نقاش تركي – أوروبي على أريكة دمشقية…
جهاد الزين
في قلب دمشق العثمانية – المملوكية، في احد الأزقة المتفرّع من شارع مدحت باشا حيث “سوق الصوف”، وفي قاعة مبنية ومؤثثة على الطراز الشرقي الصرف، اتيح لي يومي الثلثاء والاربعاء المنصرمين من هذا الاسبوع ان اشارك في واحدة من اكثر الندوات جدية التي حضرتها حول تركيا في الخمسة عشر عاماً الاخيرة، كما انها من اكثر الندوات المغلقة الابواب، والتي نُظّمت بشكل منهجي لتكون ندوة تفاعل بحثي ونقاشي بين معلقين واكاديميين وسياسيين.
ففي “بيت العقاد” التراثي الذي يضم ايضاً بقايا جدران مبنى روماني، البيت الذي هو الآن مركز (وملك) “المعهد الدانماركي في دمشق”، نظّم هذا المعهد واستضاف الندوة التي حملت عنوان: “تركيا والشرق الاوسط”.
لا اعرف حتى اللحظة من هو المسؤول اكثر عن شبه غياب اكاديمي – بحثي – سياسي عربي عن هذه الحلقة النقاشية التي ضمت عدداً مختاراً ومحدوداً من “صنّاع القرار” الاوروبيين، بينهم وزيرا خارجية سابقان، ونواب في البرلمان الاوروبي، واكاديميون متخصصون اتراك واوروبيون، ومعلقون من صحف اوروبية وتركية كبيرة…
هل المسؤول هو “المعهد الدانماركي” الذي لم يبذل جهداً كافيا على هذا الصعيد فاكتفى بعدد محدود من الاتصالات في مصر ولبنان وسوريا لم نرَ نتيجتها العملية؟ ولولا و جود 3 ديبلوماسيين سوريين، بينهم سيدة، كما وجود زميلين من مجلة سورية وصحيفة لبنانية (“سيريا توداي” و”الاخبار”) لكان الغياب العربي عن محفل رصين كهذا تاماً… ولو ان غرفة اخرى في “بيت العقاد” خُصصت لنقل مباشر عبر “الفيديو” لوقائع المداخلات والمناقشات، ولربما دخل عليها بعض من المتابعين العرب… لم ألحظه شخصياً (علمت لاحقاً ان احد الزملاء العرب وصل واضطر للعودة بسبب ظرف عائلي).
لم يكن “المطلوب” عدداً كبيراً من المشاركين السياسيين والاعلاميين والاكاديميين العرب في ندوة “مغلقة” لم يتجاوز عدد المدعوين اليها الخمسة والثلاثين، ولكنْ حضور بين خمسة الى ستة اشخاص اضافيين مختارين كان يمكن ان يحقق، ليس “التوازن”… فلم نكن في ندوة توازنات سياسية، بل كان باستطاعته تحقيق تفاعل اكثر متعدد المستويات، وبينها النقاش المسؤول العربي – العربي ايضاً على غرار الذي جرى بين الاتراك والاوروبيين… شبه غياب كهذا جعلني امازح باتريك سيل الكاتب البريطاني المعروف والمتخصص بالشؤون السورية وكنا متجاورَيْن على مقاعد الديوان الشرقي المثلث الاضلاع والمغطى بالاردية الدمشقية الموشّاة بالحرير، فقلت له:
يبدو اننا، انت وانا، العربيان الوحيدان في هذه الجلسة.
… لكن قهقهة باتريك سيل بصوته الجهوري على “توصيفي” هذا لم تستطع ان تغطي على المسؤولية الصامتة الملتبسة بين الدانماركيين… وبيننا! فهنا يتعلق جزء من الالتباس بنوع اهتمامات النخب الثقافية العربية من القاهرة حتى بغداد!
• • •
ندخل الآن في صلب الموضوع لنحاول رصد الاتجاهات النقاشية الرئيسية التي ظهرت في المداخلات والمناقشات:
1 – انطلقت، وسط إجماع المشاركين على تسجيل النجاحات الديبلوماسية التركية في السنوات الاخيرة، اسئلة حول “محدودية” الدور التركي، سياسة واقتصاداً. ففي رأي باحث بريطاني في جامعة لندن ان المطلوب الآن الانتباه في رصد الآفاق المستقبلية للدور التركي في محيطه، الى عدد من العوائق البنيوية التي يمكن ان تضع سقفاً لحجم التوقعات حول تركيا في المستقبل، سيما في المجال التكنولوجي الدقيق. وهو ما جعل ايضاً بعض الباحثين الاتراك يذكّرون بنتائج موجة سابقة من التوقعات، انطلقت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمتعلقة يومها (التسعينات) بإمكانات تركيا في دول آسيا الوسطى. وظهر الآن ان نتائج “التوسّع” الاقتصادي التركي كانت محدودة قياساً بدول كبرى، رغم تقدّم الاستثمارات في تلك المنطقة. فهل التوقعات على المستوى السياسي في الشرق الاوسط، إنْ في الصراع العربي – الاسرائيلي او في العلاقات السياسية الثنائية مع دول المنطقة، يمكن ان تذهب ابعد في منطقة تتعدد فيها قوى النفوذ الخارجي وستظل منطقة نفوذ خارجي مع عودة لاعب جديد – قديم بين اللاعبين هو تركيا؟… أين سقف القدرات – التوقعات التركية حتى في ظل التقدم التركي الباهر في المجال التجاري الذي ذكّرنا مسؤول في “الايكونوميست” البريطانية انه ارتفع في سبع سنوات الى سبعة اضعاف في الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية فبلغ 31 بليون دولار عام 1998، في وقت تقدمت فيه الاستثمارات التركية في مصر وليبيا وقطر وتونس والامارات وكردستان العراق… ناهيك عن التقدم غير المسبوق في العلاقات التجارية والاستثمارية مع سوريا… والبالغ في المجال التجاري 2 بليون دولار الآن؟
2 – في البعد الاوروبي، اعترف عدد من السياسيين الاوروبيين المشاركين، ومنهم من كانوا في مواقع رسمية، كوزيرة خارجية النمسا السابقة والتي ترأست المجلس الأوروبي لفترة، بحكم ترتيب بلادها، ان اتجاهات الرأي العام الاوروبية في العديد من الدول تصبح محافظة وبالتالي رافضة اكثر فأكثر حيال مشروع عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي. حتى ان وزير خارجية الدانمارك السابق قال ان احد أسباب خسارة حزبه للانتخابات الأخيرة هو الموقف المؤيد لعضوية تركيا في الاتحاد. والملفت في هذا التركيز على تصاعد الموقف المحافظ في أوساط الناخبين الاوروبيين أن المشاركين، السياسيين منهم على الأقل، ينتمون الى أحزاب يسار الوسط المؤيدة عموماً للاندماج التركي الكامل داخل المؤسسات الأوروبية. مع ان بعض المشاركين الاوروبيين من المعلقين في الصحافة، اعترض على ما اسماه “تعميم الخوف” بشكل مدروس في أوروبا حيال الموضوع التركي، بينما أثار أحد الاكاديميين الأتراك مسألة تجذر “الثقافة العنصرية” في بعض دول أوروبا، بحيث ان البيروقراطيات نفسها تتصرف عملياً على اساس أفكار عنصرية حيال الجاليات التركية… إلا انه في الوقت نفسه، اعترف بأن الموجة العنصرية في تركيا متصاعدة… ولكن عبر “العداء للسامية”.
