عشرون عاماً لم يَرنا الزمن فيها
حسام عيتاني
بعد عشرين عاماً على هزيمتها في الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا قد سوّت القسم الأكبر من مشكلاتها الحدودية وحققت مصالحة تاريخية مع فرنسا وانخرطت في بناء المؤسسات الأوروبية التي ستصبح بعد حين السوق الأوروبية المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي. حسمت ألمانيا (الغربية) في الفترة الممتدة بين 1945 و1965 مسألة الانتماء وانحازت تماماً الى الغرب الليبرالي متخلية عن أوهامها الإمبراطورية وقطعت شوطاً مهماً في معالجة علاقتها بماضيها واتجهت نحو المصالحة وطلب الغفران ممن اضطهدهم الحكم النازي. كانت تلك أعواماً تأسيسية لما بذل لاحقاً من جهود لطي الصفحة المضطربة والعنيفة من تاريخ ألمانيا في النصف الاول من القرن العشرين، وكان فيلي برانت رمز الجهود تلك.
في الفترة ذاتها عاشت فرنسا ذروة «الثلاثينية المجيدة» التي بدأت عام 1950 مع النجاحات والنتائج الاولى لخطة مارشال لإعادة الإعمار وشهدت ازدهاراً اقتصادياً وتدفقاً هائلاً في مجالات الثقافة والفنون بالتزامن مع نشاط سياسي ونقابي هادر. ومن العسير إحصاء الاسماء الفرنسية التي لمعت في تلك الفترة والتي ما زالت تحتل مكاناً واسعاً في الحياة العامة، الفكرية والسياسية والأدبية، اليوم.
في الشرق، كان الاتحاد السوفياتي قد استقر قوة عظمى تقارع الولايات المتحدة في «حديقتها الخلفية»، على النفوذ والهيمنة. قوة بلغت ما بلغت بعد تسوية المشكلات الداخلية عن طريق القسر والقمع وهما ما دشّنا ركوداً لازمها الى حين خرابها واضمحلالها.
وبعد عشرين عاماً على انهيار جدار برلين، تمنح أحوال دول شرق ووسط أوروبا عبراً كثيرة. من كان أقرب منها، قبل ارتفاع الستار الحديدي، إلى الاندماج في المحيط الأوروبي كتشيكيا وألمانيا الشرقية وبولندا، سرعان ما استأنف سيرته بحد أدنى من الصعوبات ليعثر على مكان بين الدول الأوروبية. صحيح أن الطريق الى أوروبا لم تكن مفروشة بالورود، لكنها كانت موجودة على الأقل.
أما الدول التي أحبطت بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية رغباتها في الانضمام السريع الى عالم ما بعد الحرب الباردة، كبلغاريا ورومانيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، فلم تجد مفراً من العمل المرهق والمضني لمواءمة قوانينها واقتصادها وأنظمتها السياسية مع «روح العصر». البلقان وحروبه استثناء كبير في الباب هذا.
لا يجب ان يفهم من الكلام أي رغبة تبشيرية بتفوق نموذج الليبرالية الغربية على ما عداه، او أي حكم قيمة مضمرة. المسألة ليست هنا. بل هي تكمن في سؤال عن معنى الزمن بالنسبة الى دول وشعوب بعينها وما هي «كمية» الزمن التي يتعين ان تسيل قبل ان يتاح لمؤرخ أو صحافي أو مثقف، القول إن هذه التجربة السياسية أو تلك قد نجحت أو أخفقت. غني عن البيان ان الزمن ليس واحداً عند أهل الأرض ووتائره وإيقاعاته تحددها جملة معقدة من المعطيات الثقافية والاقتصادية… وليس شأناً بسيطاً اقتراح تعريف واحد (او صوغ مفهومية) للتقدم ومقاصده.
لن نغـــرق هنا في متاهات «الزمن والسرد» كما عرضها بول ريكور بين «حيز التجربة وأفـــق التوقع»، ولا في مفارقــــات «جدل التنوير» لأدورنو وهوركهايمر حول الكيفية التي ينقلب فيـــها السعي الى التقدم والحداثة شمولية قاتــلة. فهذه من المتاهات والمفارقات التي لا تنـــجح في استفزاز مخيلاتنا وأفكارنا الدائرة فــــي مدارات منخفضة، ومنها ينبثق سؤال عمــــا أنجز اللبنانيون في الاعوام العشرين التي انقضت منذ التوصل الى اتفاق الطائف وقرروا ان الاستمرار في التناحر لم يعد مجدياً.
بيد أن بساطة السؤال لا تنطوي بالضرورة على بساطة في الرد. فما أنجز في الاعوام العشرين الماضية، لا يُقارن بأي من النماذج الواردة أعلاه. كانت الاعوام العشرون استعراضاً طويلاً ومملاً لظواهر خبرها أهل المشرق العربي منذ انتكاسة استقلالاتهم في الاربعينات والخمسينات، على الأقل، ودخولهم في دائرة الانقلابات العسكرية والاستبداد المؤدلج: عجز «المجتمع» عن انتاج نخب سياسية ورسوخ انقسامه الى جماعات وطوائف وعشائر. إفراط في الانصياع الى الضغط والتدخل الخارجيين وحث الدول القريبة والأبعد على الانحياز الى أطراف الصراعات الأهلية وهشاشة النظام السياسي وافتقاره الى آليات لتقاسم السلطة أو تداولها. إضافة الى وقاحة استغلال الدول القريبة والبعيدة و «قواها الحية» للواقع اللبناني الى القطرة الأخيرة.
عليه، تبدو الأفراح بتشكيل الحكومة اللبنانية جزءاً من مشهد سوريالي ليس له ما يبرره وليس ثمة من يتقدم ويفسره. والمجلس الوزاري المسمى حكومة وحدة وطنية، لا يقل افتعالاً وصنعة عن «الارتياح والطمأنينة» اللتين عبّرت أطراف الداخل والخارج عنهما بعد إعلان نهاية فترة التشاور والتأليف الطويلة.
وقدرة الحكومة الجديدة على وصل ما انقطع من عمل المؤسسات العامة، بمعنى تحريك العمل الإداري اليومي والبت في معاملات عالقة، هو أقصى ما يمكن أن يبلغه طموح من يعلم أن المجلس الوزاري الحالي ليس سوى المصب الذي تجمعت فيه كل المستحيلات اللبنانية. وظهر من تذاكى وأطلق على حالة الشلل المديدة هذه اسم «الديموقراطية التوافقية». ليس من ساذج يعتقد بأن الخروج من الشلل سيكون في اتجاه رحاب التداول السلمي على السلطة، عبر صناديق الاقتراع، بين أحزاب تخوض العمل السياسي لتنفيذ برامج وطنية عامة. لكنْ، في المقابل، يتعين القول إن التباهي بإلغاء نتائج انتخابات السابع من حزيران (يونيو) الماضي، يصدر عن العقل الذي لا يفهم، ولا يُفهم، سوى لغة القوة والعنف.
وإذا انصـــرمت الأعوام العشرون الماضية من دون أن ينجح أهل بلادنا في تحسين الصيغة التي تستظل علاقاتهم بها، فما من حق أحـــد ان يعجـــب أو يستاء طالما ان العشرات من عشرينـــات السنوات مرت على هـــذه الأنحاء التي تبدو وكأنها تمر بالزمن ولا تراه أو لا يراها.
الحياة