الأتراك في أوروبا
بير نيهولم
في شهر أيلول 1071 تردّدت أنباء في قصور القسطنطينية وشوارعها بأن رومانوس الرابع ديوجينيس، الأمبراطور البيزنطي ورجل الله الأقوى على وجه الأرض، تكبّد هزيمة مروّعة في مانزيكرت على مقربة من الحدود الأرمينية، وأصبح سجيناً لدى الأتراك – وتحديداً لدى السلطان السلجوقي ألب أرسلان. بدا أن الأناضول بكاملها ضاعت ومعها قلب الأمبراطورية.
شكّلت مانزيكرت، المعروفة الآن بملاذكرد، بداية نهاية الأمبراطورية الشرقية، بحسب العديد من المؤرّخين. فكما انهارت روما قبل 600 عام، كانت بيزنطيا قد أصبحت في خطر مهلك. حسناً، كانت كذلك، إنما مصدر الخطر الأساسي كان من الداخل، من خصوم الأمبراطور، ومن تداعي المؤسسات وسوء إدارة الجيش، الأمر الذي لم يكن رومانوس يتحمّل مسؤوليته لأنه كان قد مضى عامان فقط على تسلّمه العرش عندما سار في مطلع صيف 1071 إلى الشرق على رأس قوة هائلة إنما غير متماسكة أو موالية.
وربما شعر بأمان في المعسكر السلجوقي أكبر منه في معسكره. كان ألب أرسلان متحضّراً بقدر أسيره المسيحي، ودعا الأمبراطور السيئ الطالع إلى تناول طعام العشاء معه. في اليوم الثامن من الأسر، أُفرِج عن رومانوس وعاد إلى القسطنطينية بعدما وعد السلطان بتسديد فدية كبيرة إنما منطقية.
عاشت الأمبراطورية البيزنطية نحو 400 عام إضافية، لكن لا شك في أن الضرر كان قد وقع وبات واضحاً للعيان، ولم تكن نهاية الخاسر في معركة مانزيكرت سعيدة. نُزِعت شارة الأمبراطور عن كتفَيه، وطُرِد من العاصمة وسُمِلت عيناه بطريقة همجية جداً، مما أدّى إلى وفاته بصورة مؤلمة بعد عشرة أشهر من هزيمته.
صحيح أنه بقي أمام الأمبراطورية البيزنطية طريق طويل لتقطعه، لكنها سلكت مساراً انحدارياً. لقد حملت مانزيكرت، وهي الآن بلدة كردية خلاّبة بطبيعتها تقع على سهل شاسع وجميل تحت قمة سوفان داغ المكللة بالثلوج، تباشير ثقافة جديدة وقوية في الإسفين الواقع بين الأراضي العربية للشرق الأدنى والحضارات المسيحية في جهتَي الغرب والشمال الغربي.
الحكمة التي تواترت إلينا هي أن الأتراك لم ينطلقوا في مسار غربي متردّد إلا في زمن كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية العلمانية الحالية، وفي زمن محارب مثل ألب أرسلان من خلال انتصاره على البريطانيين والفرنسيين في غاليبولي في 1915-1916، وعلى الجيوش اليونانية بعد سنوات قليلة في غرب الأناضول.
أما أنا فأعتبر أن هذه النظرة منافية للتاريخ، فسلوك الأتراك المسار الغربي بدأ بعد القرن الحادي عشر في آسيا الصغرى ثم في جنوب شرق أوروبا. كان الأتراك يعون تماماً عناصر الجذب في الغرب وأرادوا الانضمام إليه. لم يصلوا كمتوسّلين بل أحضروا معهم حضارتهم وثقافتهم اللتين ازدهرتا في أجزاء واسعة من العالم آنذاك، بعد انتصارهم النهائي في القسطنطينية عام 1453. وبصفتهم منتصرين، شعروا بالحيرة لأن الغرب لم يقبل اللقب الجديد الذي أطلقوه على امبراطورهم “قيصر الروم”. ألم يستولوا على المدينة الكبرى؟ ألم يخوضوا الحروب المتعددة باستقامة؟ ألم تكن الحرب عملاً مشرّفاً ومتواصلاً لدى المسيحيين أنفسهم؟ في الواقع، ألم ينشئ هؤلاء المسيحيون قبل بضعة أجيال وبقوة السلاح مملكاتهم ودوقياتهم الخاصة ومناطق أخرى خاضعة لسيطرتهم في المشرق؟ أيضاً وأيضاً، أليس المسيحيون هم من استولوا على بيزنطيا عام 1204 وأبقوها أمبراطورية لاتينية حتى عام 1261؟
لم تكن هذه المرة الأولى ولا الأخيرة التي شعر فيها الأتراك بأنهم خاضعون لمدوّنة غربية في الأخلاقيات السياسية لم يكن الغرب يطبّقها على نفسه. فوجئ الأتراك. لِم الجلبة بينما كانوا ينطلقون في البحر المتوسط في اتجاه مالطة ويتقدّمون نحو فيينا؟ لا شك في أنهم لو استولوا على تلك المدينة التي يلقّبونها بـ”التفاحة الذهبية”، لجرى الاعتراف بهم بأنهم الرومان الجدد والشرعيون، الورثة المقبولون للرومان. لكنهم لم ينجحوا، بل على العكس تكبّدوا هزيمتين منكرتين. وقد تراجعوا، فهذه هي طبيعة الحرب. لم يجد الأتراك في هويتهم المسلمة وهوية الآخرين المسيحية عائقاً لا يمكن تجاوزه، بل اعتبروها حقيقة أخرى من حقائق الحياة يمكن تنظيمها. كانوا يعرفون المسيحيين حق المعرفة، فقد كانت لديهم روابط ممتازة مع البندقية وفرنسا.
