الكاتب المكسيكي خورخي فولبي: يصعب علينا جداً نحن المكسيكيين قول الحقائق عاريةً
لا يتراءى ان الكاتب خورخي فولبي من صنف يخشى الصراعات الفسيحة. عند افول القرن العشرين، بادر مع مجموعة من زملائه الى شق منحى جديد للآداب المكسيكية من طريق جيل “كراك” الذي امكن ترجمته بجيل القطيعة. تبلورت تلك القطيعة ازاء ذهنية استمرت عقوداً وازاء افكار ادبية من حبر وخيال تورّمت لتصير سمات لقارة وناس وبلدان. في ركاب الاعتراض عينه، حانت لحظات اضافية في مسار فولبي حيث جبه المفاهيم المستتبة الكبرى في سياق إبحار لبناء سردي كثيف ومطوّل صار من البديهيات. اتقن فولبي الجمع بين الحكايتين الصغيرة والكبيرة. لم يترك محرر اميركا اللاتينية سيمون بوليفار يسند رأيه الى المخدّة ليرتاح، فحاول استفزازه واستفزاز ارثه في البحث. في حين جاءت الرواية الفلسفية والسياسية والعاطفية في عرفه سبيلاً الى تعرية قسط كبير من اساطير القرن العشرين، بدءا من محطة 68 الفرنسية مرورا بلاكان وصولا الى فوكو. ينبذ خورخي فولبي سهولة نجاح انواع من الكتب تكتفي بمعيار قيمي تجاري، ويطالب بأدب مكسيكي نقدي وتأملي. على الارجح لأنه اعتاد الروايات المركّبة التي توفّق بين التحقيقات البوليسية والتحليل السياسي والعلوم الانسانية وحيث تتشابك ايضا مع المعاصر الفردي. خلال زيارة خورخي فولبي الوجيزة لبيروت، بدعوة من السفارة المكسيكية وجامعة القديس يوسف، التقيناه في هذا الحوار.
• تعدّ احد الوجوه الرمزية لجيل “كراك” في المكسيك الذي ضم، اليك، بيدرو أنخيل بالو وألوي أوروز وريكاردو تشافيز كاستانييدا وإيناثيو بادييا، وسعى الى اخذ مسافة من فكرة مسبقة جمعت بين الكاتب المتحدّر من اميركا اللاتينية والواقعية السحرية. انسحبت هذه المجموعة من مسلّمة اضطرار المرء الى ان يبين لاتينياً من خلال الواقعية السحرية حصراً. هل يتخاصم جيل “كراك” ايضا مع السعي الى تأطير مساره الادبي من خلال وضع لافتة توحيدية عليه، فيما حوى تنوعا في الاقتراحات الفوضوية والمتباينة؟
– اعتقد انه جرى في المكسيك ما يشابه التعميم ادى الى الجزم بأن الواقعية السحرية كانت سمة اميركا اللاتينية فحسب، وانسحب هذا التعميم على جيل “بوم” ايضا، في حين لم يكتب ماريو فارغاس يوسا او كارلوس فوينتيس او خوليو كورتاثار يوماً واقعية سحرية بالمعنى المتعارف عليه. غير ان الانطباع الذي خلّفته رواية “مئة عام من العزلة” لغارثيا ماركيز كان قويا جدا، الى درجة سيادة هذه الفكرة. بالطبع، انحزنا الى الاعتراض على جمع كل هذه المؤلفات في سلة واحدة، وآثرنا الرجوع الى نموذج الروايات العظيمة التي قدِّمت في اطار “بوم”، اي الفورة الأدبية. في ما يخصّ جيلنا، اظننا ايضا كنا ضحية خطأ في التصنيف انبثق من الصحافة، ذلك انها اشارت الى “مجموعة كراك” لتغدو على نحو مباغت فعلا، جيلا كاملا، علما ان ثمة كتّاباً كثراً من جيلي في المكسيك وفي اميركا اللاتينة لا ينتمون الى المجموعة ويأتون باقتراحات مختلفة ومتفاوتة الوجهات.
• التأم جيل “كراك” حول مانيفستو او بيان مشترك اصدره في عام 1996 خمسة كتّاب مكسيكيين كانوا طافوا على سطح المشهد الأدبي من طريق خمس روايات اصدروها. حملت روايتك ضمن هذه الثلّة عنوان “الطباع الكئيبة” حيث يتبلور تأمل عميق في شأن مصير الاعمال الفنية ومبدأ نهائية افعالنا جميعا. ما كانت محصلة هذا التأمل؟
– لست على يقين في خصوص وجود خلاصة ممكنة. في هذه الرواية تشكلت الثيمة حول الاستفهام الآتي: كيف يسع الفن ان يؤدي الى تدمير شخص معيّن؟ طرحت السؤال من طريق استعارة الشريط السينمائي والممثلين. بعدذاك، لم يعد السؤال عينه يقتصر في رواياتي الاخرى على الفن فحسب وانما أيضاً على العلوم القادرة على الخراب. اتيت بتأمل في القدرة التدميرية التي تنطوي عليها افضل الامور التي ابتكرت في المبدأ من اجل خير الإنسان.
• انطلقت لتشييد بنائك الأدبي من حلقة درامية في حياة خورخي كويستا العضو في المجموعة الاثيرة من الكتّاب الذين تحلّقوا حول مجلة “كونتيمبورانيوس” (معاصرون). بقي كويستا خلال اعوام فريسة الاضطراب والجنون، تحرّكه الرغبة في كتابة مطوّلة “نشيد لإله معدني”. عندما اتمّ ابياتها الثلاثة الأخيرة اقدم على الانتحار. وجدت في هذه الحكاية تجليّاً، وادركت بفضلها انه إذا استطاع المرء كتابة قصيدة في ظل هذه الظروف فهذا يعني ان الادب ليس تفها. هل من الملحّ في عرفك ان يترافق الالتزام الادبي مع درامية مماثلة؟
– ليس في الضرورة. اظن ما حدث لكويستا حالة قصوى، ان يضطر المرء الى الانتحار بعيد انجاز قصيدة عمره. غير ان هذه الحادثة تعكس اهمية الادب في حياة الناس وإن لم يجر ذلك في المنحى السلبي. اعتقد ان الادب يلعب دورا محوريا في مسار الانسانية الا وهو ان تضع نفسك مكان الآخرين وإن لوقت وجيز. أمر مشابه لهذا، يمكنه ان يتسم بالدرامية ولكن بالمعنى الايجابي، ذلك انه يساعد في التشديد على مفهوم الانسانية.
• واصلت الحديث عن الشاعر في رواية “على الرغم من الصمت القاتم” التي تتمحور على هجس رجل يدعى خورخي إزاء تبصر خورخي كويستا وجنونه ونزاعه. تنطلق الرواية على هذا النحو “كان اسمه خورخي، كمثلي تماما، ولهذا السبب تؤلمني حياته مرتين”. رويدا يزداد ها هنا شبه خورخي بخورخي كويستا الى حين يصير خرابه حتميا. بمعنى او اخر، تؤكد هذه الرواية إلحاح التحول الذي يرصده الكاتب انطونيو مونيوث مولينا في قوله “لا يعرف الكاتب ما ستصيره الرواية عندما ينطلق في كتابتها ذلك ان الرواية عينها هي حكاية هذا التحول”.
– اوافق مونيوث مولينا الرأي تماما. يفاجئني بل ويغبطني جدا ان اتحدث عن باكورتي “على الرغم من الصمت القاتم” التي تتمحور على الهجس ايضا، هذا البعد الحاضر جدا في مجمل ما كتبته تقريبا. يوازي هذا الهجس دوما التحوّل، اي كيف يصير شخصٌ شخصاً اخرَ، علما ان هذا التبدل يحصل احيانا من خلال الفنون، واحيانا اخرى من خلال العلوم او وسائل اضافية اخرى.
• يروقني الانتقال الى “متاهة الوحدة” لمواطنك أوكتافيو باث حيث يعلن ان “كل المكسيكيين كذّابون”. هذا العجز الثقافي عن قول الامور على ما هي عليه، واللوذ بالتلطيفية، اي تفضيل قول نعم عوضا من لا، هل يصير نعمة في سياق الادب المطرح المثالي لقول حقيقة بديلة؟
– اعتقد ان هذه القسمة تنطوي على الايجابية والسلبية في آن واحد. الايجابية منوطة بالمجاملة وبالرغبة في عدم ازعاج الاخرين أو إهانتهم، في حين تصير هذه السمة في المنحى السلبي موازية للخبث. اعتقد ان الكذب سمة لا تزال حية الى اليوم في وسط المكسيكيين ولم تتبدل مذ عرّف عنها باث بهذه التعابير الصريحة التي لا توارب. اجل، نحن كذلك، يصعب علينا جدا نحن المكسيكيين قول الحقائق عارية. واظن هذه السمة تترجم في الادب حقيقة تلاعبية، نصلها على نحو يتسم بشيء من الباروك.
• في العودة الى حال القارة الاميركية الجنوبية، فإن سيادة الواقعية السحرية ونجاح “مئة عام من العزلة” جعلها تتخطى طبيعتها كعمل ادبي لتغدو اداة للتحليل السياسي الاجتماعي، ولرؤية اميركا اللاتينية كمنطقة حيث يتعايش السكان مع الفائق الطبيعة.
– في الواقع لم تُفهم الواقعية السحرية كمصدر ادبي وانما كنمط لرصد اميركا اللاتينية على نحو مباشر. ساد الاقتناع بأن الواقعية السحرية من شأنها ان تفسر الواقع الاجتماعي السياسي في اميركا اللاتينية، وهذا امر مغلوط تماما. اظن هذه الرواية رائعة ومصدرا للفانتازيا، غير انه ليس بديهيا جعلها تصير شرحا كاملا وتاما لكيفية تطور اميركا اللاتينية. ثمة امور شتى تحدث في هذه البقعة الجغرافية بلا ريب قد تتراءى لعين شخص غربي مدهشة تماما. غير ان هذا لا يعني انها اساس المشكلات التي يعانيها الشطر الجنوبي للقارة الاميركية.
• في كل حال، انت لا تعدّ المكسيك جزءا من اميركا اللاتينية وتتحفظ حتى عن المصطلح. تكتب: “نقول كمكسيكيين على نحو عفوي اننا اميركيون لاتينيون. غير انه تعبير لا يمت الى الواقع العملي بصلة، انه اشبه بالأمنية”. تبدو متعلّقا جدا بالطابع العابر للهوية المشتركة المفترضة؟
– اجل، في الواقع كانت الهويات دوما تخييلية ومخترعة. لطالما انخرطت الهوية اللاتينية الاميركية في جدال يتمحور على فكرة مركزية تتعلق برغبة الدول في بناء هوية وطنية في كل بلد من اميركا اللاتينية على حدة. نتقاسم من دون شك ثلة من السمات المشتركة تأتينا من التاريخ، هناك اللغة القشتالية، والكاثوليكية. لكن الامر يتعلّق ايضا وخصوصا في حال المكسيك بدينامية خاصة على الصعد السياسية والاجتماعية والديموغرافية والثقافية ايضا شيئا فشيئا، ذلك ان البلاد في هذا المضمار موجهة صوب الشمال اكثر منها صوب الجنوب، وهي تدير وجهها الى الولايات المتحدة الاميركية اكثر منه الى البلدان الجنوبية الاخرى.
• نلتَ جائزة “ديباتي كازا دي اميريكا” عن بحثك الجدالي والمحفّز للمناقشة، “ارق بوليفار. اربع حجج غير مناسبة في شأن اميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر”، حيث تمر بأحلام الحرية والازدهار في أميركا الاسبانوية التي تحوّلت كوابيس، وتستعيد تطبيقات فكرة التحرر في مختلف بلدان اميركا اللاتينية. كيف تقارب حال هذه اليوتوبيا راهناً مع بزوغ زعماء لاتينيين عابرين للقومية؟
– اردت ان يكون البحث جداليا وان انجز من خلاله تأملا في شأن وضع اميركا اللاتينية راهنا مع احتفال دول عدة بمرور قرنين على نيلها الاستقلال. من جهة ثانية، ثمة بلا ريب زعماء لاتينيون يصيرون لاعبين كونيين يتعاظم دورهم رويدا، غير انهم لا ينتمون الى الشطر الاسبانوي خصوصا. تصير البرازيل تدريجا لاعبا كونيا قادرا، في حين فقدت المكسيك دورها الذي جعلها خلال فترة معينة ترئس الجزء اللاتيني من القارة، لتتلقفه البرازيل اكثر فأكثر.
• تعبّر عن اقتناعك بأن الطابع المكسيكي لم يعد موجودا في الادب، والحال ان روايتك الاحدث، “الحديقة المقفرة”، تتذرع بالعراق. هل ولّى زمن الادب “الوطني” تماما؟
– لا اعتقد انه ولّى تماماً، ذلك ان ثمة اصواتاً ادبية لا تزال تبني كتبها انطلاقا من فكرة الهوية الوطنية. في حين ان الاجيال الراهنة في اميركا اللاتينة كما في سواها من البلدان، باتت تكتب عن دولها او عن دول اخرى من دون ان تسعى الى تشييد مفهوم الهوية الوطنية. طبعا هناك اماكن وبلدان حيث يواظب كتّاب على هذا المنحى البنائي للهوية الذي لا يزال يحتفظ بحضور بارز وقوي وفاعل. يخطر في ذهني في هذا الاطار، الحديث عن أدب “تشيكانا” (اي ادب الكتاب الأميركيين المتحدرين من اصول مكسيكية)، غير اني اعتقد ان هذا المنحى في العموم تلاشى مع الوقت في اميركا اللاتينية.
مقتطفات لخمسة كتّاب من جيل الـ”كراك”
في ما يأتي مقتطفات من مجموعة نصوص تكوّن منها “مانيفستو” جيل “كراك” موقّعةً بأقلام خمسة كتّاب مكسيكيين، من شأنها ان تمنح فكرة اولية عن مآل حلقة أدبية محورية ومقاربتها للتمرين الكتابي، ننقلها اليكم من الاسبانية الى العربية:
ميغال أنخيل بالو
احتفال “كراك” (سيناريو)
نجد الكلمات الأكثر فصاحة في شأن التحديات التي واجهتها روايات جيل “كراك” على ما اظن، في ما قاله ايتالو كالفينو في “ستة اقتراحات للألفية الجديدة”. في تلك الصفحات، عرض كالفينو تأمّلا يتراءى ضروريا اليوم، فيما الأدب والسرد خصوصا ماضيان في طريق التحدّث الى قرائهم المحتملين من خلال تكنولوجيا الترفيه، من خلال ألعاب الفيديو والوسائط الجماعية وأخيرا من طريق ألعاب الواقع الافتراضي حيث يتم تطوير فرد يتشكّل، يا للمفارقة، من عصرية فارغة، وحيث في عالم يضع قفازاً، في وسعه ان يرى ويسمع وان يلمس ايضا المغامرات التي يقترحها عليه الشريط المدمج. كيف يمكن الراوي تالياً ان يضاهي ذلك، من خلال وسائله البسيطة بغية ان يجتذب قراء تائهين في هذا العالم الشاسع؟ ادرك كالفينو الجواب على نحو استباقي. استخدم اكثر الاسلحة عراقة في مجال التفاهة وهي اقدم مهنة في العالم مطلقا (أياً يكن ما يقال في خصوص الدعارة). تأمل كالفينو هذه الحسنة في الادب وظن ان اعمالا كمثل “روميو وجولييت” و”ديكاميرون” او “ايل كيخوتي” حتى، ستشكّل اداته السردية القادرة للخفّة الغريبة. بل لما هو افضل ايضا، للبساطة الظاهرية. من خلال هذه التقنية صار من الأسهل التلاعب برسالة اخلاقية رهيبة. على هذا النحو ايضا، تصير النظرة الثاقبة كما النقد الاجتماعي القارص، خاضعين لمرح سريع ولعوب لا يستثني التهكّم الاكثر قسوة.
ألوي أوروز
سلالة “كراك”
في بحثه المعروف “المكسيك في الرواية”، يشدد الناقد الاميركي جون اس بروشوود على ان يانيز وضع اسس “الرواية العميقة” في عام 1947 من خلال اصداره “خيط المياه”. لتصدر بعدذاك ومن ضمن التقليد عينه، “بيدرو بارامو” التي كتب في شأنها بروشوود “من الطبيعي ان يعبّر البعض عن اعتراضهم بسبب صعوبة فهم هذه الرواية وان يفضل البعض الاخر نبذها عوضا من تسخير الجهد لفهم ما تخبره. يبدو من السهل والى هذا الحد الترفّع عن المشاركة الفاعلة، غير انه وبحسب ما اظنّه، تستحق النتائج في المحصلة بذل الجهد”. ان ما يلفت الانظار في الحالين، هو اولا صفة “عميقة” التي تستخدم بغية الاشارة الى تقليد او سلسلة من الروايات او الروائيين الذين يفهمون من خلال هذا المصطلح العمل الابتكاري
بوصفه التعبير الاكثر اصالة عن مطلق فنان يلتزم عمله.
