حزب اللّه في اليوم التالي
ناهض حتر *
كان نجاح حزب الله في كسر تيّار المستقبل سريعاً وسهلاً وتامّاً. وأضيف إنّه كان على نحو ما ضرورياً لفتح كوة في الاستعصاء الداخلي لحلّ الأزمة اللبنانية. غير أنّ الثمن الذي دفعه الحزب لقاء ذلك النجاح باهظ جداً، وصميمي. فهو تطلّب وضع الرصيد العربي للمقاومة الإسلامية في لبنان على الطاولة، من حيث إنّه ظهّر للحزب صورة قوة شيعية مرتبطة بإيران تفرض جبروتها على سنّة لبنان، مثلما فرضت قوى شيعية مزدوجة الولاء لطهران وواشنطن سلطتها على سنّة العراق. وهكذا، فإن الشعور بالهزيمة والقلق لا يساور البيروتيّين فقط، بل ينتشر بكثافة بين أوساط واسعة من العرب السنة.
لدى حزب اللّه، كما نعرف، قدر من الغرور تولّد من إنجازاته في القتال ضدّ إسرائيل، جعله يستصغر أهمية نصرة اللبنانيّين والشعوب العربية له في تأمين حصانته وانتصاراته.
وهو، بحديثه عن «النصر الإلهي» في حرب تموز 2006، لم يدرك الدور الحاسم الذي لعبته الجماهير العربية في شلّ أنظمة حلف الاعتدال العربي عن تنفيذ وعودها للأميركيّين وخططها في تلك الحرب. إنّ «الشرق الأوسط الجديد» الذي أملت واشنطن ولادته وقتذاك، كان يقوم على اصطفاف عربي سنّي ـ إسرائيلي، فشل عملياً وسياسياً، ليس فقط بسبب صمود حزب الله، بل أيضاً وأساساً، بسبب التفاف الجماهير العربية حول الحزب، ورفضها تغيير عقيدتها حول العدو.
ونجاح حزب الله في بيروت كان سهلاً، ليس بسبب نصرة الله، ولا بسبب قوة الحزب العسكرية، بل لأن المعادلة الدولية والإقليمية التي تستند إليها الموالاة اللبنانية كانت قد انهارت بالفعل. إلا أنّ قوى 14 آذار لم تحسب ذلك، وواصلت عنادها وصعّدت هجومها، بينما كانت جبهة حلفائها تتصدّع وتنكفئ. فقد طويت ملفات الحرب الأميركية (على إيران) والإسرائيلية (على سوريا)، وتفكّك حلف الاعتدال العربي داخلياً بسبب تلاشي أوهام تسوية سريعة مع إسرائيل، كما بالنظر إلى تصاعد حركات الاحتجاج الاجتماعي في مصر والأردن.
لكنّ التطور الرئيسي الذي سمح لحزب الله بحسم معركة بيروت هو حاجة إدارة جورج بوش الملحّة إلى إعلان النصر في العراق، قبل بدء الحملة الرئيسية للانتخابات الأميركية. وقد اضطرتها هذه الحاجة إلى التفاهم مع إيران لضرب وتحييد المقاومة الشيعية في البصرة ومدينة الصدر، وكذلك تحييد السوريّين في معركة الموصل ضدّ «القاعدة»، وعملياً ضدّ المعقل الأخير للمقاومة السنية. وكان الثمن المدفوع للتحالف الإيراني ـ السوري واضحاً في لبنان، بينما أحيل تنفيذ التفاهمات المرتبطة بالصفقة إلى قطر، كالعادة.
