ما يحدث في لبنان

سلاح السياسة وسياسة السلاح

null

موفق نيربية

قلنا في الخامس والعشرين من مايو 2000 إنه يحق لنا أن نبتهج بتحرير جنوب لبنان. فقد كانت لدينا مقاومة شعبية منتصرة بكفاءة، مع أننا نتحفّظ على تركيبتها الطائفية والدينية، فطائفيّتها تحرّض خوفاً على لبنان الهشّ طائفيّاً، إذا اندارت المقاومة بسلاحها للنظر في أوضاع الداخل، كما أنّ دينيّتها- في بلد يغلب على نخبته الوعي الوطني الديمقراطي وحتى العلماني- تعيد الطموح الاجتماعي التقدمي إلى وراء. رغم ذلك، ولأهميّة تحقيق شيء مهم ينقصنا في مسألة إسرائيل، وثقتنا بأنفسنا، كان لابدّ من الابتهاج بتحرير الجنوب، وتهنئة المقاومة الإسلامية على انتصارها.

آنذاك، اهتمّ جوزيف سماحة بما قيل، ووزّع المقالة على بعض أصدقائه، ثم عبّر مرة أخرى عن ذلك في حمص، بعد ذلك بشهر ونصف، في 10/7. بعد مهرجان نصر أقامه «حزب الله»، وظهر فيه مهيباً ومخيفاً، رائعاً ومريعاً في الوقت نفسه. كنت أيضاً مع جوزيف سماحة. عبّرت له عن خشيتي وقلقي، وقلت له: ألا توافق على ذلك؟ انتفض وقال: لا. ولم يكمل، إلاّ بترديد: لا، بنزق.

رحم الله جوزيف (المعلّم المحبوب)، الذي كانت الوطنية والقومية وإسرائيل والولايات المتحدة همّاً طاغياً عليه، وربما كان على حق أحياناً، وصاحب رأي ضروري في كل الأحيان.

ثم حدث مع حرب يوليو 2006، أن كان القلق أكبر، لكننا قلنا أيضاً إنه انتصار جميل ويحمل سمات لابدّ من الاستفادة منها، بين الكفاءة العالية تنظيماً وإعلاماً وتقنية سياسية واستراتيجية، مع الشجاعة والإخلاص واستيعاب متطلّبات العلم الحديث. لكن أوان الخوف كان على الأبواب، وصار مهرجان النصر القديم إلى مهرجان «النصر الإلهي»، وابتدأت مظاهر الانشقاق والتفسّخ في العلاقة مع المجتمع السياسي الاجتماعي اللبناني.

ويقول قائل، ألم نقل لكم؟! ولا نعترف حتى الآن بالخطأ والانجراف، ولا نظهر الندم، أو لعلّنا لا نشعر به… الطائفية نقيض مباشر للوطنية، وأحد أشكال البنى الاجتماعية ثم السياسية التي تكبح البناء الوطني للدولة الحديثة. والصراع الطائفي نقيض للعملية السياسية، أداة هذا البناء. وهذا يتناول في السياق «حزب الله» أولاً، لأن إسهاماته في الأمر مسلّحة تكاد سمات الفدائيين فيها تصل إلى مستوى «العسكرة»… لكنه لا يستثني أحداً، من الأطراف جميعها. فللسياسة أن تكون سلاحاً إلى الحدّ الأقصى، وليس للسلاح أن يكون سياسةً حتى بالحدّ الأدنى.

الوضع صعب بالأساس، وهو أشدّ صعوبة الآن، فـ«حزب الله» يتمتّع بأكثر من أفضليّة، من شعبيّته المتصلّة بتاريخه المقاوم؛ إلى السلاح الذي أثبت فعالية كبيرة في يوليو 2006، الزائد عن سلاح المقاومة المعروف كلاسيكياً، والممكن أن يفيض إلى استعماله سلاحاً معنوياً أو مادياً في السياسة الداخلية؛ إلى الدعم الإقليمي من قبل إيران وسورية… وغزة.

وتتمتّع الحكومة اللبنانية- بحالتها الراهنة- بأفضليات مقابلة، من شعبيّتها المتصّلة بمسائل السلم والمواطنة والاستقلال والازدهار، إلى كونها تعبيراً عن تكريس مفهوم «الدولة» الذي تطمح إليه أغلبية اللبنانيين، مع تمتّعها بتأييد عربيّ غالب، رغم أن سورية تفتح فيه ثغرة قريبة واسعة الظلّ، وتأييدا دوليا يكاد يكون كليّاً، لكننا طالما اعتدنا على معاداته واستعدائه.

لكن الأزمة الأعقد هي أزمة «حزب الله» مع نفسه، ولن يكون مخرج من دون حلّها. إذ جاء أوان مواجهة حالة ازدواج صفة الحزب، من حيث هو مقاومة للمحتل وقوة سياسية داخلية في الوقت نفسه، وانتهى زمن السعادة بهذا الازدواج واستعماله لإسباغ النقاء وتحريم التناقض معه. هذه إشكالية في منتهى الصعوبة الآن، ولا بدّ لقوى «الموالاة» أن تراعيها. في حين لم يعد «حزب الله» قادراً على تجاهلها أو الاستمرار باستقوائه بها، رغم حقه باستثمار تاريخه المقاوم.

يمكن لـ«حزب الله» أن ينظر في تجربة الشعوب كافة، ليرى كيف تنحدر المقاومات الشعبية إلى سلطات مستبدة، أو إلى ميليشيات تتورط داخلياً، والأمثلة تتزاحم في الأرشيف والجغرافيا. أو باختصار، لماذا لا ينقسم «حزب الله» إلى «مقاومة» وحزب سياسي، فتختص الأولى بمسائل الاحتلال، والثاني بالعملية السياسية السلمية الداخلية، فلا يموت الذئب ولا يفنى الغنم؟

أو ما يراه. لأنه- خلاف ذلك- يؤكّد ما يُقال عن الارتباط العضوي بإيران وولاية الفقيه ومشروع الدولة الإسلامية الخاصة، وعن كونه وحدة قتالية متقدمة في ساحة الفتنة الشيعية السنية المرذولة. وذلك «أشدّ مضاضة».

التسويات على قارعة الطريق، وهي غذاء يومي ضروري، لكن الأزمة أعمق وأخطر… فالأطراف التي تهتم بما هو أمامها هذا اليوم؛ من دون أن يفارقها الهمّ الأبعد والأعرض للبشر؛ ضائعة وضعيفة. وقد اعتدنا العيش على النصر القنوع ساعة بعد صبر ألف ساعة… ونحن بذلك فرحون.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى