فيصل دراج:ليست له نظرة دونية للرواية السورية لكنه لا يرى لها تراكماً مبدعاً
ابي حسن
فيصل دراج: ما من رواية غير واقعية ولا يوجد أدب كبير يتكلم عن الانتصار
يشكل اسم فيصل دراج علامة فارقة في تاريخ النقد الأدبي وتحديداً النقد الروائي, إذ أغنى المكتبة العربية بالعديد من الكتب النقدية والفكرية. من كتبه: «دلالات العلاقة الروائية», «الواقع والمثال», «نظرية الرواية و الرواية العربية» الحائز على أفضل كتاب في معرض القاهرة للكتاب عام 2002 , وصدر له منذ عامين كتاب موسوعي بعنوان: «الكتابة الروائية وتاريخ المقموعين».
يمزج ـ أحياناً ـ دراج بين النقد الأدبي والنقد السياسي كما فعل في كتابيه: «بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية», و «ذاكرة المغلوبين» الذي لخص من خلاله محنة القضية الفلسطينية فكرياً وسياسياً.
تناول في هذا الحوار واقع الرواية العربية, من أكثر من زاوية. كما تطرق إلى دور المثقف العربي في ظل واقع متردّ.
لنبدأ بالرواية السورية, إذ سبق أن تحدثت في غير مكان عن الحقل المعوق للرواية السورية, ولم يلبث الأمر طويلاً حتى تحدث الناقد المغاربي د . بوشوشة بن جمعة عنها إذ قال: «إن الحديث عن الرواية السورية يبقى مطمحاً مرتجى».
لماذا هذه النظرة الدونية إلى الرواية السورية, على الرغم مما حققته؟.
} أنا لم أنظر نظرة دونية إلى الرواية السورية على الإطلاق, والحقل المعوّق الذي نتحدث عنه يشمل جميع البلدان العربية باستثناء مصر, وذلك لسبب بسيط هو ارتباط الرواية تاريخياً بالمدينة وبالمجتمع المدني وبالحداثة .. الخ, إذ الرواية فنّ حديث له علاقة بالمجتمع الحديث.
في حياتي كلها لم أنظر إلى الرواية السورية نظرة دونية, وإنما قدمت دراسة أو قراءة تتضمن أنه لا يوجد في سورية على صعيد الرواية تراكم مبدع مستمر وإنما هناك حالات متقهقرة, متباعدة.
كيف يتعامل الناقد فيصل دراج مع الرواية؟.
} هناك ثلاثة عناصر لهذا التعامل, العنصر الأوّل: هو الإلمام بنظريات الرواية جميعها, وقراءة آخر نظريات الرواية الكبيرة, بعد هذا الإلمام وتلك القراءة أنساها, ذلك كي لا يقع الناقد في محاكاة وتقليد الآخرين.
العنصر الثاني: هو أن نقرأ الرواية العربية في تاريخ التطور العربي الشامل في القرن العشرين, إذ من السخف أن نقرأ الروايات كشيء منفرد, أما عندما نقرأ هذه الروايات في علاقتها بالتطور الثقافي والسياسي العام للعالم العربي , فإنك آنئذ تكوّن رؤية خاصة بالرواية العربية, من هنا نستطيع أن نربط بين رواية «زينب» والدعوة إلى الحداثة الاجتماعية, وبين رواية «عودة الروح» و الدعوة للتحرر الوطني. بمعنى أن نقرأ هذه الجدل المستمر بين النصّ الروائي والسياق التاريخي الذي كونّه, عندها تكون قراءة الرواية العربية هي قراءة للأنساق الثقافية وللأنظمة السياسية في العالم العربي.
العنصر الثالث: عندما تقبض على هذه الخصوصية, أي كيف تكوّن النص الروائي العربي في القرن العشرين, تستطيع أن تحلل البنية الروائية انطلاقاً من منظور خاص.. من شيء يميّز الرواية العربية, أي كعلاقة كتابية في جملة من العلاقات الاجتماعية, يبدأ بالكتابة, وترى السياسي, والثقافي, واللغوي… الخ.
يرى الروائي حنا مينة إن الطريق المسدود أمام الشخصية الروائية يعبّر عن نفسه ما أن نصنع من تلك الشخصية بوقاً لنا, ونسخة عن الشخصية الفكرية التي نريدها, وصوتاً لصوتنا, وناطقاً لفكرنا… إلى أن يدعونا كي نحذر هذا.
إذا سلمنا بوجهة نظر حنا مينة كيف سيكون الأدب واقعياً؟.