عندما يتحدّث بروشوود مثلاً عن “صعوبة بلوغ” بعض الكتب، يفكّر كتّاب “كراك” مباشرةً بالرواية التي تنطوي “على متطلّبات” والتي “لا تحتمل التنازلات”. تلك “متطلّبات” تستحق نتائجها في النهاية، الجهد المطلوب، اما “التنازلات” فلا تستخدم في الأمد البعيد سوى من اجل إنهاك مشهدنا السردي ومن اجل جعل القراء الشرفاء يصابون بالاكتئاب. غير ان المعضلة، بالنسبة الى هذه المجموعة من روايات “كراك” هو ادعاؤها على نحو بطولي، تحقيق ما سمّاه كورتاثار “المشاركة الفاعلة” لدى القراء، في حين ان ما تقدمه الى قرائها وتجعلهم يستهلكونه احيانا ايضا هو “التخلّي” الشنيع.
على هذا النحو يمكن رؤية سلالة “كراك”. يحدّ جيل “كراك” من حضور الكتب التي تفوح منها رائحة الثورة فضلا عن انه يدمّر تلك التي تنطوي على اتهام. على هذا النحو ستلتهم ألسنة النار كتبا كثيرة من دون اي تأمل اضافي او محاولة ايجاد اعذار. الى جانب هذا التقليد الذي عرف ألقه من طريق يانيز ورولفو، حافظ روائيو “كراك” على فعل تبجيل اعمال حملت عناوين كمثل “النهارات الأرضية” و”الطاعة الليلية” و”خوسيه تريغو” و”موت ارتيميو كروث” وكتب اضافية. غير انه بدءا من هذه اللحظة، نسأل ما الذي يجري؟ ما هي الاعمال المثالية في أدبنا، او في الاقل ما هي القصص التي يمكننا نحن اليوم ككتّاب مولودين في السبعينات من القرن المنصرم، ان نجد فيها نموذجا محترما يمكننا ان ندّعي الموت من اجله؟ يا للأسف ليس ثمة اعمال مماثلة. ماتت بسبب فقر دم او بسبب افراط في الرضا. اندثرت أخطار التجدد كما الرغبة فيه.
إيناثيو بادييا
سباعية الجيب
استطاع بيسوا ان يخلق وحده جيلا كاملا في لشبونة الخاضعة لنظام ديكتاتوري والعقيمة ادبيا، والامر جاء على ما اعتقد (في حال وضعنا الأفكار جانبا) بسبب الانهاك. في احد الصباحات، وعلى اثر حلم مزعج استيقظ ألفارو دي كامبوس ليكتب “لأني اسمع، فأنا ارى. اقرّ بذلك: انه الانهاك”. وفي ساعات أرقه، ولد الشعر العظيم. على النحو عينه، اظن القطيعة تولد هكذا، في كل انواعها، بدءا من اكثر اليوميات اختلافا وصولا الى اكثر الثورات دموية وراديكالية. لم تأت القطيعة بسبب العقائد وانما بنتيجة الارهاق. لهذا السبب ينبغي تاليا البحث عن تعريفات مقنعة وعن نظريات. ربما بانت على هذا النحو مجموعة من النظريات تشابه الألعاب اكثر من مشابهتها البيانات. نجد فيها رد فعل من اجل جبه الانهاك وهو في هذه الحال انهاك الادب الاميركي اللاتيني العظيم والواقعية السحرية المثيرة للريبة التي تحولت في ادابنا سحريةً مأسوية. ثمة انهاك ايضا من الخطب الوطنية التي جعلتنا نظن ريفابالاسيو يكتب افضل من معاصره بو. لكأن الدنوّ الزمني والنوعية امر واحد. هناك انهاك من الكتابة على نحو سيىء من اجل ان نقرأ اكثر، وهناك انهاك من الالتزام، وانهاك من الآداب التي تطير وهي ترسم دوائر كمثل ذبابات على جثثها الذاتية. انبثق من هذا الانهاك رحيل عام، ليس ادبيا فحسب انما ظرفي ايضا. لست اتحدث عن التشاؤم او الوجودية المفروضة او التي تخطاها الزمن. ربما لا نزال نحتفظ بسمة تفاضلية، وهي ان تصير روح التشخيص والضحك والهزء بدائل ناجعة.
