النخب الثقافية العربية والموقف من تركيا: من سوء الفهم السلبي إلى سوء الفهم الإيجابي!
دمشق – جهاد الزين
على هامش المناقشة التي أعقبت الجلسة التي قدمت فيها مداخلتي تحت عنوان: [تركيا في العالم العربي: من نموذج مرفوض الى “نموذج” مرغوب] سألني بعض المشاركين الأتراك في ندوة المعهد الدانماركي حول “تركيا والشرق الأوسط”، وكنا قد انتقلنا لتناول طعام الغداء في مطعم “الخوالي” المجاور في شارع “مدحت باشا”… سألني هؤلاء الاصدقاء عن وقع تعبير “العثمانية الجديدة” الذي وُصِفَت به الديبلوماسية التركية في العالم العربي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
كان عليّ، حسب قناعتي كمراقب سياسي، ان أحذّر الاصدقاء الاتراك من الإفراط في استخدام هذا المصطلح (العثمانية الجديدة) حتى في الجو الجديد الايجابي للعلاقات العربية التركية، وكنا في قلب دمشق التي تبدو غير مترددة، دولة ومجتمعاً، في هذه العلاقة المتزايدة التطور.
أولاً… لأنني لا أعتقد أن هناك “عثمانية جديدة” أو ان بالامكان بناء “عثمانية جديدة”… فتركيا الآتية الى الشرق الأوسط هي تركيا “أوروبية” حاملة محاولة مشروع حداثة، الشرق الأوسط هو احدى دوائرها وليس مقصدها الوحيد. “العثمانية” تعني الولايات العربية السابقة في الدولة العثمانية وليس آسيا الوسطى والقوقاز حيث أيضاً آفاق الحضور الجديد.
ثانياً، لأن العالم العربي حتى وهو يستقبل “تركيا الجديدة” كما لو أنها عائدة اليه كقوة مسلمة فإن تعبير “العثمانية” يحمل قدراً من ذاكرة السيطرة في العلاقة، فضلاً عن “الماضوية” التي تنبعث من تعبير “العثمانية الجديدة” أياً تكن نظرتنا الى الماضي، تمجيدية أو رافضة، فمن الأفضل الطروحات الأكثر مستقبلية التي لا تضلل صورة الأتراك عن أنفسهم كما صورتنا عنهم.
ثالثاً، غير اني أيضاً لفت نظر هؤلاء الاصدقاء الى ان الدوائر الاكاديمية في العالم العربي، وتحديداً في كليات التاريخ في العديد من الجامعات بدأت منذ سنوات تشهد تياراً تأريخياً (الهمزة على الألف) يعيد النظر ايجاباً بتجربة الأمبراطورية العثمانية كتجربة دولة متعددة القوميات والأديان، من ضمن تيار أوروبي وغربي أخذ يعيد الاعتبار لتجارب الامبراطوريات المتعددة الاتنيات كالامبراطورية النمساوية – الهنغارية التي اختفت مثل العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. وكان عليّ أيضاً ان الفت النظر الى ان هذه المراجعة تشمل عدداً من النخب المسيحية في المشرق، بما فيه لبنان حتى بين الموارنة. وتعكس هذه المراجعة موقفاً ايجابياً من تجربة “متصرفية جبل لبنان” في الخمسين سنة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية… ومصدر هذا الموقف تأثير ما بلغته أوضاع المسيحيين لاحقاً قياساً بتلك الحقبة…
إذن مصطلح “العثمانية الجديدة” خطر في الاستخدام الاعلامي العام (وغير دقيقة أصلاً) في العالم العربي… فيما في الدائرة الضيقة لبعض الاوساط الاكاديمية فإن النظرة للتاريخ العثماني – كتاريخ – تتبدل باتجاه تحليلات جديدة تحترم تنوع ذلك التاريخ وبنيته الاسلامية المتسامحة… بصورة من الصور، قياساً بالتطرف الذي ساد ويسود الآن.
… بالنتيجة هذه التركيا… تأتينا اليوم كقوة استقرار… في منطقة غير مستقرة. وهذا، جوهري، في تكوين “قوتها الناعمة”… المتنامية حالياً.
-I-
هنا نص المداخلة:
عاد العديد من النخب الثقافية العربية لممارسة احدى عاداته السيئة: الانتقال من وجهة نظر في قضية أساسية الى وجهة نظر نقيضة بدون أية اعادة نظر نقدية بالموقف السابق، حتى لا نشير الى غياب النقد الذاتي على هذا الصعيد.
لا ينطبق مثل هذا التوصيف مثلما ينطبق بالضبط على التغيير الحاصل في المزاج السياسي لنخب ثقافية عربية تجاه تركيا وتحديداً في مصر ولبنان وعموماً بين النخب الثقافية المشرقية.
والملاحظة الأولى هنا هي أن النخب الثقافية العربية غائبة منذ فترة طويلة عن اتخاذ مبادرات في قضايا سياسية وفكرية اساسية بعكس سلوكياتها الريادية في النصف الأول من القرن العشرين عندما كانت هي التي تطلق مبادرات استشرافية تستبق التحولات الكبرى وتساهم في صناعتها.
بالمقابل فإن النخب الحاكمة العربية هي التي تسيطر الآن على “صناعة” التحول سيطرة تامة. ففي مجال العلاقات العربية – التركية النخب الحاكمة تقود التغيير على الجانب العربي. المثال السوري هنا واضح. إذ ان النخبة الممسكة بالدولة خططت وحدها وصنعت هذا التغيير فيما وقف المثقفون المصريون والخليجيون واللبنانيون والمشرقيون عموماً يتفرجون على تطور الاحداث حتى اليوم.
أما على الجهة التركية فلا شك ان التغيير في العلاقة مع العرب، وتحديداً مع سوريا كان حصيلة تداخل ونضج عدد من العوامل المتضافرة:
• دور “حزب العدالة والتنمية” (AKP).
• الموقف الايجابي للمؤسسة العسكرية تجاه سوريا منذ العام 1998 الذي شهد خروج حزب العمال الكردستاني التركي المسلح (PKK) وقائده من سوريا (ثم اعتقاله لاحقاً) واتفاق أضنة. اي منذ انتهاء استخدام ما سُمي بـ”الورقة الكردية” في التجاذب السوري مع تركيا. والأهم الانطلاقة الايجابية النوعية للعلاقات التركية – السورية منذ تولّي الدكتور بشار الأسد للرئاسة.
• التطور البنيوي للاقتصاد التركي وأهمية الدفع الذي مارسه رجال الأعمال الأتراك في هذا الاتجاه. وهو معطى مُوثّق ومعروف.
-II-
المشكلة اليوم انه لا يمكن الوثوق كثيراً في غياب حركة مراجعة نقدية للماضي في أوساط النخب السياسية والثقافية غير الحكومية العربية بمدى متانة هذا الموقف على المدى البعيد. فهذه النخب تنتقل مما كان يمكن تسميته بـ”سوء الفهم السلبي” للتجربة التركية المعاصرة الى “سوء الفهم الايجابي” في رؤية هذه التجربة. (هذه النخب هي صاحبة “مزاج سياسي” يقترب أو يبتعد حسب كل مرحلة عن الظاهرة الأخرى المعروفة التي يطلق عليها: “الشارع العربي”).
لقد بدأ “سوء الفهم السلبي” بعد تاسيس الجمهورية التركية عام 1923 وتكرّس طويلاً بعد الحرب العالمية الثانية في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والاردن والعراق. فسنوات الخمسينات من القرن العشرين في العالم العربي تأثرت بالمواجهة بين سياسة الرئيس جمال عبد الناصر وبين السياسة التركية الموالية جداً للغرب.
هذه النخب العربية او ورثة تقاليدها هي التي تتحرك اليوم في الاتجاه الجديد. انها متأثرة حالياً بل معجبة بِـ:
• المواقف التركية الجديدة حيال قضايا الفلسطينيين، ورفض التعاون العسكري مع الغزو الأميركي للعراق، والعلاقات السورية – التركية المتقدمة، كما الدور الوسيط في النزاع الاسرائيلي – السوري.
وهي أيضاً متنامية الاعجاب بالتطور الديموقراطي في تركيا الذي يجسده أساساً انتخاب “حزب العدالة والتنمية” وفوزه بالأكثرية.
وعليّ أن أضيف هنا عاملاً مهماً في الموقف الايجابي للنخب العلمانية العربية من تركيا لا يجري تداوله كثيراً هو السلوك السياسي المتوازن لتركيا حيال اندلاع الحساسية السنيّة – الشيعيّة بفعل التنافس الايراني – السعودي بعد تغيير النظام العراقي عام 2003.
مشكلة هذا التصور العربي المستجد لتركيا أنه يربط كل هذه المتغيرات الايجابية في تركيا بدور “حزب العدالة والتنمية” بدون فهم كاف للبنى التحديثية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية التي جعلت من الممكن وصول هذا النوع من التيارات السياسية الدينية الجذور الى السلطة في دولة علمانية كتركيا.
“حزب العدالة والتنمية” يقود التحول الذي نشهد… لا شك بذلك. لكن الذي صنع التحول هو مسار تركي قادته وساهمت فيه النخب العلمانية الكمالية المتعاقبة على مدى عقود منذ عام 1923 وأخذ ينضج في ثمانينات القرن المنصرم.
-III-
الذي نحتاج الى فهمه أكثر من زملائنا الاتراك في هذه الندوة بمختلف اتجاهاتهم هو كيف تتلقى النخب التركية العلمانية، المحافظة أو اليسارية، المؤيدة أو المعارضة لحزب العدالة والتنمية، كيف تتلقى فكرة التقارب مع العرب في الاستراتيجية التركية؟
أطرح هذا السؤال في ما يتخطى السجال الراهن الدائر بين المعلقين الاتراك حول المواقف التركية الرسمية من اسرائيل.
بسؤال أوضح: ماذا حلّ بعدم الثقة التقليدي الذي كانت تبديه دائماً النخب الكمالية حيال العرب… أو حيال قصور العرب في المجال الاقتصادي التنموي أو السياسي الديموقراطي في الأزمنة المعاصرة، مما أدى الى انتشار صورة العربي كـ”حصان خاسر” عند هذه النخب الكمالية؟
ماذا حدث لهذه الصورة السلبية وما تأثيرها اليوم قياساً بولادة وتطور قوى اجتماعية جديدة تقوّم المشروع التحديثي (الأوروبي) في تركيا؟
دمشق – جهاد الزين
(•) راجع مقالة أمس: “نقاش تركي أوروبي على أريكة دمشقية” (13/ 11/2009).
النهار