أنطونيو غالا الأندلسي العائد إلى ‘جذوره’ الدمشقية: أنتم أجدادي الذين علموني الكتابة!
أنور بدر
دمشق ـ ‘القدس العربي’ ـ من مَنْ منا لم يقرأ روايات ‘المخطوط القرمزي’ أو ‘الوله التركي’ للكاتب الإسباني أنطونيو غالا؟ مَنْ منا لم يفتنه ذاك الأندلسي الذي يعيد صياغة كرامتنا عبر التاريخ، يرنو من مسافة قرون خمسة ونيف إلى تلك الحقبة التي صنعت مجد إسبانيا وحضارتها، حين كانت أوروبا تغط في الظلمات؟ مَنْ منا لم تفاجئه الصورة الجديدة لأبي عبد الله الصغير وهو يُدرك اللحظة التراجيدية لمحنة التاريخ؟ مَنْ منا لم تأخذه النشوة وهو يتابع ذلك الأديب الكبير وهو ينتقد الحصار والهمجية الإسرائيلية الأخيرة ضد قطاع غزة، ويُعرض نفسه لأشرس هجمة صهيونية دفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني؟
لكنه الآن جاءنا شاعراً يحمل عبء سنواته الست والسبعين، وعبء مرض ذهب بالكثير من جهازه الهضمي، جاءنا يتوكأ عكازه، لكنه ما زال شامخاً، رفض أن يقرأ شعره جالساً، وقف يقرأ علينا بعضاً مما أسماه ‘قصائد سورية’ والتي سبق له نشرها في ديوان ‘قصيدة توبياس القاسي’، وكأنه يُدرك أهمية الخطابة في الشعر العربي، أهمية أن يُقرأ على المنبر، مع أننا نُدرك من تهدجات الصوت حجم الغنائية التي زينت قصائده، وهو يتغنى بسورية كما لم يتغنَّ بها شاعر سوري من قبل.
غنائية هذا الشاعر الكبير سبقت شعره فيما نثر علينا من رحيق محبته، نصاً بديعاً أسماه ‘رحلة الإنسان’، وقد فوجئ العدد القليل من الحضور بأنهم المعنيون بنعت الإنسان الذي قطع أنطونيو غالا كل تلك المسافة ليقرأ لنا شعراً، ويوقع كتابه الثالث الذي ترجمه إلى العربية الصديق رفعت عطفة بعنوان ‘غرناطة بني نصر’، وفيه يتناول تاريخ المدينة وألقها في حقبة بني النصر، وحتى سقوطها عام 1492 على يد الملكين فيرناندو وإيزابيلا اللذين لا يتوانى الكاتب عن وصفهما بـ ‘طالبان ذلك العصر’، مؤكداً في حفل التوقيع أن هذه زيارته الثالثة لسورية والتي زادته قرباً منا، مضيفاً ‘أنتم أجدادي الذين علّمتموني وعلّمتم البشرية كلها حرفة الكتابة، ولولاكم لما كنت كتبت، ولما كنت أقف هنا’.
على هامش هذه الزيارة التقت ‘القدس العربي’ مع الكاتب أنطونيو غالا في الحوار التالي والذي قام الأستاذ رفعت عطفة بترجمته مشكوراً.
بدأ أنطونيو غالا شاعراً، ثم سافر باتجاه أشكال التعبير المختلفة من مسرح ورواية وصولاً إلى المقال الصحافي والزاوية النقدية، لكنه عاد إلينا اليوم شاعراً، وشاعراً جميلاً؟
كل ما كتبت جنساً أدبياً اعتبره الشكل أو الجنس المفضل في لحظة الكتابة، فأنا أحب الكتابة، وأعرف أنني ولدت للكتابة، درست الحقوق، والأدب والتاريخ أيضاً لإرضاء أبي، لكنني كنت أعلم أن ما يخصني في هذه الحياة هو فعل الكتابة فقط. وعندما أقنعت أبي بذلك، لم أعمل أي شيء غير الكتابة، رغم المناصب الرفيعة العلمية والسياسية التي عُرضت عليّ، فأنا لم أقبل أن أكون غير رجل حرّ ومستقل يمارس الكتابة فقط. لقد ولدت كي أكتب.. وأنا أحقق ذاتي بذلك، والشعر يشكل غواية بذاتها لأي كاتب، وبشكل خاص عندما تكتب عن الحب أو عن تلك الأماكن التي تحتفظ على الدوام بسر خاص بها ، سر يولد الحنين والرغبات أيضا.
وهل ما زال الشعر في إسبانيا يحظى بجمهور مقابل أشكال التعبير الأخرى؟
نعم ما زال للشعر حضور كبير في المشهد الثقافي الإسباني، وأستطيع القول بثقة أنني أتلقى أسبوعياً كحد أدنى أربع دواوين لشعراء شباب، دون أن يعني ذلك قدرة الشعر على المنافسة مع الرواية تحديداً في عدد النسخ التي تطبع من كل منهما، فالرواية في إسبانيا وفي العالم أجمع تنمو وتتطور بخطى سريعة، تساعدها على تجاوز أشكال التعبير الأخرى كالمسرح أو الشعر في عدد الطبعات.
من جهة ثانية نجد أن الشعر أيضاً يتطور على مستوى العالم، حتى أن شاعراً مثلي يكاد يكون مفعماً بالحماسة لصيغة ‘السونيتات’ مثلاً، لا يستطيع أن يقول أن هذه الصيغة أو أية صيغة أخرى محصورة بوزن معين أو طريقة محددة في الصياغة هي الشعر بمعناه العام. فهذه الصيغ أو القوالب المحددة يمكن أن تتراجع، لكن الشعر الذي يخاطب الروح، الشعر الذي يجسر بين قلبين لا يمكن أن يتراجع.
هذا يدفعنا إلى السؤال عن علاقة الشعر باللغة، وإلى أي درجة يمكن معها ترجمة الشعر؟ وهل يبقى في حال ترجمته محافظاً على روحه؟.
بالمعنى الذي تسأل عنه، يبدو من الصعب جداً ترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى، فأنا لا أترجم شعراً فرنسياً مقفى لرامبو أو فرلين مثلاً، لكنني أترجمه كشعر، كمعان ٍ ودلالات، وقد فعلت ذلك.
نلاحظ أنك اجترحت رؤية جديدة للعلاقة بين إسبانيا والعرب منذ ديوانك الأول ‘العدو الحميم’ 1959، وحتى كتابك الأخير ‘غرناطة بني نصر’ رؤية قائمة على الحب والشغف؟
عندما كنت طفلاً أذهب مع عائلتي إلى الكاتدرائية في المناسبات الدينية، كنت أبقى باستمرار منحازاً إلى الجانب العربي من ذاك البناء، دون أن أنتبه إلى ذلك، فقط عند بلوغي سن الرشد انتبهت لهذه المفارقة، واكتشفت أن الجامع كان يشدني أكثر من الكاتدرائية، اكتشفت غواية العناصر العربية في نفسي، وقد انعكس كل ذلك الميل أو الشغف في كتاباتي لاحقاً.
الفترة الأندلسية بالنسبة لنا تعني الكثير، حتى أن أستاذ كرسي ألمانيّاً زارني منذ مدة مع خمسة عشر شخصاً من طلابه، وكان السؤال الملح: هل هنالك إمكانية لبعث الأندلس مجدداً؟ ربما لا تدركون أنه توجد قطاعات – وإن كانت ضيقة في إسبانيا – ما زالت تحلم بالأندلس كأهم لحظة في الثقافة الإنسانية، فهي بالنسبة للجميع، إسبانيين وغير إسبانيين، ‘زمن لا ينسى’، ابن رشد وابن سينا وابن ميمون في الثقافة العربية هم أجدادنا القرطبيون في الوقت ذاته، بل دعني أقول أنهم قرطبيون أكثر منهم عرباً أو إسبانيين.
مع أن الشعوب غالباً ما تنظر إلى محتليها السابقين كمستعمرين ومكروهين، وليس باعتبارهم الفصل الأكثر إشراقاً في تاريخهم؟
لكنه كذلك حقيقة، فنحن لا يمكننا تجاهل الحضور العربي في إسبانيا، ولا نسيان آثاره، ربما أنا امتلك مشاعر أو عواطف خاصة تجاه العرب أو ميلاً زائداً لهم، لكن الكثير من الإسبانيين ينزعون نحو هذا الاتجاه بدرجة أو بأخرى.
السرعة التي انتشر فيها الحكم العربي في اسبانيا حتى وصل إلى سرقوصة في الشمال، لا يمكن حدوثه لولا التعاون الإسباني، فالإسبان كانوا قد ملوا من القوطيين، بل توجد الكثير من الدلائل على أن الإسبان هم من استدعوا العرب إلى إسبانيا، وفتحوا لهم الأبواب، بالمقابل ربما تملك الشعوب عموماً نظرة عدائية تجاه محتليها، وتكون فخورة بحرب الاستعادة، أو التحرر من الاحتلال، لكن هل تستطيع أن تتصور أن حرب الاستعادة لدينا دامت ثمانية قرون؟
خلال هذه القرون الثمانية صُنعت حياة وحضارة وأمجاد ما زالت آثارها باقية أينما تجولت في المدن الإسبانية، وشيء طبيعي أن تفخر المدن برجالها وعظمائها، إلى أي عصر انتموا، لذلك يبدو من الطبيعي أن تجد تمثال عبد الرحمن الداخل شامخاً في مدينة المونيكب حيث حط رحاله أولاً.
هل تعلم أن كارلوس الخامس أمر بتحويل أحد المساجد إلى كاتدرائية، وكان العمل ما يزال جارياً بذلك عندما مرّ مصادفة في المكان، فقال: حبذا لو كُسرت يدي قبل أن أوقـّع على هذا القرار؟ بالمقابل عندما كنا نعيد تأهيل أحد الأديرة وكان قائماً في أعلى تل في قرطبة، في الذكرى الأربعمئة لبنائه، من أجل استيعاب المؤسسة التي أطلقتها للشباب المبدعين، توقعت أن أجد آثاراً أموية في هذا الدير، لكن خاب ظني، ولم نعثر إلا على آثار رومانية، لأن عبد الرحمن الداخل – كما عرفت لاحقاً – حين رأى تلك الكاتدرائية الرومانية في أعلى التل، فضّل أن يبقى على ضفة النهر احتراماً لهذا البناء واحتراماً للأديان.
وهل تصدق أن ‘سان أوليخيو’ أسقف قرطبة، لم يعلم بالفتح العربي إلا في عام 850م، حين اكتشف وجود أتباع الدين الإسلامي ضمن مدينته، بمعنى انه كان يوجد تعايش تام بين السكان، وهذا الأمر يصعب شرحه أو توثيقه في إطار معادلات أو مفاهيم الاستعمار والاحتلال الأجنبي، لكنه كان حقيقة موجودة ومعاشة في تلك الحقبة الأجمل من تاريخ إسبانيا.
لقد تغنيت في قصائدك بسورية، كما لم يتغنّ بها شاعر سوري من قبل، ما الذي يأسرك في هذه البلاد، أهي الجغرافيا والطبيعة؟ أم التاريخ والثقافة؟
إنها الأشياء الأربعة مجتمعة، فأنا أشعر بنفسي مرتبطاً بقرطبة، تلك المدينة التي بنت عظمتها على 800 مسجد و600 حمّام، وثلث مفردات لغتها القشتالية مصدرها من اللغة العربية، كل الكلمات التي تبدأ بحرف أو أداة التعريف العربية ‘أل’ مثال: البيدر، البنّاء… وهي عموماً من أجمل الكلمات في اللغة القشتالية، وما بين سورية وقرطبة مسار من الحب، ذلك الحب الذي يبدأ من قرطبة أو غرناطة لكنه ينتهي في دمشق.
اليوم مررنا بآثار أو أطلال مدينة بصرى، وكان السؤال الذي يؤرقني لماذا يقوم التاريخ على نظرية الصراع مع الآخر وإلغائه، بدل أن يقوم على استيعاب الآخر والبناء إلى جانبه؟ لماذا لا نضيف إلى بعضنا بدل أن نلغي ذلك البعض، أو ندمره بصفته الآخر؟
إلى أي درجة يجري الاهتمام حاليا بترجمة الأدب العربي إلى الإسبانية، سواء في كلاسيكياته أم الحديث منه؟
قبيل وصولي إلى دمشق زرت بلدة ‘وادي آش’ وهي بلدة صغيرة تابعة لغرناطة، وتلقيت في زيارتي لها كتابين نقديين صدرا حديثاً لكاتبين في هذه البلدة حول كتاب ابن طفيل ‘طوق الحمامة’.
وأنا أدوّن تلك الملاحظة لأقول أننا لا نكتفي بترجمة ابن رشد وابن طفيل وسواهما، بل نقوم بدراستهما وبشكل موسع أكاديمياً وثقافياً.
ولا يقتصر هذا الموقف على كلاسيكيات الفكر العربي، بل توجد ترجمات حديثة لأهم الأسماء العربية في مجال الشعر والقصة والرواية، ولا يوجد مثقف في إسبانيا لم يطلع على أدونيس أو محمود درويش أو نزار قباني أو نجيب محفوظ… وتطول القائمة كثيراً.
لذلك أقول أنه عندما يكون هناك شيء مهم في اللغة العربية فإنه يترجم إلى القشتالية بالضرورة، وأرجو إن كان لدى البعض هنا عقدة من ثقافته المحلية أو العربية أن يسعى جاهداً للتحرر منها، فالثقافة العربية هي النبع الذي ننهل منه جميعنا في الغرب، وأي مثقف غربي حقيقي تراه يقدر الثقافة العربية كثيراً، ابتداءً من ابن رشد وانتهاء بإدوارد سعيد.
تبدو الثقافة الإسبانية بالنسبة لنا أوضح في امتدادها اللاتيني وليس الأوروبي؟
وما الضير في ذلك؟ إن أمريكا اللاتينية تضم 23 بلداً، ولا يمكن تجاهل دور اللغة المشتركة التي تربط بين إسبانيا وشعوب تلك القارة الغنية بكل شيء بما فيها المثقفين والكتاب، فهي ما زالت تنتج باستمرار أسماء لامعة في سماء الأدب، رغم أن الأدب لا يمر الآن بأحسن لحظاته، كما يمكنك أن تلاحظ حركة كتاب أمريكا اللاتينية باتجاه إسبــــــانيا، إذ غالباً ما يأتون لطباعة أعمالهم ونشرها، والأهـــم من كل ذلك أن أغلب كتاب ومثقفي أمريكا اللاتينية يمتلكون جنسية مزدوجة، أي الإسبانيــة إلى جانب جنسيتهم اللاتينية، أو جنسية البلد الذي ولدوا وعاشوا فيه.
بدأت مؤسسة أنطونيو غالا للشباب المبدعين أعمالها منذ عام 2002، أرجو أن تعطينا فكرة عن هذه المؤسسة ونشاطاتها؟
هذه المؤسسة ولدت عندي كفكرة إذ بدا لي أن وجود رسامين تشكيليين وفنانين موسيقيين وكتاب مبدعين سيساهم في خلق ذات الشعور أمام الورقة البيضاء. وقد حاولت هذه المؤسسة جعل هؤلاء الأشخاص والمبدعين يتعايشون إلى جانب بعضهم البعض، فنانين وموسيقيين وكتاباً، بحيث تنتج حالة من الخصب نتيجة تصالب هذه المواهب، ويخرج الجميع بفائدة أكبر.
الآن وحال وصولي إلى إسبانيا، ستكون في انتظاري دعوة إلى البرتغال لإقامة مؤسسة مماثلة فيها، كذلك طلبت مني مدينة قرطبة الأرجنتينية أن أنظم لهم مؤسسة مشابهة هناك، كما أبدى الاتحاد الأوروبي اهتماماً باختمار هذه الفكرة، وهو يتابع نتائجها بشغف ملحوظ.
طبعاً أنا أتعامل في هذه المؤسسة مع فنانين ومبدعين من 18 وحتى 23 سنة فقط، بمعنى أنه يوجد بين يديّ كل الأمل، وهذا الأمل يبدو واثقاً وأكيداً ورائعاً، لأنه يعني لنا جميعاً المستقبل.
ـــ تمت زيارة أنطونيو غالا لسورية بدعوة من الدكتورة نجاح العطار نائبة رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية، والتي تعتبر من ألمع الشخصيات الحكومية في هذا المجال. لكن الزيارة ولأسباب غير مفهومة تعرضت لمقاطعة رسمية لم تكن مبررة في السياق الذي يمثله أنطونيو غالا أدبياً وفكرياً، إذ لم يحضر أي مسؤول رسمي من وزارتي الثقافة والإعلام المعنيتين بالزيارة، ناهيك عن الوزارات الأخرى. حتى رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور حسين جمعة أو أي من أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد لم يكلف نفسه عناء حضور هذه الأمسية، بل أقول هذا اللقاء المفعم بالود والمحبة.
وقد انعكس ذلك على حجم الحضور الذي لم يزد عن المئة شخص كثيراً، في قاعة تتسع لأضعاف هذا العدد، وهي مفارقة ضمن مدينة كدمشق تعج بالمئات بل بالآلاف من الشعراء وكتبة الشعر، كما تعج بآلاف الأكاديميين والمثقفين والكتاب، بل كان ملفتاً للانتباه عدم وجود حتى باقة ورد على المنصة باسم أي جهة رسمية أو ثقافية احتفاءً بقامة هذا الضيف الكبير، كما جرت العادة مع أشخاص هم دون ذلك بكثير، حتى أن أحد الأشخاص وبحسن نية مطلق، استغرب عدم وجود منضدة صغيرة أمام الدكتورة العطار أو كأس ماء فيما لو أرادت أن تشرب، وهي نائبة السيد رئيس الجمهورية!.
رحلة إلى الإنسان: كلمة انطونيو غالا
قالوا لي: ‘هي أوّلاً وأخيراً، بعد زيارة رئيس الوزراء ثاباتِيرو، رحلةٌ رسمية’ ورددتُ عليهم: ‘لا.. لا، عندي من الذكرياتِ والهواجِس ما يسمح للمألوف أن ينتصرَ على الرسمي. أعتقد أنّ باستطاعتي أن أترك هذا واضحاً منذ البداية. فالذي يذهبُ إلى هناك ليس رئيس جمعيةِ الصداقةِ، الذي يذهبُ إلى هناك ليس رئيس مركزِ المسرح العالمي، ولا مؤلّف (المخطوط القرمزي) الذي تُرجِم هناك. الذي يذهبُ طفلٌ، منذ أن عَرَفَ نفسَهُ يرغبُ بمعرفة دمشقَ… ذلك الطفلُ كان يلعبُ أيّامَ السبتِ في مزرعةٍ اسمُها الرصافة. من هناك كان يرى سفوحَ جبل الشارات الظليلة، يرى النهرَ يتمطّى بين الأبراجِ والبيوتِ البيضاء وكرومِ العنب في عمقها. كان يُدرك شرفاتِ مدينة الزهراء الناعمة، حديقةَ الأطلال التي يرتاحُ فيها الجمالُ وقد صار مزقاً وبقي جميلاً. في الليلِ وعند عودتهِ إلى قرطبةَ، كان الطفلُ يشعرُ بأنوارِ طوقٍ منثورٍ بجانبِ خنجر، كما في أسطورة جبل العروس: برهاناً على الحبّ: فلكي لا تُحرَمَ زهراءُ من بياضِ الثلج على جبالِ البيرة أمرَ عبدُ الرحمن الثالث (الناصِرِ) بغمر الجبلِ بأشجار اللوز، التي كانت تشتعلُ خالِدَةً ببياض أزهارها في كانون الثاني (يناير). كان ذلك الطفل يسأل وهو يهبط: ‘لماذا تُسمّى الرصافة هكذا؟ وما معناها بالعربيّة؟’ كانت الرصافةُ منتجعاً مذهلاً، بعيداً، في سورية، حيثُ يبدأ الشرقُ، وقد رعاها عبد الرحمن الأوّل هناك، تحدّياً وتزييناً للطبيعة، نباتاتٍ وأشجاراً غريبة، فيما يشبه الحديقة النباتية. حفيده الذي هزّه الشوقُ أرادَ عندما حكم قرطبة أن يعمل أخرى مثلها ومنحها الاسمَ نفسه. هنا كان أن همس وهو يرى النخلةَ السامقة يهتزّ رأسها خيلاءً : ‘شبيهي في التغرّب والنوى’.
وبفضل حنين عبد الرحمن الأوّل هذا أؤكّد بأنّني لن أشعر بنفسي غريباً في سورية. لأنّني أذهبُ إليها واسم الأمويين في قلبي والوردة في يدي. سيرى بعضُهم أنّ من يحملُ وردة إلى دمشق كمن يحمل رملاً إلى الصحراء، لكنّ وردتي (زهرتي) خاصّةٌ جدّاً، إنّها وردةٌ قرطبيّة، تمرّتْ في مرآة ورودٍ أخرى نائية، وأنا لن أفعل شيئاً غير أنّني سأردُّها إلى موردها’.
من أقصى المتوسّط – بحر يومنا – كنتُ أطيرُ إلى أقصاه الآخر. من بلادٍ هي ذيلُ أوروبا دون أن تنسلخ عنها وتاجُ أفريقيا، إلى بلادٍ أخرى هي دائماً بوّابة أوروبا وهي دائماً عتبة آسيا. من المساجِد التي صارت كاتدرائيّاتٍ إلى الكاتدرائياتِ التي صارت مساجدَ، من قرابةِ الدم إلى قرابةِ الدم؛ من تراكم الثقافاتِ إلى تراكمِ الثقافات. هناك كان مهدُ وأصل كلِّ ما صرناهُ ولم أعرفْ إلى أيِّ حدّ ٍ حتى فتحتُ عينيّ على نورها. غنائمي غنائمها. قيل لي ‘نريدُ أن نتعلّم من أجدادنا الإسبان’، ‘لا، لا، أنتم أجداد الجميع.
فالمدنُ الأولى التي اجتمع فيها البشرُ لأوّلِ مرّةٍ موجودةٌ هنا. عندكم تتبارى على شرف العراقة حماة ودمشق وحلب، لكنّ كلاً من المدن الثلاث هي مدينتكم. في حماة ـ التي قامت فيها منذ العصر الحجريّ الجديد وحده وحتى العصور الوسطى ثلاث عشرة مدينة متتالية- تخورُ اليومَ النواعيرُ المطلقة مثل ثيرانٍ نهريّةٍ تلعب بماءِ العاصي. المساء الورديّ مثل همهمةٍ لا تنتهي، فتماهى النورُ بالصوتِ، فصارت المكانَ الوحيد الذي يُسمَع فيه النورُ.( في حلبَ، يا إلهي! من كان ذلك التركيُّ الذي يذكره عُطيْلُ مُسبّباً ذبحه؟)، قبل أن يُخيِّم إبراهيمُ على قمة التلّ الوحيد، ويحلب بقرته الحمراءَ بكثير، كان تراكم آثارِ الحضاراتِ الأقدم قد زاد حجمَ ذلك التلّ. فوضاه اليوم تعكس الفوضى التي حدثت: طموحات، خبب، سطوات، حروب وخلقُ الجمال السلمي. حلبُ الشهباء وبحكم العادة رصينةً تُسلّمُ درسَ التاريخ… ودمشق الحيّة كالحياةِ أكثر رومية ً من روما، أكثر كونيّة ً منها، أكثر ديمومةً، أكثر تقلّباً وأكثر انسجاماً من أيّة مدينة على وجه الأرض، أكثر امتلاءً بالحيوية الساطعة، دمشق المتحمّسة، المستديمة، الباقية في الحياة، دمشقُ التي لا تكلّ ولا تُحدُّ، المأمولة والمستقبلية’.
في هذا الوطن الخبيرِ بالأطلال، تصارع الناس أم عاشوا؟ ترى أليس الأمران شيئاً واحداً؟ المقبرة البدائية في حلبَ اليومَ ملعبُ كرةِ قدم، في قلب القلعةِ تُعرض المسرحيات. أمام السور الدمشقيّ من حيث تدلّى ليهربَ شاؤول، الذي صار بولس بعد أن تحوّل إلى النور، توجدُ الآنَ مدينة ملاهٍ. فالحياة تفرض مكتوبَها. ما الذي بقيَ إذن مطابقاً لما كان؟ هي نفسها. بقيت الآراميةُ التي يتكلمون بِها في معلولا، هذه البلدة المُتسلِّقة، الأعنازُ التي ترعى نشيطةً تحت الزيتون وبين التيجان المخلوعة، البحثُ عن الماء ومفاجأة الماء الفوّار، وسماءُ اللاذقيّة الزرقاءُ وبحرها السماوي، رائحةُ زهر الليمون المتشبّعة بهِ أطلال أوغاريت، حيث ترقد ثلاثةُ آلاف وخمسمئة سنة… الحياة خالدة في الربيع. هل تنامُ هذه الأطلال أم أنّنا نحن النائمون؟ هل يتقدَّم الإنسانُ أم يتراجع؟ أيبتدع شيئاً آخر إلا بتدمير ما اخترعه آخرون؟ من يستطيع أن يستريح فوق كلّ هذا الدمار؟ أمّ أنّني لا أحسن التأمّل ونحن من عصارة التاريخ الهضمية؟ كي نشتغلَ المكانَ الذي مَنَحَنا، الزمنَ الذي منحنا، المهمّةَ التي منحنا كان من الضروري أن تحلّ الثقافات بعضها محلّ بعض. نحن الثمرةُ العابرة والرائعةُ للحثيين والأنباط، للفينيقيين واليونانيين والترتوسيين والإيبريين والثلتيين. حين اقترب منّا الرومان كنّا بالغين ووجدنا العربُ نبكي موتانا ونُغني: منسيةٌ بيزنطة ومنسية مغامرةُ الصليبيين. منسيّون؟ هل النسيان ممكن؟ ألسنا من كلّ ما ننساه؟ من أين هذه العيون فاتحة وداكنة اللون، حنية الأهداب الرقيقة هذه ، هذه الطريقة التلقائية في الجلوس، لونُ هذا الشعرِ المتماوجُ، هذه الحمية الشديدة للاستمرار بالحياة؟
رأيتُ رابيةَ عمريتَ الحزينةَ، ابتسامةَ ماري الساحرةَ، قلعة الحصن، القلعةَ الجيولوجية التي لم يمنحها صلاح الدين غيرَ حماماتِها واسمِهِ؛ الجلالةَ المبالغ بِها التي تُحيط بالعمود الذي عاش فوقه القديس سمعان اثنين وأربعين عاماً… رأيتُ مُحطّمةً عظمةَ رجالٍ خطّطوا للبناء للأبديّة، لأنّه لا الحروبُ ولا الحبّ ولا الجمال ستكون أبداً مختلفة (أخطأوا أم نحن من نُخطئ ؟) رأيتُ ليلَ وفجرَ وريحَ تدمرَ القاسيةَ… من هنا مرّت الآلهةُ وَمَضَت، الواحد بعد الآخرِ، تاركةً آثاراً ملموسةً، فالبشر اخترعوا أسماءَها وعباداتِها، والآلهة كلُّها كانت إلهاً واحداً: عطش عبادها مقابل عطش أعدائها، عدوّها الأسوأ؟ من كلِّ ما رأيتُ، وفوق كلّ ما رأيتُ احتفظتُ بقطعة صلصال، صغيرةٍ كَسَبَّابتي. فيها ـ وقفت متواضعاً أمام كتابتها الأوغاريتية العصيّة وتعدّدِ كتابتها المقطعية – فيها نُقش ثلاثون رمزاً. لا يوجد أكثر. بالكاد يوجد. ثلاثون إسفيناً دقيقاً. فيها تكمن أبجديّةُ العالم الأولى. وبالنسبة لشخص تقتصر حياتُه على الكتابة لا توجد روعة أعظم. لا توجدُ معجزة غير معجزة هذا المكان، بجانب شجيرة عطر الليلِ، أُغشيَ عليّ سكراناً بعطرهِ يومين وأنقذني، بالعيرانِ والعدسِ المسلوق، طبيبٌ سوريٌّ، عملَ مُحافظاً لدمشقَ، أشكره اليومَ على قيامتي. كما أشكر هذه القامة الثقافيةَ، الدكتورة نجاح العطّار، لأنّها جعلت كلَّ هذا مُمكناً. شكراً.
القدس العربي