كان المسيحيون واليهود والمجموعات غير المسلمة الأخرى التي تعيش داخل الحدود العثمانية، يُترَكون وشأنهم في شكل عام شرط ألا يتسبّبوا بالمتاعب.
تحلّت الأمبراطورية العثمانية الشابة بالطاقة والثقة بالنفس، مما أثار غضب الغرب، وأدّى في القرن الذي أعقب سقوط القسطنطينية إلى هستيريا في إسبانيا والبرتغال حيث عمد الملوك إلى طرد اليهود والمسلمين على السواء، أي النخبة الثقافية من مفكّرين وأطباء وأساتذة ومترجمي كتب ومخطوطات قديمة. استقر عدد كبير من المبعَدين في حماية الخليفة-السلطان في اسطنبول، بينما بدأت شبه الجزيرة الإيبرية الانحدار في هاوية لم تخرج منها سوى في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما أصبحت ديموقراطية ومتحضّرة.
بحلول ذلك الوقت، كانت تركيا، وعلى الرغم من كونها عضواً مخضرماً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومن استقبالها طوال قرون أعداداً كبيرة من اليهود النازحين وضحايا آخرين للتعصب والشوفينية والفاشية في أوروبا، قد ترسّخت في الذهنية الغربية بأنها غول مسلم. لماذا؟ ربما لأن الأصوليين المسيحيين يرون في تركيا، الرأسمالية والعلمانية، القريبة من المعايير الديموقراطية والغربية، والتي تضع أكثر من قدم واحدة في باب الاتحاد الأوروبي، تهديداً لأفكارهم المسبقة التي لا تستند إلى أساس من الصحة.
الحقيقة هي أنه منذ عهد سليمان القانوني في القرن السادس عشر، درس الأتراك ونسخوا وتحرّكوا بحسب الطرق الأوروبية بهدف الوصول إلى أوروبا. ولا شك في أن العثمانيين في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين اعتبروا أنفسهم حكّام قوة غربية، وهو إرث بنى عليه أتاتورك الجمهورية بعد عام 1923.
الأتراك الذين يسلكون مساراً مستقيماً إلى حد ما منذ معركة مانزيكرت، هم لاعبون محوريون وربما حاسمون في مثلّث القوة المؤلف من أوروبا وروسيا والأراضي العربية، وهو مثلّث معني بالاستثمارات والتجارة، والنفط والغاز، والأراضي والموارد البشرية الهائلة، مع السيطرة على الجهة الشرقية من المتوسط، والدردنيل والبحر الأسود والقوقاز. تحرص تركيا التي تملك معارف واسعة عن كل الثقافات المعنية وتعرض مفهومها الجديد عن “العمق الاستراتيجي”، في محاولة لإيجاد تسوية مع أرمينيا وإيران والعراق وسوريا وإنقاذ إسرائيل من حماقاتها – تحرص إذاً على عدم انتقال نسخة من الإسلام شديدة الحماسة، وعنيفة في معظم الأحيان، إلى حدود بلغاريا واليونان. يحظى هذا بالتقدير من الولايات المتحدة والعديد من القادة الأوروبيين، إنما ليس من جميع القادة الأوروبيين، ولا من الرأي العام الأوروبي الأمر الذي يثير القلق.
يجب أن يشجّع الاتحاد الأوروبي تركيا – وعلى الرغم من سجلها السيئ نسبياً في مجال حقوق الإنسان – على مواصلة إصلاحاتها الداخلية وسياساتها الخارجية مع قطع وعد لها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عند تلبية الشروط الضرورية، ربما بعد عشر سنوات أو عشرين سنة. فالتلكّؤ الأوروبي الحالي هو مثال مأسوي عن التفكير الاستراتيجي المريع والإهمال الاقتصادي والقراءة غير الصحيحة لنحو ألف عام من التاريخ الأوروبي.
(ندوة المعهد الدانمركي في دمشق)
(مراسل الصحيفة الدانمركية”جيلاندز – بوستن” في فيينا وروما. ترجمت النص نسرين ناضر)
النهار