3 – احد الموضوعات التي كانت “عابرة لكل الجلسات” إذا جاز التعبير هي مسألة: هل تركيا تبتعد عن الغرب في اقترابها الديناميكي الحالي من الشرق الأوسط او “الجنوب” من حدودها أم لا؟
تقريباً، اعتبر جميع المناقشين الحملة الأخيرة على تركيا في بعض الأوساط الاسرائيلية والغربية، على أنها بدأت تصبح معادية للغرب، اعتبروها مبالغة، بل بعضهم اعتبرها تهمة “سخيفة”. وعلى العكس، شدد عدد من الباحثين على وجود قدر من التنسيق في العديد من المبادرات التركية بين واشنطن وأنقرة، رابطين – وبينهم كاتب هذه السطور – بين بعض “انفعالات” رجب طيب أردوغان وبين ازدياد العزلة الدولية على اسرائيل، على الأقل في المجال الاخلاقي، قياساً بتقرير غولدستون أو مواقف الرئيس باراك أوباما من الاستيطان. لكن عدم قبول الاتجاه العام للندوة بفكرة “الابتعاد التركي عن الغرب” حتى في ظل حكم حزب من “جذور اسلامية” لم يمنع من توقع “واسع” في الندوة لعدم إمكان دخول تركيا الكامل الى الاتحاد الاوروبي في “السنوات العشر أو حتى الـ15 المقبلة”… كذلك كان هناك رأي سائد بين المشاركين الاتراك ان قيادة “المشروع التحديثي” قد انتقلت في تركيا الى الطبقة الوسطى الجديدة في الاناضول، وانه لا يبدو الآن في الأفق المنظور إمكانية لولادة تيار سياسي بديل “لحزب العدالة والتنمية”… حتى أن عديدين يتوقعون المزيد من ازدياد نفوذ الحزب في التوازن الدقيق والحيوي القائم بينه وبين المؤسسات العسكرية.
4 – احد الاتجاهات (وحين أقول “اتجاه” أعني أكثر من رأي) البحثية المهمة التي ظهرت خلال المداخلات أو المناقشات التركيز المسلّم به على الدور الذي لعبه الرئيس الراحل توركوت أوزال في الثمانينات والذي من دونه لم يكن ممكناً تصوّر التقدّم البنيوي للاقتصاد التركي كما للدور التركي في المنطقة. غير أن عديدين أيضاً، أوروبيين واتراكاً، تحدثوا عن عقد التسعينات من القرن المنصرم باعتباره في تركيا عقد “السنوات المفقودة” ( Lost)، وهذا على أساس الاضطراب السياسي الذي ساد المسرح السياسي الداخلي التركي في تلك السنوات وبعض الأزمات النقدية الكبيرة التي واكبته. لستُ هنا لأناقش مدى صحة هذه الفكرة التي لفتني انها سائدة في هذا الجو الرصين، ولكن سؤالي الذي يمكن أن نعود إليه في مناسبات لاحقة هو: هل كان يمكن للتحولات السياسية والاقتصادية في تركيا أن تنضج بهذه الصورة لولا اختبارات التسعينات؟ وبينها وصول أول رئيس حكومة من حزب اسلامي في تاريخ تركيا عام 1997 والارباك العميق الذي أثاره، لاسيما الانذار العسكري الذي أدى الى استقالة نجم الدين أربكان يومها، أليس هو المقدمة الضرورية تاريخياً – كما ثبت – لانشقاق أردوغان وعبدالله غول عن أربكان وولادة جيل جديد من “الاسلاميين” سيصل لاحقاً الى الحكم بعد بضع سنوات ويستمر فيه طويلاً حتى الآن؟ أو حتى على المستوى الاقتصادي: هل حالت أزمات التسعينات دون توسع متواصل للاقتصاد التركي، على الرغم يومها مما كان يسميه توركوت أوزال” التضخم الصحي”؟
• • •
الأوروبيون كانوا الأكثر تذكيراً خلال الجلسات بدور “المعايير الأوروبية” في تطوير الديموقراطية التركية… “المعايير” التي يضعها الاتحاد الاوروبي في مجال حقوق الانسان والديموقراطية لتقدم العضوية التركية… لكن هذا لم يمنع بعض المشاركين من طرح السؤال النقدي العميق على أوروبا نفسها: هل المشروع الأوروبي هو فعلاً مشروع معني بالخارج، أم أنه مشروع داخلي قاري؟ والجواب حاسم في تحديد مستقبل الصلة بتركيا… الأوروبية وغير الأوروبية…
النهار