الواقع
} الواقعية لا تعني أن نحاكي الواقع بشكل مباشر, إنما تعني أن ننفذ إلى جوهر الواقع ونقدم له صياغة جديدة, بمعنى آخر يجب أن نميّز بين الواقع و الأشياء.. الأشياء هي ما يرى ويُلمس ويُسمع, أما الواقع فهو ما وراء ذلك, أي هو ذلك التاريخ المغمر والمضمر الذي أنتج الأشياء والعلاقات والبشر.
ما رأيك في رؤية حنا مينة سابقة الذكر؟.
} أعتقد أنها رؤية بديهية. يقول نجيب محفوظ: «جميع حكاياتي من الواقع, لكن حالما أكتب أنسى الواقع كلياً وأخلق واقعاً آخر». لو كان الواقع في الأدب هو الواقع الخارجي كما هو لما قرأ أحد بلزاك!.
أعتقد أن ما يميز الأدب هو الوصول إلى ما هو جوهري في الشخصيات, وفي التاريخ, وفي الأقوال, وفي الأفكار؛ مثال ذلك عندما يكتب نجيب محفوظ عن شخصية أحمد الجواد ( في الثلاثية) ذلك الأب المتعدد الشخصيات, الأب المستبد, السكير, المتدين, الوطني… الخ.
هل هذا في الشخصيات من حيث محاكاتها للواقع أو عدم محاكاتها له؟, أم في كيفية تكثيف الروائي للتاريخ كله, أو معظمه في شخصية واقعية؟.
} لا شك إن الإبداع هو أن تكثف التاريخ في شخصية أو في جملة شخصيات, بحيث تكون الشخصية من ناحية شخصية إنسانية لها خصائصها وطباعها ومقوماتها, ومن ناحية أخرى مرآة حقيقية للتاريخ في معناه ونزوعه, خذ مثلاً شخصية سعيد مهران في «اللص والكلب», هي شخصية إنسان, لكنها تلخيص للتاريخ, إنها هزيمة الإنسان في مجتمع مغلق, أو أنها صورة عن ذلك التحدي اللاعقلاني الذي تدفعه كرامته العالية جداً إلى الموت أو أنها ذلك الكبرياء الذي يفضّل الموت على أن يعيش في مجتمع منعزل.
إذاً, وفق هذا المنظور, ستكون الرواية تلخيصاً للمجتمع؟.
} ليس هذا فقط, بل وتسمح بقراءة جديدة له, قراءة تعرف التاريخ وتنقيه وترفضه, لأنها تتطلع إلى تاريخ أكثر ارتقاء وجمالاً وبهاءً, بهذا المعنى تجد الروايات الكبيرة تتحدث عن الواقع, لكنها تتحدث أيضاً عن واقع غائب, وتشير في اللحظة ذاتها إلى مدينة غائبة وتنتظر هذه المدينة الغائبة التي لا تأتي.
إذا عدنا إلى الواقعية, نجد أنه لا يذكر اسم «الواقعية» إلا و تذكر معه «مقولات» سلبية وإيجابية: المحاكاة, الانعكاس, إنتاج الواقع أدبياً… الخ.
} بالنسبة إلى الواقعية هي شيء لا يخترع, غالباً ما تهاجم الواقعية على أنها شيء ماركسي أو نظّر له الماركسيون.. الواقعية موجودة قبل الماركسية, بلزاك كان واقعياً, وإميل زولا كان واقعياً.. الواقعية تتحدث عن حياة الناس. طالما أن مقولة الإنسان هي المرجع الأساسي الذي تقوم عليه الرواية, فإذاً فكل رواية حقيقية هي مرجع واقعي. من السخف أن نقول عنها إنها رواية غير واقعية إلا إذا كانت رواية سخيفة.
يوجد مرجعان في كل رواية, المرجع الأوّل: مرجع خارجي هو الواقع. المرجع الثاني: مرجع داخلي هو التقنية التي استعملت في إعادة بناء هذا الواقع.
هل يعني أن الواقعية هي إعادة إنتاج الواقع؟.
} لا.. الرواية لا تعيد إنتاج الواقع إلا إذا كانت رواية رديئة, الرواية تنتج الواقع وتصل إلى ما هو جوهري فيه, بمعنى أنها لا تكتب الواقع بقدر ما تكتب عن التاريخ الذي أنتج هذا الواقع, وإذا لم تكن قادرة على محاورة التاريخ ومسألته فإنها لن تكون رواية.
هل نستطيع أن نبالغ ونقول إن من المهمات الملقاة على عاتق الأدب تغيير الواقع؟.
} لا.. الأدب لا يغير الواقع على الإطلاق, وأعتقد أنه من أسوأ إطروحات الواقعية الاشتراكية هو قولها: «إن الأدب يغير الواقع», الواقع يغيره الكفاح السياسي, أما ما يقوم به الأدب هو تغيير وجهة النظر إلى الواقع, لكنه لا يغير الواقع.
