الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

سوريا ـ تركيا: عودة العثمانية أم إقليم جديد يتأسس؟

ميخائيل عوض
العثمانية عائدة، بل العثمانية بائدة، والعود أحمد.. وقول البعض سارٍ ألا ليت الشباب يعود يوما.
عاصفة ضربت في المساحات الإعلامية، وفي ساحات اهتمام السياسيين والمحليين، فأوصدت أبوابا كانت مشرعة لقرن، وفتحت بوابات على مصاريعها، فأربكت إسرائيل وقادتها، وهزت تحالفاً استراتيجياً لنصف قرن ونيف.. وطاولت شظاياها بعض العرب وسياساتهم.
تركيا تنعطف شرقا وجنوبا، وتنفتح على العرب والمسلمين، وتعلق مشاركة إسرائيل في مناورات نسر الأناضول وتفقد سلاح الجو الإسرائيلي أهم عمق للتدريب والإعداد، ورفضت من قبل برغم قاعدة انجرليك، والعلاقات الاستراتيجية الأميركية التركية استخدام أراضيها لغزو العراق، ما عجز عنه أغلبية العرب، ورفضت برغم عضويتها في الأطلسي والضغط الإسرائيلي أن تحاصر سوريا، فحصار سوريا من وجهة نظرها يفجر المنطقة ويغير معالمها، ثم رفضت العدوان على غزة، ولمعت نجماً في تصدي رئيس وزرائها لرئيس إسرائيل في منتدى دافوس، ثم ضربت ضربتها المؤلمة بحرمان الطيران الإسرائيلي من التحليق في فضائها.
تركيا تتأسس من جديد، وتسهم في تأسيس جديد في الإقليم بوابتها إلى العرب شرقا وجنوبا وغربا، ورصيدها الإسلام وشعارها بيت المقدس وفلسطين.
تأسس حزب العدالة والتنمية 2001 ووصل إلى السلطة في تشرين الثاني 2002 بأغلبية حاكمة بنتيجة انتخابات مبكرة فرضتها أزمة حكومة أجاويد تحت ضغط الخلافات والتباينات فيها، وعجز الطبقة السياسية من الإحاطة بتفاعلات الأزمة الاقتصادية التي ضربت تركيا، ووضعتها على شفير انهيار أو تسليم قيادها لصندوق النقد الدولي، واستمر في الحكم يعزز رصيده الشعبي ويسقط المحاولات لإسقاطه حتى الساعة ويتعمق نفوذه وتزداد قوته الثالثة ثابتة، وعندما تتكرر الظاهرة مرات ثلاثاً تصبح قانون، فتركيا رفضت الخضوع ورفضت استخدام أراضيها لغزو العراق، ثم امتنعت ومنعت حصار سوريا، فتبنت حماس وقضيتها، ودافعت عنها، وأوقفت الوساطة بين إسرائيل وسوريا ردا على خديعة أولمرت، وعلقت الكثير من العلاقات مع إسرائيل على فك الحصار عن غزة، ووقف تهويد القدس، وإيجاد حلول للصراع العربي الصهيوني تنسجم مع القرارات الدولية.. ولم توافق يوماً على ضرب إيران، وأسهمت في إسقاط حلف الاعتدال العربي الإسلامي، سني الطابع لتغطية فتنة مذهبية… خط سير واضح، وثبات، وتوثب، بلغ حداً نوعياً في فتح الحدود مع سوريا، وإلغاء التأشيرات مع دمشق والدوحة، خطوات نوعية تأسيسية سريعة تلبي احتياجات طال زمن انتظار خطواتها ومساراتها.
وحزبها الحاكم، علماني مؤمن، ديموقراطي يعود للناس في قضايا الفصل، ويقف على رأيهم في السياسات الخارجية، وعندما لم يعد يحتمل الأتراك صورة الاعتداءات والغطرسة الإسرائيلية كان لا بد من صفعة تلامس قرار فك التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل والذرائع كثيرة: الخلافات على مسائل عسكرية وصفقات إلى تلبية حاجات الناس والانسجام مع مواقفهم وصولا لفك الحصار الظالم عن غزة، وكلها تصب في طاحونة واحدة تجزم برغبة بل حاجة تركيا لفك التحالف والتحرر منه استعدادا وتمهيدا لانتقال يراه الإسرائيليون أخطر مما أنتجته الثورة الإسلامية في إيران من تحولات وهم على حق ومعرفة بالحقائق والتاريخ والظروف والخاصيات.