ريكاردو تشافيز كاستانييدا
أخطار الشكل/ بنية روايات “كراك”
عندما تحين لحظة القيام باقتراح جمالي، تصير الاماكن المشتركة، كمثل مصطلحات “الصفحات تُحدثنا” و”الكتاب يدافع عن نفسه وحده”، ملائمة تماما. في افضل الحالات، ربما يكون المانيفستو خريطة تحدّد ما يبدو جليّا لعيون المجموعات، اي ان الاعمال هي اسياد الالتزام الفعليين، من خلال موقف ومن خلال اعلان ايضا. تشكل روايات “كراك” الخمس تحديداً، هذا المكان حيث ينبغي البحث عن اتفاق او روح ملتزمة او طموح. انجزت الروايات من دون الامتثال الى تعليمات جماعية. وفي حال التئامها بعدذاك، فإن الأمر جاء بنتيجة المصير اكثر منه بنتيجة ارادة. ليس من دور لاقتراحات مماثلة عدا تقاسم دهشتنا، فيما شكّلت الحوادث العرضيّة في حقبتنا الى الساعة، جسر التواصل الوحيد بيننا، نحن الكتّاب المولودين بدءا من السبعينات من القرن العشرين. كلمات اقل وكلمات أكثر. تجمعنا اليوم ايضا ادانة واحدة في حال سلّمنا بأن الروايات هي مجال في ذاته ورأي في مسار. انطلاقا من هذا المبدأ يصير الامر تعبيراً عن خيار قائم وتحمّلاً لآخر نتائجه.
خورخي فولبي
أين تمكن نهاية العالم؟
في كتاب “ذاكرة الأيام” يتوجّه اعضاء غريبون في مجموعة دينية في رحلة حج صوب لوس انجلس للبحث عن اتباع، علما انهم يجهلون انهم يتوجهون الى دمار عالم المدينة ايضا. يجوب شخوص الرواية المختلفون العالم في محاولة لكي يفسروا للمشككين ان العالم على وشك الاختفاء، تماما مثلما يفعل المخرج السينمائي المحتفى به في رواية “الطباع الكئيبة” كارل غوستاف غروبير. يسمعه البعض، تتبعه حفنة منهم، في حين تهزأ به الغالبية او تدينه. في المحصلة يصير اميركيا مجنونا، نسخة من ديفيد كوريش، ويتسبب بمجزرة ضمن افراد البدعة. يظن العلماء كما النقاد انهم يمتلكون الكلمة الفصل، يقولون ان الدينونة ها هنا تبدّت في المحصلة على نحو عملي مجرد خديعة وان شيئا لم يتبدل. غير ان ما يجهلونه ويعجزون عن ادراكه هو ان تضحية لوس انجلس كانت في الواقع مأساة تم اعلانها مرات عدة. ذلك انهم لا يملكون الاخلاقية او القيمة الضروريتين من اجل ادراك ان نهاية العالم لا تحدث خارج العالم انما في القلب، في حال اعدنا صوغ احد اقوال نيتشه. ليست نهاية العالم اكثر من نوع من الخرافة او ضرورة تسويقية، تفترض حالا روحية معينة. ان التدمير الخارجي هو اقل ما يهم في حال مقارنته بالإندثار الداخلي، في اطار واقع الغرق الذي يسبق دينونتنا الذاتية.
بالأسلوب عينه، جعلت المصادفة فحسب الحجاج الاخرين يقصدون هذه الاراضي. ريكاردو والياس أخان متحدان وعبثيان، اخترع أحدهما الآخر من دون ادراك لذلك، يتقدّمان على الطريق التي تصل بين لاباث وحدود كاليفورنيا، يقصدان بابل المهاجرين، ومن هناك ربما الاسكا حتى. في عالم متعدّد، حيث تغزر القصص التي تدخل القصص، تبدو جمالية اشير او بورخيس كأنها تصل الى آخر نتائجها في “العوائق” بإسم الرواية وقرية الصيادين حيث يتم الاحتفاء بهذا الطقس التوحيدي. نحن اشخاص مقسمون او متعددون، مَن في وسعه ان يشكك في ذلك؟ يكمن التطرف ها هنا في القول ان الكتابة قادرة على اعادة ادخالنا الى تهويماتنا الذاتية. يجعل هذا الامر الاصدقاء المتخيّلين في المراهقة يبدون ككائنات حقيقية او ما هو أسوأ ككتّاب ايامنا الراهنة. نهاية العالم مخفية بلا ريب، غير انها هنا بداية اليوتوبيا، بداية عالم جديد. بعد أن يلتقي الياس وريكاردو في المحصلة، خالق ومخلوق بالتراتبية، يقفان في وسط الصحراء، وفيما يتوجهان صوب نهاية الطريق، يتأملان الفضاء الذي لا ختام له وبداية الكون الذي ينفتح امامهما.
ترجمة ر. ر.
رلى راشد
النهار