هل يغير وجهة النظر إلى الواقع تغييراً سلبياً أم إيجابياً؟.
} بالمعنيين.. عندما يأتي شخص ناصري, مثلي, ويقرأ رواية «اللص والكلاب» فإنه يحاور عبد الناصر من وجهة نظر التاريخ, وعندما نقرأ بعض روايات جانكيز ايتماتوف, فإننا نقرأ التاريخ الذي مرّ من وجهة نظر أخرى, وأعتقد أنه حتى في تلك الفترة كانت روايات جانكيز ايتماتوف تحضنا على أن ننظر إلى الواقــع بشكل مختلف.. في الحالات جميعها الأدب لا يغــير الواقع, بل البشر هم الذين يغيرّونه.. حالياً لا أحد يقرأ رواية الأم لمكــسيم غوركي, في حين أن عقد السبعينات بعد ظهور المقاومة الفلســطينية وصعود اليسار بين الشباب كانت قراءة هذه الرواية رائجة بشكل كلي!.
مفهوم تراجيدي
هل يجوز على الأدب أن يكتشف طريقه الخاص معتمداً موهبته وأصالته؟.
} لا.. لا ضرورة لذلك, فضلاً عن أن الأصالة و الموهبة كلمتان ملتبستان. يوجد شيء اسمه الموهبة, ويوجد شيء آخر يدعى الدأب الشديد, ويوجد شيء أهم من الاثنين معاً هو المعرفة, المعرفة المتراكمة والمستمرة, لأن الموهبة بمفردها لا تصنع شيئاً.
يستطيع الأديب أن يكشف طريقه الخاص عندما يستوعب الآخرين ويقرأ الآخرين, من ثمَّ انطلاقاً من ذاته يشق دربه الخاص. إنه يراكم معرفة تجعله قادراً على أن يميز بين المدارس الأدبية و الأدباء, ثم لاحقاً يختار درباً خاصاً به, مثلاً, من يريد أن يقرأ نجيب محفوظ, خارج القراءات السريعة, سيجد أن نجيب محفوظ تأثر بشكل طاغ بتوماس مان, وبكثير من الأدباء الأوروبيين, لكنه بسبب أصالته شق لنفسه طريقاً خاصاً, ولم يصل إلى هذا الطريق إلا بعد كمٍّ متراكم جداً من القراءة, تضمن قراءة التاريخ المصري والأساطير المصرية وتوماس مان وجيمس جويس وكافكا… باختصار المعرفة هي أساس الطريق الخاص للمبدع.
البعض يرى أن رؤيـــة الأدب التقـــدمي في الخمسينات من القرن الماضي كانــت قاصرة, وكانت نوايا الأدباء التقدميين أكبر من رؤيتــهم ومواهــبهم وإمكــاناتهم وأدواتهم في التعــبير. هل تمــيل إلى رأي هذا البعض؟.
} أعتقد أنه كــان هنــاك ولع بفكــرة التقــدم وإيمان به, جعل جميع القــادة الســياسيين والمثــقفين والمبــدعين يؤمنون بالمستقبل ويحضّون النــاس بالذهاب إليه..
هناك دائماً علاقة بين النص والسياق, وهو ليس مقصوراً على العرب فقط, إذا رجعنا إلى النصوص التشكيلية التي كتبت في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي, وحتى بعض النصوص في أميركا اللاتينية, نجد دائماً هناك أدباً تحريضياً له دور وطـــني.. يجــب أن نرى جميع النصوص في زمانها ومكانــها وغايــاتها, وإلا لعنا كل شيء, وهذا غير مقبول.
هل ثمة وجود حقيقي وعقلاني للبطل الإيجابي في الرواية؟. هل تؤمن بوجوده؟.
} (متهكماً بمرارة) البطل الإيجابي!.. رحم الله البطل الإيجابي وأيام البــطل الإيجابي.. ربما لو سئلت هذا السؤال قبل أكثر من عــشرين عاماً لكنت أعطيــت إجابة غاضبة, لأنني لا أحب البطــل الإيجابي, لكنــني في تلك الفــترة كنتُ أساجل مقولات بعض النقاد الشــيوعيين, وبعــض أفكار الأحزاب الشــيوعية التي لا تجديــد فيها, أما اليوم فإنني أقــول إن البطل الإيجابي يجــسد القيّم ويدافع عنها.
عندما تقدم الرواية البطل الإيجابي فإنها تقدمه وهو يدافع عن جملة من القيم, الإشكال ليس في تقييم إنسان يحضّ على الصدق والنزاهة والاستقامة.. إنما في كون الرواية مفهوماً تراجيدياً للعالم.
لا يوجد عمل كبير يتحدث عن الانتصار, والرواية كما أشرت سابقاً تقوم بتأويل التاريخ ورفضه ونفيه لأنه تاريخ لا عدالة فيه, ولا يكتب بشكل صحيح, وبالتالي لا يوجد روائي كبير يتحدث عن الانتصار, حتى إذا وضع الروائي في روايته بطلاً إيجابياً من جهة القيم فإنه سوف ينتهي إلى الموت و الهزيمة.
ما معنى التجديد الروائي في كل دلالته؟.
} التجديد الروائي هو أن تبحــث عن تقنيات أدبية جديدة تصوغ قولاً جديداً أو تعيد صياغة قول الماضي بشكل جديد, فكل تجديد يكون في التقنية الروائية, وليس في القول.
ما الفرق بين الوهم الروائي و التخييل الروائي؟. بين المباشر والتجريد الروائي؟.
} الوهــم الروائــي هو أن تخترع الواقع و الشخصيات والمصائر ولا تعــرف من الواقع شــيئاً. أما المتخيل هو أن تعرف فعلياً الوقائع المعيــشة و المعاشــة وتصنعها في متخيل روائي, بمعنى تعطــي لها صــياغة متخيلة جديدة.
المباشرة هي أن تتحدث عن سطح الأشياء دون عمق أو كثافة, بينما التجريد هو أن تعيد صياغة المرئي والمسموع والملموس بشكل يجعله أكثر عمقاً ودلالة.
ما الفرق بين لغة النثر واللغة الإنشائية؟.
} لغة النثر هي أن تُشتق اللغة من مواضيعها الفعلية, أن يكون للغة مراجعها الخارجية الفعلية أيضاً, أما الإنشاء فهو أن تطلق جملة من الكلمات لا مراجع لها ولا معنى ولا دلالة.
الفرق بين سردية الأنا وسردية الآخر؟.
} سردية الأنا هي أكثر حميمية وأكثر قدرة على الغوص في أعماق النفس, وأكثر قدرة على استنطاقها؛ أما سردية الآخر هي أن تقيم بينك وبين الآخر مسافة, وبالتالي فأنت تتحدث عن حالة أقل حميمية, من ثمّ تجعله ـ أي تجعل الآخر ـ مستقلاً أكثر.
أيهما أهم في العمل الروائي, ترك فسحة للقارئ أم للناقد؟.
} للقارئ طبعاً, لأن الناقد قادر بشكل أو بآخر على النفاذ من ظاهر النص إلى داخله, أما القارئ العادي فليس مطالباً بالقيام بهذا العمل الشاق.
المثقف العربي
إلى أي حد استطاع المثقف العربي الديمقراطي أن يمارس دوره خارج معطف العارف والمقدس. بمعنى آخر, ممارسة دوره في الكتابة من فضاء مختلف يحارب الأحادي والواضح والأبدي؟.
} المثقف الديمقراطي الوطني مثل جمال حمدان و سعد الله ونوس وهادي العلوي.. أعتقد أنه كان له دور وانتهى, وما بقى من ذلك الدور هو في طريقه إلى الزوال والانمحاء, خاصة بعد حرب الخليج (…). لا أعني في ما أقوله إني أطالب المثقفين بأن لا يكون لهم دور, إنما تراجع دور هذا المثقف بتراجع الأقنية والأدوات التي كان يستطيع المثقف التعبير من خلالها. سأعطيك مثالاً محدداً, في منتصف الثمانينات على سبيل المثال, كنت أعمل في مجلة الهدف, وقد كانت توزّع أسبوعياً 45 ألف نسخة, إذ كان لا يزال هناك قارئ واسع للفكر الديمقراطي, تقلص ذلك العدد بعد حرب الخليج الثانية إلى 5000 نسخة, وأعتقد أنها حالياً في طريقها إلى التلاشي. أيضاً إذا أخذنا مجلات كان لها فاعلية أكبر كالمدى والآداب والطريق التي كان من خلالها هي ومثيلاتها ينمو الفكر الوطني, سنجدها الآن في طريقها للتلاشي, إذ تتعرض للحصار.. تصوّر عندما صدر عدد من الآداب يدافع عن أطفال العراق لم توزّع سوى 700 نسخة فقط! ما معنى هذا الرقم في عالم عربي عدد سكانه يبلغ 300 مليون نسمة!.
لا شك إن فاعلية المثقف الوطني كانت مرتبطة سابقاً بفاعلية الأحزاب السياسية, وكان جمهور هذه الأحزاب السياسية هو الذي يأتي إلى المثقف الوطني وكذلك يذهب المثقف إليه, لكن عندما تلاشت الأحزاب السياسية الوطنية وتداعى جمهورها راحلاً إلى مكان آخر, أصبح على المثقف أن يحمل اغترابه هو الآخر, ويصمت.
(دمشق)