لحزب العدالة نظرية، ومنظر في الشؤون السياسية والدبلوماسية، بلغ موقعه عن حكمة ومعرفة، ولمشروع، هو عينه وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو صاحب كتاب المدى الاستراتيجي، يضع رؤيته موضع التطبيق العملي وبالسرعة الكلية اللازمة، فالزمن زمن الأسود والغزلان، والحق أن أضعف الغزلان يجب أن يركض أسرع من أقوى الأسود أو مات نهشاً، وأضعف الأسود يجب أن يلحق بأقوى الغزلان وإلا مات جوعا.. والوقت كالسيف أن لم تقطعه قطعك …
هذا في التوصيف، والتعرف إلى العامل الذاتي، العاقل والذكي والحيوي، ونتائج ما فعل، وعن الأزمة الاقتصادية وإفلاس الطبقة السياسية القديمة، والشهادات بالغلة الاقتصادية الوافرة المحققة من الانفتاح شرقا وجنوبا، أما عن الظروف الموضوعية والحاجات والضرورات فيمكن رصد الآتي:
1ـ تركيا ذهبت إلى الخيار الأوروبي شكلا ومضمونا مع الأتاتوركية تيمناً بتجربة أوروبا الصاعدة بداية القرن المنصرم، وخروجاً مستعجلاً على تخلف العثمانية، وما آلت إليه فانبهرت وحاولت التقليد…
2ـ تركيا الخارجة من الحرب العالمية مهزومة، يتصيدها الروس والاتحاد السوفياتي ونموذجه الشيوعي، ترتمي في أحضان الحلف الأطلسي ولها فيه هدفان، الحماية، والدعم والحلف، يدعمها كخط دفاع أول يجب أن تكون واجهة جميلة وجذابة لتحمي نفسها وتغري شقيقاتها من الجمهوريات السوفياتية الإسلامية..
3ـ تركيا المهزومة في مواجهة أوروبا، تنظر إلى نفسها ضعيفة، تريد تسلق القطار ولو في آخر قاطراته قبل أن يفوتها الزمن، فتقبل أية شروط، ما دام المشروع الأميركي الأطلسي صاعداً، وصغيره الإسرائيلي يتعملق فتقع في حلف مع الأطلسي وحلف استراتيجي مع أميركا وحلف مع إسرائيل لتتشكل قاعدة صلبة متساندة مع إيران الشاه، وإسرائيل وباكستان، وإثيوبيا كمنصات ارتكاز لمشروع الغرب الانكلو /ساكسو/ صهيوني يعبث بالمنطقة العربية ويسقطها لينهبها ويبدد قدراتها وطاقاتها.
4ـ والعرب في حالة أزمة، وانقسامات، والقطبان الدوليان يستخدمانهم، وقد أخطأوا مع تركيا بسعيهم للتحرر منها وامتلاك دولتهم الوطنية، بوهم أن الغرب يدعمهم ثم انقلب عليهم وخدعهم. لا ترى بهم تركيا قوة ولا فرصة، ولا من يحزنون.
5ـ بينما الوقوف على أعتاب الاتحاد الأوروبي واستجداؤه، وتلبية كل شروطه جواز مرور إلى العالمية والتقدم. فالتطلع إلى الوراء لا يجلب إلا الفوضى والتخلف والنزف كحال العرب في ما بينهم ومع الجيران الأقربين.
[[[
هي ظروف ودوافع، وأسباب ومصالح وضعت تركيا في المكانة التي كانت، أما بعد فتغير الحال وتركيا بموقعها الاستراتيجي الحاكم تنشطر عاصمتها بين القارتين، وتتربع على مربع خطوط النقل، واتجاهاته الأربعة، وهي في بنية إثنية خلاقة، وانتربيولوجية حافزة، وشباب يغلي ويبدع، يتعلم ويلتمس الحقائق لا بد أن تتغير انسجاما مع المتغيرات وتلبية للحاجات، والأسباب الدوافع عديدة منها:
1ـ سقط الاتحاد السوفياتي وتراجعت الشيوعية ولم تعد خطراً على أحد، وانكفأ الغرب عن تبني ودعم وتخصيص تركيا كواجهة لعرض يغري الآخرين، وصارت مجرد مستعمرة تنهب وتُلبرِل، وتفرض عليها قيادات من نمط موظفي صندوق النقد والبنك الدولي.
2ـ شن الغرب حملة على الإسلام وقيمه، وأعلن حرب الحضارات والأديان، فأصيبت تركيا بأخطر السهام، وغزو العراق وأفغانستان، ومشروعات التفتيت الإثنية والدينية والمذهبية خطر يدمر تركيا، ويذيبها إن نجح كأول من يصاب، ثم صدت أبواب الاتحاد الأوروبي، في الحين ذاته فتحت على مصراعيها أمام أوروبا الشرقية، والحافز لن تدخل تركيا النادي المسيحي كلاما معلنا وممارسة فاقعة.
3ـ إيران المتمردة، والساعية إلى تحرير بيت المقدس تماسكت، وتعاظم دورها وشأنها وصارت قوة إقليمية يلامس الغرب الاعتراف بشرعيتها ومصالحها، بينما لا يعامل الحلفاء بالمثل.
4ـ والمقاومات العربية تصنع انتصارات، وتستنزف الغرب، وتهلكه، وخطه البياني في المنطقة والعالم يهبط بعد أن بلغ ذروة الهيمنة الأحادية ومثالبها، ومنها ما أصاب تركيا نفسها وأحيانا كاد يقتلها.. وصار خيار ركوب القاطرة الأخيرة عبئا محفوفا بصدامات تدمي إن لم تقتل، فلماذا البقاء في القارب الغارق ما دام هناك فرصة قيادة مركب يتحول إلى أسطول قاطر.
5ـ والليبرالية الاقتصادية بتفاهمات واشنطن وموظفيها اختبرت وأنتجت إفقارا وانهيارات، والأزمة الاقتصادية الرأسمالية حافز للبحث عن الفرص والأسواق، والأموال والموارد وكلها في الجنوب والشرق امتدادا إلى أطراف آسيا وتركيا في وسطها على خط تماس بين المسلمين والأطلسي والقوات الأميركية، ونموذج باكستان يحكي عن نفسه بلا رتوش…
تركيا تغيرت، وهي في طريق تغيير يسهم في تغيير الإقليم، وبيئته، ودوره ومستقبله، وتفاعله مع متغيرات العالم وتوازناته الجديدة، فهل هو سعي للعثمانية؟
[[[
لتكون عثمانية، يجب أن يكون امتداد لإمبراطوريات طابعها ومادتها عرب وفرس وأكراد، وحاملها كتاب مقدس، وحروف لغة، وقيم، ونمط حكم، وثقافة قيم، وبيئتها وراثة ما كان من نفوذ وسطوة وحضور، ويجب أن يعود العالم إلى ما كان عليه قبل تسعة قرون ونيف.. وهذا لن يكون..
فالعرب، ينهضون، يقاومون، ويهزمون الغرب وإن لم يمتلكوا بعد مشروعهم للنهوض والقيام.. والإيرانيون قوة مرهوبة، ومتمكنة، وساعية بجد واجتهاد لمكانة تحت الشمس في قلب العالم المحرك للأحداث، وميزان توازن قواه يتحكم بحركة الهبوط والصعود للإمبراطوريات والقوى العظمى.. والتحالف بين سوريا وإيران راسخ لا يهتز وإن اعتورته بعض العقبات والصعاب وربما الإشكالات على نحو التناقض في الوحدة، وسوريا المستقوية بتركيا كانت قد صمدت في وجه أعتى وأخطر وأسوأ حقبة في تاريخيها لم ترفع الراية البيضاء، ولا بدلت بثوابتها والتزاماتها برغم الصعاب والعصاب، والتضامن العربي هدف ثابت بين أهدافها ومعالم عودة المياه لمجاريها واضحة في تبادل الزيارات مع السعودية وما بلغته القمتان الأخيرتان من مرتبة ..
والصراع العربي الصهيوني، المفصل المتحكم في الصعود والهبوط، وفي تحريك دفات الأشرعة ما زال عربياً بامتياز، ولو استمرت مصر تحاصر غزة فذلك إلى حين كما في موقف السلطة الفلسطينية والأردنية، ما دام التغيير ساريا في أوصال السعودية وبين الدوافع الانشغال بأحداث اليمين والصومال، والتحوط من تراجع هيمنة الغرب، بما يقتضيه الأمر من تلزيم سوريا ببلاد الشام وإدارة شؤونها وتسوية أزماتها بالحسنى على قول التاريخ بين الشام والحجاز حبل سرة، وطوق نجاة.
تخرج تركيا من الجغرافية لتعود إلى تاريخها ولتقرأ في كتاب المستقبل، وبيئتها تتغير فتسهم في تسريع المتغيرات وقلب التوازنات.. لكنها ليست العثمانية ولا تستطيع استعادة عهد سلطنة ولى ولا يعود..
هي تركيا تعود، فكيف تفهم العلاقات السورية السعودية: فراغ يبحث عن العرب، فهل يحضرون؟
وما مستقبل العلاقات السورية الإيرانية: حلف استراتيجي شاخ أم يجدد شبابه، أما عن سوريا ومصر فالسؤال عن الفرص والضياع وعمن يقود، وسوريا نفسها لا تنجو من أسئلة والشائع من قول: أعز الله من عرف قدره فوقف عنده..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى