الدور التركي في المنطقة

من يحتاج إلى الغرب ؟

لاس اليغارد
هنا نصان من ندوة “المعهد الدانمركي” في دمشق حول: “تركيا والشرق الاوسط” لمحلليْن اوروبييْن بريطاني ودانمركي يقوّمان تطورات الدور التركي الجديد. وقد عقدت الندوة في مركز المعهد يومي 10 و11 تشرين الثاني الجاري. (راجع مقال جهاد الزين في صفحة “مقالات” على موقع “النهار” الالكتروني)

يبدو أن عناوين الصحف الرئيسة تبوح بالقصة كاملة:
“تركيا تنأى بنفسها عن إسرائيل، وتتحوّل نحو العالم العربي”.
“علاقة تركيا الاستراتيجية مع إسرائيل في خطر”.
“تناقضات الشرق الأوسط”.
أجل… شيء ما يحصل هنا، لكن هل يعرف أحد ما هو؟ أم هل نحن مثل السيد جونز في أغنية بوب ديلان، الذي يدخل غرفة لكنه لا يملك أدنى فكرة عما يدور حوله؟
أظن أننا نعرف ولا نعرف في الوقت نفسه.
هناك بالتأكيد عدد من المواقف الجديدة التي تتمثّل في شكل أساسي بالهجوم الديبلوماسي التركي في العالم العربي والقوقاز وآسيا الوسطى، لكن إلى أين ستقود؟ إلى أوروبا؟ أم بعيداً من أوروبا؟ وفي النهاية، هل ستنفصل تركيا عن الغرب؟
قبل نحو عشرة أعوام، وضع وزير الخارجية التركي الحالي، أحمد داود أوغلو، وكان آنذاك أستاذاً ومستشاراً لرجب طيب أردوغان، كتاباً تصوّر فيه شرقاً أوسط جديداً ذا روابط سياسية وثقافية واقتصادية وثيقة مع العالم العربي وكذلك مع إيران والقوقاز. سخر الجميع منه.
ففي التسعينات بدت أفكار داود أوغلو منافية للحقائق إذ كانت لتركيا علاقات سيئة جداً وحتى عدائية مع ستة من جيرانها الثمانية.
كانت إيران تستضيف متمردين من حزب العمال الكردستاني، وهؤلاء
1- كانوا يهاجمون أيضاً المنطقة الجنوبية الشرقية في تركيا انطلاقاً من معسكرات في جبال قنديل في العراق، ويتمتّعون إلى حد ما بحماية أبناء قومهم في شمال العراق وكان صدام حسين يتغاضى عنهم.
2- كان رئيس حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوج ألان، يعيش حياة رغيدة في شقة في دمشق، وكان من حين لآخر يتناول العشاء في أفضل المطاعم في المدينة على مقربة من ديبلوماسيين أتراك يجلسون إلى طاولة مجاورة. وكان قيام تركيا ببناء سدود لتنظيم مياه الفرات عائقاً أساسياً في العلاقات (وكان للمناسبة السبب الرئيس وراء الدعم السوري لحزب العمال الكردستاني)، غير أن الخلاف حول لواء الإسكندرون – هاتاي بالتركية – الذي استمر عقداً كان أيضاً عامل توتّر في العلاقات بين البلدين. أتذكّر الإرباك الذي شعرت به عندما قدت سيارتي من حلب نحو تركيا ووصلت إلى الحدود قبل نحو 40 كيلومتراً مما يظهر على الخريطة السورية.
3- أرغمت فرقة مدرّعات تركية عند الحدود السورية سوريا عام 1998 بحد السلاح على طرد أوج ألان ومقاتليه وتوقيع اتفاق أضنة الذي تخلّت فيه سوريا عن مطالبتها بإقليم هاتاي.
4- كان القبارصة اليونانيون يتفاوضون على اتفاق تسلّح مع روسيا كان من شأنه أن يزوّدهم بصواريخ “إس 300” بعيدة المدى – غير أن التدخل الديبلوماسي الدولي أحبط المشروع، و
5- الخلاف حول صخرتَين في بحر إيجيه لا تسكنهما سوى الخراف كاد يتسبّب بحرب ضارية مع اليونان.
6- شكّلت أرمينيا مشكلة ديبلوماسية وسياسية وعاطفية كبرى – المطالبة بالاعتراف بالإبادة، والمطالبة بأراضٍ تركية يرمز إليها جبل أرارات الذي تظهر صورته على الأوراق النقدية – والاحتلال الأرميني لناغورنو كاراباخ في أذربيجان مما أدّى إلى إغلاق الحدود عام 1993، ولم تُفتَح من جديد سوى منذ وقت قصير.
في الإجمال، كانت علاقات تركيا مع جيرانها بمثابة “طبق كامل” من المشكلات، بحسب تعبير ديبلوماسي تركي في ذلك الوقت.
في هذا السياق، كان منطقياً بالتأكيد أن تقيم تركيا تحالفاً عسكرياً استراتيجياً مع إسرائيل عام 1996، في حين أن كتاب داود أوغلو الآنف الذكر لم يمارس تأثيراً كبيراً، وربما لم يمارس أي تأثير على الإطلاق على معظم الأشخاص.
عمل الجنرالات الأتراك من أجل هذا الاتفاق بين القوتين العسكريتين الأكبر في المنطقة (كانت تركيا تملك ثاني أكبر جيش عددياً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتملك إسرائيل، القوة النووية في المنطقة آنذاك كما الآن، ترسانة تقليدية متطورة جداً حصلت عليها من الولايات المتحدة) وذلك لأسباب عدة:
فقد جاء بعد أشهر قليلة فقط من النصر الانتخابي الذي حقّقه حزب الرفاه الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان.
وربط القوتين المواليتين للغرب في المنطقة بتحالف يرمي إلى درء التهديدات المحتملة من اليونان وإيران والعراق.
وأظهر تصميم الجيش على التوصل إلى اتفاقات بصورة مستقلة عن القيادة السياسية في أنقرة. كانت حكومة تصريف الأعمال قبل تولي أربكان رئاسة الوزراء تحصل على معلومات موجزة من طريق مجلس الأمن القومي حيث كان الجيش يسيطر على الغالبية في ذلك الوقت.
على الصعيدَين العسكري والاستراتيجي، وفّر الاتفاق لإسرائيل عمقاً استراتيجياً ومجالاً جوياً لإجراء تدريبات، واستخبارات حيوية عن إيران والعراق. أما الجيش التركي فقد حصل على ولوج إلى منظومات سلاح عالية التقنيات وطيارات غير مأهولة ومعدات تجسس وما إلى هنالك، وكانت لذلك تداعيات فورية على الحرب الأهلية ضد حزب العمال الكردستاني، مع العلم بأنه يستحيل الحصول على مثل هذه التجهيزات من شركاء تركيا في الناتو بسبب الضغوط من مجموعات اللوبي اليونانية والأرمنية الأكثر نفوذاً في الكونغرس الأميركي.
فضلاً عن ذلك، حصلت تركيا على الدعم الإسرائيلي لمنع الاعتراف الرسمي بالإبادة الأرمنية في الكونغرس الأميركي.
ولم يكن بإمكان السياسيين العلمانيين والإسلاميين في الحكومات الضعيفة والفاسدة المتعاقبة سوى النظر من مقاعد المتفرجين.
تغير هذا الوضع تدريجاً بعدما تسلّم حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل والذي يُقال عنه بأنه محافظ، السلطة في تشرين الثاني 2002 من طريق فوز كاسح أعطى الحزب غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية. لم يستند النصر إلى صحوة دينية مفاجئة لدى الناخبين الأتراك بل انبثق من استياء عارم من عدم الكفاءة الاقتصادية، وقبل كل شيء من الفساد الذي انكشف على سبيل المثال من خلال عجز المجتمع (والجيش) عن التعامل مع كارثة الزلزال الذي ضرب غرب تركيا في صيف 1999. لكن هل تغيرت تركيا فعلاً؟
أجل بالفعل، لقد تغيّر الكثير بفضل تنمية سياسية ديناميكية وكذلك خلال سلسلة الإصلاحات التي فتحت الباب أمام مفاوضات العضوية مع الاتحاد الأوروبي، وسمحت للسياسيين باستعادة السلطة السياسية، وكبحت استقلال الجيش وولّدت بيئة اقتصادية مؤاتية مما وفّر استقراراً لليرة واستقطب الاستثمارات الأجنبية وأتاح تحقيق معدلات نمو شبيهة بالمعدلات في جنوب شرق آسيا.
من الواضح أن العقيدة الجديدة في العلاقات الخارجية التركية أي “العمق الاستراتيجي الرامي إلى انعدام المشكلات مع الجيران”، تنطلق بأقصى سرعة نحو الأمام – وتبدو حتى الآن وكأنها قصة ناجحة تخرج مباشرة من نص هوليوودي: إنه تغيير أمة كانت قبل أقل من عقد معزولة عن العالم العربي وفي خلاف مع جيرانها الخائفين، والمعادين لها إلى حد ما. أما الآن فالوضع مختلف، ويتجسّد بالآتي:
تحسّن العلاقات مع إيران. وصف رئيس الوزراء أردوغان محمود أحمدي نجاد بأنه صديقه، وقال عن البرنامج النووي الإيراني إنه “إنساني وسلمي”، وعرض تقديم المساعدة كوسيط في الخلاف النووي مع الغرب قبيل توجّهه إلى الولايات المتحدة.
