المواطنة في قانون الأحوال الشخصية السوري – المسودة (2)
بعد أن فتحت إحدى الصحف السورية المعروفة، بتاريخ 8/10/2007، ملف قانون الأحوال الشخصية السوري مع الإشارة إلى آثاره السلبية على الحرية الدينية وقضايا الزواج المختلط وجرائم الشرف وأيضا التمييز ضد المرأة وغير المسلم؛ تنبّهت الحكومة إلى ضرورة تعديل هذا القانون الذي جار عليه الزمن. لكن المفاجأة التي صدمت الشارع السوري تمثّلت في أنّ التعديل جاء نحو الأسوأ في مسودة قانون رجعي صادر عن اللجنة الحكومية المنبثقة عن رئاسة مجلس الوزراء، وهذا ما سبق وأن بينّاه في مقال بعنوان: مدى انطباق مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري مع منظومة حقوق الإنسان.
ولحسن الحظ لم يتم التصديق على مشروع قانون الأحوال الشخصية (1)، الصادر في الشهر السادس من عام 2009، وذلك بعد الانتقادات الواسعة التي شهدها الشارع السوري في الأشهر الماضية. هذا و قد تمّ الإعلان، في هذا الشهر الجاري، عن مسودة جديدة لقانون الأحوال الشخصية، وقد تبين بعد التدقيق، أنّها أفضل من المسودة السابقة وخاصة فيما يتعلق بعدم الاعتداء على صلاحية الكنيسة في إبرام عقد الزواج، إلغاء تعدد الزوجات بالنسبة للمسيحي (المادة 318 )، رفع سن زواج الطفلة من 13 إلى 15 ( المادة 18 )، عدم إنشاء نيابة شرعية مختصة بقضايا الحسبة، عدم ذكر بعض المصطلحات التي تتعارض مع مفهوم المواطنة وخاصة مصطلح “الذمي”. وعلى الرغم من هذه التعديلات، لا تزال المسودة الجديدة تعتدي في موادها، وبشكل واضح، على الحقوق الأساسية للمواطن السوري وخاصة حقوق الطفل وغير المسلم والمرأة.
في الحقيقة إن نص المسودة الحالية (2) لم يأخذ بعين الاعتبار حاجة المجتمع لقانون عصري حيث أنها أعادت إدراج أغلب مواد قانون الأحوال الشخصية النافذ حالياً والمطبق منذ عام 1953. لذا فإن الحاجة أصبحت ملحّة، بعد مرور أكثر من نصف قرن على تطبيق القانون الحالي، لإصدار قانون ينسجم مع حقوق الإنسان بحيث يؤدي إلى النهوض بالمجتمع السوري و بشكل جذري نحو مرحلة جديدة من الوحدة الوطنية ومن تعزيز لدور المرأة في المجتمع. من أجل تحقيق هكذا أهداف، لابدّ أن تأتي صياغة أي قانون بشكل منسجم مع الصكوك الدولية لحقوق الإنسان التي شاركت سوريا وبشكل فعّال بتقنينها والتصديق عليها. لهذا فان استئصال التمييز و انتهاك الحرية الدينية من قانون الأحوال الشخصية الحالي هو واجب إنساني- أخلافي تجاه المجتمع والوطن، كما أنه واجب قانوني بمقتضى الصكوك الدولية السابق ذكرها.
بالنسبة لأهم الانتهاكات المنصوص عليها في المسودة الجديدة وأيضا في قانون الأحوال الشخصية الحالي، فيمكن أن نلخصها بالاتي:
لا تزال المرأة تعاني، سواء كان في المسودة الجديدة أو في القانون النافذ حاليا، من التمييز ومن الخرق الواضح لحريتها الشخصية. حيث حافظت المادة 27 على نصّها : ” إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي فإن كان الزوج كفؤاً لزم العقد وإلا فللولي طلب فسخ النكاح.” وهذا ما يجعل المرأة، مهما كان سنّها أو درجتها العلمية، رهن لرغبة ولي أمرها في اختيار شريك حياتها. تقييد حرية المرأة في اختيار زوجها منصوص عليه أيضا بشكل صريح وواضح في المادة 35 التي تعتبر زواج المسلمة بغير المسلم زواج باطل. المادة 14 من المسودة الجديدة تؤكد المعمول به في القانون الحالي بحيث تعتبر شهادة الرجل معادلة لشهادة امرأتين بصرف النظر عن سوء سمعة الرجل أو عن تمتع المرأة بمكانة أخلاقية و علمية و ثقافية جيدة. كما تنص المادة 37 على حق الرجل بتعدد الزوجات وهذا ما تمّ إلغاؤه، أو وضع شروط شبه مستحلية لتطبيقه، في بعض الدول العربية كدولة تونس والمملكة المغربية اللتان أجريتا تعديلات جريئة في هذا الميدان. كما حافظ المشروع الجديد على وجوب حصول المرأة على إذن للعمل وكذلك على حق الزوج بتطليق زوجته بإرادته المنفردة.
لا يزال المرتد عن الإسلام يُعاني من هدر لحقوقه المدنية والسياسية سواء كان في ظل القانون الحالي أو المسودة الجديدة التي لم تأتي بجديد في هذا الصدد. ولابد من الذكر أن بعض أشكال التمييز تطبق بدون وجود نص صريح في قانون الأحوال الشخصية، وذلك لأن نقص التشريعات يُلزم القاضي بالرجوع إلى المذهب الحنفي المقنّن في كتاب قدري باشا، كما هو مذكور في كل من المادة 313 من المسودة الجديدة و المادة 305 من القانون الحالي. فعلى سبيل المثال تطبيق المادة 381 من كتاب قدري باشا يؤدي إلى نزع الحضانة عن الأم المسيحية المتزوجة بمسلم إذا خشي على دين الطفل المسلم. ويذكر بأن الاجتهادات القضائية السابقة في سوريا قد أعملت مرارا هذا الحكم وأسقطت الحضانة عن الأم غير المسلمة في كثير من القضايا نذكر منها خاصة قرار محكمة النقض في 6 نيسان لعام 1981. وإعمال هذا الحكم يسهم في تشجيع المسيحيين على اعتناق الإسلام بغية الحصول على حضانة الأطفال. كما أن الدخول في الإسلام يكون بغاية الحصول على حقوق أخرى أو هربا من بعض أوجه التمييز كأن يعتنق المسيحي الإسلام من أجل الزواج مرة ثانية أو الحصول على قرار الطلاق الذي غالبا ما تصّعبه أو تحرّمه الطوائف المسيحية، من أجل الميراث حيث أنّه (لا ميراث مع اختلاف الدين)، من أجل التهرب من دفع النفقة الزوجية وبقية الالتزامات. في الحقيقة، إنّ وجود هكذا ثغرات قانونية يشّكل دافعا للتحايل على القانون وهو غالبا ما يدفع ثمنه الطرف الأخر في عقد الزواج نظرا لعدم مراعاة حقوقه المكتسبة بمقتضى عقد الزواج.
و أخيرا ألغت المسودة الجديدة قوانين الأحوال الشخصية المطبقة على طائفة الروم الأرثوذوكس والسريان الأرثوذوكس والروم الكاثوليك دون ذكر ما سيطبق عليهم من قوانين. فإذا كان هذا الإلغاء لمصلحة قانون مدني عصري فلما لا، أما إذا كان بغاية تطبيق أحكام شرعية غريبة عن العقيدة المسيحية، فسيكون ضربة للتعايش الديني الذي تشتهر به سوريا منذ عقود.
وبذلك يتبين أن تشريعات قانون الأحوال الشخصية تتضمن تكريسا للطائفية وتشكل عقبة أمام تطور المجتمع. لهذا لابدّ أن يتم صياغة قانون أحوال شخصية خالٍ من كافة أشكال التمييز السابق ذكرها مع مراعاة ما ورد في العهد الدولي الموقع عليه من قبل سوريا بتاريخ 21 نيسان 1969 واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي انضمت إليها سوريا بتاريخ 25 أيلول 2002 وأخيرا اتفاقية حماية حقوق الطفل المصدقة في تموز 1993. كما أنه من الضروري أن يتم إقرار قانون يتيح الزواج المدني للسوريين بصرف النظر عن انتمائهم الديني فجميعنا أبناء الإنسانية أولا والوطن ثانيا. و رغم صعوبة إلغاء واستبدال قانون الأحوال الشخصية الحالي بقانون علماني في الوقت الراهن، فإن المطلب الأساسي يبقى باستصدار قانون مدني مع المحافظة على قوانين الأحوال الشخصية لكل طائفة، وبذلك يكون أمام أي شخصين راغبين بالزواج حرية الاختيار ما بين القانون المدني أو الديني أو حتى الاثنين معا كما هو الحال في أغلب الدول المتقدمة.
إن إقرار هكذا قانون مدني مستلهم من حاجة العصر، وينطبق على الجميع بصرف النظر عن طوائفهم ومللهم، هو حق لكل مواطن يؤمن برفعة الدين عن السياسة والقوانين. في انتظار إقرار هكذا قانون، نقترح أنت يتمّ الاعتراف بعقود الزواج المدنية المعقودة في الخارج وتدوينها في سجلات الأحوال المدنية السورية كما هو الحال في دولة لبنان الشقيق. الاعتراف بهكذا عقود يتيح للأشخاص المنتميين إلى طوائف وأديان مختلفة من إتمام عقود زواجهم المختلط و تسجيل أطفالهم اللذين يُعتبرون في ظلّ قوانيننا الراهنة “أولاد حرام” رغم براءتهم وعدم اقترافهم أي ذنب.
خاص – صفحات سورية –