من الحكمة أن ننظر دائماً إلى قوة حزب الله وحركته، في سياق إقليمي، لأنهما محكومتان، مثلما هو لبنان نفسه، بذلك السياق فعلاً. وليس جديداً القول إنّ لبنان محصّلة إقليمية أكثر منه معادلة داخلية، بل قُل تركيب حسّاس بينهما. لكن الجديد الذي نلحّ عليه، من موقع التحالف مع المقاومة اللبنانية، هو التوقف الآن ومراجعة الموقف كلّه. فأي مشروع مقاوم لحزب الله يبقى وهو يحصد النجاح من القضاء على المقاومة العراقية؟
هذا سؤال كبير وجذري، ويتطلّب ورشة فكرية نضالية تتجاوز الآني. لكن، إلى ذلك، يمكن حزب الله أن يستدرك بالتوقف عند الآتي:
أولاً، أنّ الحليف الإقليمي الرئيسي لحزب الله، أي إيران، هو في نظر العرب السنة والقسم الأساسي من العرب الشيعة في العراق، خصم إقليمي له أطماع توسّعية في العالم العربي. وهذا هو بالفعل الثابت الإيراني الوحيد، بينما الموقف من قضايا التحرير والسيطرة الأميركية والإسرائيلية، فهو يتلوّن حسب مصلحة طهران في التوسع. فهي تقف ضدّ أميركا وإسرائيل في لبنان وفلسطين، لكنها في الوقت نفسه ومن دون أن يرفّ لها جفن، تتحالف مع أميركا في العراق، وتفرض الوصاية على الشعب العراقي، وتحاصر مقاومته إذا لم تكن أداة أمنية في يدها، وتنهج نهجاً شوفينياً صريحاً في ذلك البلد العربي الجريح، بل تحالف انفصاليّي كردستان المتورّطين بعلاقات متشعّبة مع تل أبيب.
ويجادل الحزب بالقول إنّ التدخل الإيراني في العراق هو أفضل مِن تَرْكِه في عهدة الأميركيّين. وإضافةً إلى أنّ هذا القول يمثّل إهانة عميقة لذاتية العراق العربية، ويتضمن النظر إلى العراق بوصفه كعكة من الخير أن يحصل طرف مسلم على حصة منها، فإنه غير صحيح إطلاقاً. فالتدخل الإيراني في العراق ـ عبر دعم ما يسمى العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية في ظل الاحتلال ـ هو الذي مكّن الأميركيين من البقاء في البلد حتى الآن. وقد ظهر مؤخراً بوضوح الدور الإيراني في كبح المقاومة والتمكين للمحتلين من خلال دعم الاحتلال وحكومته في مواجهة المقاومة الشيعية في البصرة وبغداد.
وتدرك إيران أن بقاء نفوذها في العراق مرتبط بوجود الاحتلال مثلما يدرك الاحتلال أن طهران حليف أساسي لبقائه.
وجرائم الاستخبارات الإيرانية في العراق تقشعر لها الأبدان، من مطاردة ضباط الجيش العراقي السابق وأعضاء النخبة العراقية والعروبيين الشيعة، بالاغتيالات والاعتقالات والتهجير… في عملية انتقامية بشعة إزاء العراقيين الذين أسهموا في الحرب العراقية ـ الإيرانية. وكل ذلك تتردّد أصداؤه في العالم العربي ويجعل من تحالف أي طرف عربي مع إيران موضع ريبة وشك.هل يستطيع حزب الله أن يؤسّس لموقف جديد علني من العراق يقوم على إدانة العملية السياسية الاحتلالية، وسحب الاعتراف بها وبقواها وحكومتها، والانتقال من معاداة الاحتلال إلى معاداة حلفائه الداخليين، ونصرة المقاومة العراقية بوضوح وقوة؟
في منظور موازين القوى، يستطيع حزب الله أن يظهّر هذا الموقف من دون أن يتأثر تحالفه مع إيران. فعلى الحزب أن يدرك أن طهران بحاجة إليه أكثر مما هو بحاجة إليها. لكن الأهم هو أن مستقبل حزب الله مرتبط بتأكيده الحازم على عروبته، وعلى النظرة العربية للصراعات في المنطقة. إنّ تعريب حزب الله، فكراً ورؤية وسياسة، هو السفينة التي ستنقذه من الغرق في الاقتتال المذهبي في لبنان.
ثانياً، يمكن، على هذا المهاد فقط، البدء بتنفيس الاحتقان المذهبي في لبنان نفسه، وسحب البساط من تحت تكوين قوة سلفية سنية لبنانية تنقل الأنموذج العراقي إلى لبنان، انطلاقاً من تحريض ينطلق من الدور الإيراني البشع في العراق. لكن هذا، في النهاية، مهاد لسياسة داخلية وعربية جديدة على حزب الله أن ينتهجها فوراً. ففي الداخل، على الحزب أن يبادر، رغم كل شيء، إلى إنقاذ تيار المستقبل من التفكّك والانهيار، ليس فقط من خلال تقديم تنازلات سياسية، وإنما أيضاً من خلال السعي الحثيث إلى مصالحة واقعية مع التيار المهزوم.
ينطبق ذلك، بالقدر نفسه على القوى الشعبية ـ والرسمية ـ العربية. فمن أولويات حزب الله الآن السعي إلى إقامة علاقات مع عواصم الاعتدال، ومع الأحزاب والقوى الاجتماعية والسياسية في العالم العربي.
ثالثاً، إنّ امتناع حزب الله ـ رغم قدرته ـ عن تسلّم السلطة في لبنان، ليس خياراً بل خضوع للتركيبة اللبنانية التي لا يستطيع حزب طائفي تجاوزها. وهي حقيقة اتضحت بقوة، بحيث إنها تفتح الباب أمام الحوار الجدي ليس حول سلاح حزب الله، بل على القرار باستخدامه. فما دام حزب الله لا يمكنه التحوّل إلى دولة كل لبنان، فإنه ملزم بإخضاع قرار استخدام سلاحه، في الحالات غير الدفاعية المباشرة، للقرار الوطني.
في الداخل، ينبغي أن يكون حزب الله مبادراً ومخلصاً تماماً لمشروع تسليم الأمن الداخلي كله للجيش اللبناني. ولعلها خطيئة أن يتم ترك هذه القضية لكي يطرحها تيار المستقبل وحلفاؤه. فالمطلوب من الحزب، وليس سواه، أن يبدّد الشكوك بالإلحاح على تطبيع الأمن الداخلي كلياً، ووضعه في عهدة المؤسّسة العسكرية التي أثبتت استقلالها السياسي.
رابعاً، تؤدّي قناة «المنار» الفضائية دوراً سلبياً للغاية في تظهير صورة مذهبية وإيرانية لحزب الله. فموقف «المنار» من القضية العراقية يكاد يتطابق مع الموقف الإيراني، وتحتلّ الدعاية لإيران وقوتها حيزاً أساسياً من البث الأحادي النظرة، بل إنّ النزعة المذهبية الداخلية كثيراً ما تتسرب في نشرات وتقارير، بعضها يدخل في باب التحريض والاستفزاز. وأذكر هنا على سبيل المثال، تقريراً إخبارياً بعنوان «العفو عند المقدرة» تضمّن شحنة فائضة من الإساءة والإهانة إلى مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي، لا يمكن عدم تأويله مذهبياً. ولا بد أن تأثيره على المعنيين سلبي للغاية، ولا يسهم أبداً في نزع فتيل الفتنة، بل يجدّدها.
يُقال في حوارات خاصّة إن «المنار» لا تلخّص الحزب وسياساته، وأنها واقعة تحت سيطرة مؤيدين لحزب الدعوة، وأنها لا تعكس الخطاب المتوازن للسيد حسن نصر الله. وقد يكون كل ذلك صحيحاً، لكنه لا يغيّر من التأثير الضار للفضائية المحسوبة على الحزب شيئاً. ولعل أول ما ينبغي للحزب الآن القيام به هو تنظيم انتفاضة في «المنار»، تعيد هيكلتها على أسس مهنية ووطنية وعروبية وديموقراطية.
* كاتب وصحافي أردني