إنشاء “مجالس استراتيجية رفيعة المستوى للتعاون” مع بغداد وسوريا، والتخطيط لمناورات عسكرية مشتركة مع سوريا إلى جانب السعي إلى زيادة تصدير السلع والمواد الغذائية التركية.
بناء علاقات أوثق مع بغداد على الرغم من التوغّلات العسكرية في العراق لمهاجمة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل. العلاقات مع الأكراد في شمال العراق مقبولة الآن إذ يبدو أن تركيا تفضّل التلويح بالجزرة قبل العصا. لكن العصا لا تزال في الزاوية.
تحسّن العلاقات مع اليونان التي تدعم الآن المحاولة المحفوفة بالصعوبات التي تخوضها تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
عام 2005 قبِل الاتحاد الأوروبي ترشّح تركيا للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي – غير أن المماطلة الأوروبية والتباطؤ التركي في الإصلاحات يعطّلان المفاوضات.
وقد ضمنت النشاطوية الديبلوماسية الجديدة لتركيا مكاناً في مجلس الأمن الدولي لأول مرة منذ عام 1961.
حسناً، هناك بعض المشكلات:
المعارضة العلمانية في الجمعية الوطنية في أنقرة ليست مسرورة.
الخصومة التي انكشفت حديثاً حيال إسرائيل – رسمياً بسبب الهجوم الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة، إنما يمكن اعتباره تملّقاً موجّهاً إلى العالم العربي، وفي شكل خاص سوريا.
العلاقات التركية الأوثق مع روسيا إلى جانب التعاون الموسَّع في القوقاز ليس مرحَّباً بها في الولايات المتحدة التي تعتبر أن تركيا تعطي الأولوية لأجندتها في تلك المنطقة على حساب علاقاتها مع حليفتها التقليدية في الناتو.
مقاومة تركيا لتعيين راسموسن أميناً عاماً للناتو هي مؤشر آخر عن الرغبة التركية في الاستقلال عن الغرب من أجل تثبيت نفسها عاملاً سياسياً إقليمياً، ويتجلّى هذا في شكل خاص عبر معارضة وجود أميركي واسع النطاق في البحر الأسود، والانتقاد المعتدل نسبياً للحرب الروسية-الجورجية التي حصلت الربيع الفائت – بتحفيز من “برنامج الاستقرار والتعاون في القوقاز” الذي وُضِع حديثاً بالتنسيق مع روسيا.
تتحوّل روسيا الشريك التجاري الأكبر لتركيا مع 26 مليار أورو عام 2008، ومن المتوقّع أن يتضاعف الرقم في السنوات الأربع المقبلة.
تحتاج روسيا إلى تركيا لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا والشرق الأوسط. وتركيا هي أكبر زبون لروسيا في مجال الغاز الطبيعي، مما يتيح أمام الأتراك مجالاً لتسوية النزاع الأرميني-الأذري، الأمر الذي لم يكن ممكناً حتى الآن بسبب الدعم الأميركي لأرمينيا.
لقد انتفت المصلحة المشتركة التي كانت موجودة خلال الحرب الباردة – لم يعد هناك تهديد مباشر من روسيا – غير أن أهداف تركيا الاستراتيجية (عدم وجود جيران معادين لها) تلتقي بطريقة ما مع المصالح الأميركية، ولا سيما حيال إيران.
غير أن الأتراك هم في موقف سوف يخرجون منه رابحين في مختلف الأحوال: فبصفتهم حلفاء في الناتو وأعضاء مستقبليين في الاتحاد الأوروبي، يُتوقَّع منهم أن يعزّزوا التأثير الغربي في المنطقة. لكن يبدو أن أجندتهم مختلفة إلى حد ما – فقد ابتعدوا رويداً رويداً عن التوجّه الغربي وتحوّلوا نحو سلوك أكثر استقلالاً من موقعهم كقوة عظمى إقليمية – وهم يعلمون أن الناتو والاتحاد الأوروبي يحتاجان في نهاية الأمر إلى تركيا أكثر مما تحتاج تركيا إلى الغرب.

(مراسل صحيفة “إنفورمايشن” الدانمركية في الشرق الأوسط)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى