوى بين الولايات المتحدة وأوروبا «من أجل إسقاط جـــدران القــــرن الحادي والعشرين» ومكافحة القمـــع الديني الذي تمارسه حركة «طالبان» بشكل خاص. ولم تسعفها المخيلة بأكثر من ذلك علماً بأنها تخوض، إلى جانب الرئيس الأميركي باراك أوباما وأركان آخرين في الإدارة الأميركية، في مباحثات وجولات ماراتونية لإطلاق عملية التفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
لا نعلم إذا كان إعلان محمود عباس عن عدم ترشحه مجرد مناورة لاستنهاض تأييد داخلي وعربي ودولي اهتز كثيراً في الآونة الأخيرة، خصوصاً في أعقاب ما رشح عن ضغوطات أميركية مورست عليه تمهيداً للقاء الثلاثي على هامش دورة الأمم المتحدة، ومن ثمّ لتأجيل قرار التصويت على تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، من دون مقابل، بل حتى من دون ما يمكن تظهيره بجهد جهيد كمقابل، إلا إذا أردنا المصادقة على قول هيلاري كلينتون إنّ قبول نتانياهو بتجميد جزئي للاستيطان باستثناء القدس هو تنازل غير مسبوق. قد يكون صحيحاً أنّ الرئيس الفلسطيني غاضب ومستاء بسبب تراجع الرئيس الأميركي عن كل وعوده السابقة، بحسب معلومات تناقلتها الصحف ونسبتها إلى مقربين من عباس. على أي حال يأتي إعلان ابو مازن، في الذكرى الخامسة لغياب ياسر عرفات وأمام عدة آلاف من المحتشدين، عن رفضه استئناف المفاوضات قبل تجميد الاستيطان ورفضه لفكرة الدولة ذات الحدود الموقتة، ليعزّز الظن بنهاية التفاؤل الفلسطيني بدور إيجابي للإدارة الأميركية والرد على الضغط الأميركي برمي الكرة في ملعبها.
وفي انتظار ما قد يرشح عن اللقاء الذي جمع أخيراً بين أوباما ونتانياهو والذي بقي محاطاً بالتكتم، سيكون على الفلسطينيين وعلى العرب الراغبين في تحصيل الحد الأدنى من الصفة السياسية لبلدانهم ودولهم أن يحركوا معاول كبيرة لخلخلة الجدار الآخذ في التمدد في كل الاتجاهات.
المحتفلون في برلين بسقوط الجدار لا يعوّل عليهم في إسقاط جدران أخرى. بل حتى يحق لكثيرين أن يشتبهوا في تواطؤ سياساتهم مع مشاريع ترفع جدراناً مادية ورمزية، ليس في فلسطين أو غيرها من البلدان المعذبة جغرافياً والمضطربة حدودها، بل داخل مجتمعاتها بالذات. مات الجدار، يحيا الجدار. تلك هي، على ما يبدو، جدلية العولمة والدول المتعدية القومية.
وليس انطلاق المناظرة الرسمية وغير الرسمية حول الهوية الوطنية «القومية» في غير بلد أوروبي، وفي فرنسا تحديداً، إلا مؤشر على نكوص عام يوازي النزوع إلى الانكفاء على ذات ناجزة ويأتي ليكافئ السياسات الداعية إلى رفع الحواجز وتحرير الأسواق وتجاوز الحدود وحق التدخل «الإنساني» في بلدان أخرى.
وخطورة هذا النوع من المناظرات تكمن في تحديد هويات وأصناف وفئات مؤهلة أكثر من غيرها لتحقيق البرنامج العالمي مما يستدعي تثبيت تراتبية وما يشاكلها من عقد التفوق أو النقص. وهذا ما خبرته أوروبا وذاقته في زمن غير بعيد وذاقه معها بشر كثيرون.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى