كيف يتعامل المثقفون العرب مع معارض الكتب؟
عناية جابر
أيها المثقف في أي بلد عربي او اجنبي تعيش، كيف ترى الى حدوث مناسبة معرض الكتاب؟ كيف تتفاعل معها وكيف تقيّم المعارض سلباً وإيجاباً، وترى الى وقعها الشخصي عليك؟ سؤال عريض تتفرع منه اسئلة اجاب عنها (وبمناسبة قرب حدوث المعرض العربي للكتاب عندنا) عدد من الكتّاب والشعراء العرب: فيديل سبيتي (لبنان) جاكلين سلام (سوريا) أحمد بن ميمون (المغرب) عاطف عبد العزيز (مصر).
فيديل سبيتي: لا جديد
الشاعر والكاتب اللبناني فيديل سبيتي يحدد روابطه بالمعرض على الشكل التالي:
«سأوقع مجموعة قصص قصيرة بعنوان «سيرة عاطفية لرجل آلي» في أحد أيام معرض الكتاب. هذا هو الرابط الاول والرئيسي الذي يربطني بالمعرض، كما كانت الحال في السنة الماضية وفي السنة التي سبقتها. توقيع المجموعة الذي هو بمثابة اعلان عن صدور هذا «المنتج» الجديد وهو سبيل لتغطية نفقات الطباعة، هو ما يدفعني دفعا الى النزول الى معرض كتاب بيروت العربي(؟) والدولي(؟). هناك سبب آخر وهو ارضاء الأصدقاء الذين يوقعون كتبهم الجديدة وهي على الأغلب مجموعات شعرية. عليّ بطبيعة الحال ان ابتاع هذه المجموعات كي أقرأها اولا رغم ان جزءاً كبيراً منها اكون قد قرأته في الصحف او سمعته مباشرة من فم كاتبه، لكن لا بد من اضافة هذه المجموعات الى كتب المكتبة ولا بد من الوقوف الى جانب الشعراء الشباب الجدد الذين قد يدعمهم وقوف صديقهم الى جانبهم، في زمن الكومونات والكومبينات الثقافية التي تبرز اكثر ما تبرز في توزيع الجوائز المختلفة الأسماء هنا وهناك.
تحزنني معرفتي بأن معرض الكتاب البيروتي هو من أهم نشاطاتنا الثقافية في لبنان، وهو كذلك فعلا لا تبجحا، مثلما يفجعني منظر المنحوتات التي نشرتها وزارة الثقافة في الطرق للاحتفال ببيروت عاصمة عالمية للكتاب، كما تبعث بي القلق النشاطات الثقافية كلها من دون استثناء التي دعمت الوزارة اقامتها ماليا ومعنويا للاحتفال ببيروت عاصمة عالمية للكتاب (هل تستحق المدينة هذا اللقب؟).
أن يكون معرض الكتاب أهم نشاط ثقافي في حياتنا البيروتية لهو امر يدعو الى الحزن فعلا، خصوصا اننا لا نتوقف عن التغني بعاصمة الثقافة وحرية التعبير ومنارة الابداع والنشر، هذا قبل ان تمنحنا اليونيسكو لقب العاصمة العالمية للكتاب. نحن نستخدم اللقب قبل ان نحصل عليه. فماذا في المعرض؟ مجموعة دور النشر نفسها التي شاركت في معرض السنة الماضية، تعرض الكتب نفسها التي عرضتها في السنة الماضية، ولو اضافت كتبا جديدة فلن يكون عددها لدى كل دار اكثر من عدد اصابع اليد، وستكون نسبة لامعناها ولا جدواها كبيرة، هذا مع تنحية الشعر جانبا على اعتبار ان الشعر عمل فني ابداعي لكل قارئ رأي خاص فيه. اظن انه لا جديد سيكتشف. كان من المفروض ان يتم تحويل المعرض الى مؤسسة ثقافية تشرف عليها لجنة وطنية واسعة من المثقفين والمتابعين والمهتمين مخلوطة بعدد كبير من الشباب الذين يعرفون التطورات الثقافية في عالم ما بعد ثورة الاتصالات. لكن هذا الامر لم يحدث حتى الآن.
حسنا، لكن رغم ذلك علينا أن نعترف ان هذا المعرض هو متنفسنا الثقافي شبه الوحيد في المدينة، وعلينا استغلاله. من جهتي سأستغله بتوقيع كتابي الجديد فيه، وفي مجالسة عدد كبير من الاصدقاء الذين لم أرهم منذ زمن بعيد في كافيترياه.
جاكلين سلام: محرومة من الزهو بكتابي
الشاعرة والمترجمة السورية جاكلين سلام، ومنذ هجرتها الى كندا وإقامتها، فيها، لم تزر معرضاً للكتاب العربي، ونادراً ما حضرت في كندا معارض كتب بالتنسيق المتعارف عليه عربياً، لكنها دائما تعثر على كتب تثير شهية القراءة لديها وتدفعها لعرضها في الصحافة العربية، وأحيانا تقوم بترجمة مقتطفات منها تتقاسمها مع القراء الباحثين عمّا ليس في متنازل ايديهم سواء في المكتبات او المعارض الدورية العربية. تقول سلام: «بعدي عن كل الأنشطة العامة عربياً ولبنانياً لم يفقدني الصلة بالكتاب العربي واعلامه. ما زلت اثابر على زيارة اكبر مكتبة جامعية في تورنتو للبحوث والدراسات الشرقية. وهناك اقضي ساعات للبحث عما ارغب في قراءته. هذه المكتبة غنية وشاملة كل أنواع الكتب التراثية والحديثة، النقدية والإبداعية ومن كل انحاء العالم العربي. اما من جهة الكتاب الانكليزي، فقد سعيت خلال هذه السنوات لان اتعرف على الكتاب الكندي على وجه التحديد والأميركي بوجه عام. أحضر قراءات وحفلات توقيع ومهرجانات دورية تقام في تورنتو. كتابتي عن هذه المناسبات صارت طريقتي المثلى في اقامة «معرض» متواضع لما يثير اهتمامي كصحافية.
اذا عدت بالذاكرة الى الوراء ـ تضيف سلام ـ اجد ان المعارض التي زرتها في البلاد كانت معدودة. أول كتاب اشتريته حين كنت طالبة في المدرسة الإعدادية، كان بعنوان «بيانات السريالية» من معرض اقيم في مكتبة المركز الثقافي المالكية ـ سوريا. في المرحلة الجامعية كنت ازور المعارض التي تقام في المكتبة المركزية لجامعة حلب. ولكن كانت وما تزال الاستعارة من الأصدقاء والمكتبات العامة معيني في الحصول على الكتاب. المكتبات العامة تشدني في اذني للدخول إليها كلما استطعت. اجمل المعارض التي أداوم اليوم على زيارتها هي معارض ومستودعات الكتب المستعملة. ما اجمل رائحتها وفوضاها ومفاجآتها. وبالتأكيد لو كنت قريبة من بيروت هذه الايام لوجدتني هناك ابحث عن زوادتي وربما اشعر بالزهو والطاووسية ان وجدت أيا من مجموعاتي الشعرية التي طبعت في بيروت على طاولة عرض ما. لانني «محرومة» بحكم المسافة من الوصول الى كتابي حين صدوره، وانتظر ما يجود به الناشر علينا بعد ذلك.
أحمد بن ميمون: حدائق سرابية
الكاتب المغربي أحمد بن ميمون يرى في معارض الكتب مناسبات يتزاحم على أبوابها الناشرون ودورهم، اكثر مما يتزاحم القراء عليها للتعرف على جديد الكتب، لذلك فإن ما نسمع من شكاوى الناشرين، يفوق ما نسمعه من احتجاج القراء من ارتفاع الأثمان ومضايقات الرقابة، التي تتدخل لحجب عناوين معينة، يقع اغتنام المعرض للبحث عنها، فلعل عين الرقيب تغفل اعتباراً للمناسبة.
يرى بن ميمون ان المسألتين الحيويتين اللتين تطرحها هذه المعارض هما: غياب القراءة كتقليد اجتماعي، وحرية النشر. فكرة المعارض لا تنطلق من خدمة الكتاب بل من خدمة دور النشر التي ترفع زوراً شعارات تعميم القراءة والانفتاح والتحرر والتنوير وتلاقح الحضارات، بينما الهدف الحقيقي لها تحقيق اكبر نسبة من الارباح ليكون القارئ هو الضحية حين لا يقوى على إغراء شراء كتبه المفضلة رغم غلاء اسعارها، او هو يكتفي بالتجول بين أروقة المعرض بغنيمة الفرجة، معزياً نفسه بحضور بعض الانشطة التي تقام اثناء المعرض، والتعرف الى شخصيات بعض الكتّاب ممن يكونون ضيوفاً عليه. وهكذا فقد يعود كثيرون من معرض الكتاب «بخفي حنين»، ومهما حاولنا الكلام عن بعض ايجابيات معارض الكتاب، واقترحنا فتح هذه المعارض امام أفواج التلاميذ لتحقيق عدة أهداف تربوية وتعليمية، فإن معارض الكتاب تظل حدائق سرابية. لا يمكن تصوّر ـ يضيف بن ميمون ـ نهضة حقيقية للكتاب بدون نهضة ثقافية عامة، اساسها تعليم قويّ، ينتج قارئاً يستطيع متابعة الانتاج الجديد، ثقافياً واقتصادياً، ودون ذلك ستبقى معارض الكتاب أياماً خاصة لعرض مشاكل الناشرين، الذين لا يهمهم كتجار إلا عرض سلعهم، بينما الكتاب اشرف وأعلى من الاستهانة به.
عاطف عبد العزيز: الكتاب الممنوع
الشاعر والكاتب المصري عاطف عبد العزيز، لم يعرف من معارض الكتب في حياته سوى معرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي كانت اقيمت دورته الاولى قبيل نهاية الستينيات من القرن الماضي في أرض المعارض بالجزيرة (مقر دار الأوبرا الحالي بالقاهرة) وذلك قبل ان تنتقل المعارض الى مكانها الحالي في مدينة نصر أوائل الثمانينيات. المكان القديم ـ يقول عبد العزيز ـ لعب دوراً اساسيا في رسم صورة فاتنة في ذاكرتي لهذه المناسبة التي تخطت ـ بحكم حداثة سني وقتها ـ مدلولها الثقافي الى مغاز عاطفية ووجدانية خالصة، تتعلق بأجواء النشاط الوطني الطلابي بالجامعة واجواء الصدام مع السلطة الذي كان بلغ ذروته في النصف الثاني من السبعينيات.
معرض القاهرة للكتاب يعني ايضا لجيلي فرصة العثور على المراجع الاجنبية النادرة، وكذا فرصة العثور على الكتاب الممنوع بدون قرار صريح، ولم نعرف حتى وقتنا هذا كيف كانت دور النشر اللبنانية تستطيع ادخال وتمرير عناوين كتب واسماء كتّاب محظورين طوال الوقت، بحسبانهم خصوما للنظام، بل لا يمكننا نسيان ما أسدته هذه الدور من خدمات جليلة للثقافة في مصر بما قدمته من اسماء مبدعين جدد في العالم العربي، لم نكن قد سمعنا بهم من قبل، لتربط بين المبدعين في مصر والعرب في حقبة مضطربة سادت فيها اجواء القطيعة والحصار السياسي لمصر على خلفية زيارة السادات للقدس، هكذا لعب المعرض في هذا الوقت دور الرئة التي تنفست بها مصر بعض الهواء البيروتي الحر.
بعد ذلك ـ يضيف عبد العزيز ـ حدث تضخم هائل ومريب للفعاليات المرتبطة بمعرض الكتاب، إذ لم يقف الامر عند حدود عرض الكتاب وتسويقه بل امتد الى اقامة الأمسيات الشعرية والندوات والعروض الفنية في محاولة من المؤسسة الثقافية في مصر لاحتواء كل الانشطة الثقافية، وكل اشغال التعبير، ولاحتلال الهامش الثقافي الذي كان مشغولاً من قبل بالتيارات الطليعية المنفلتة، بغرض تفريغها من محتواها او التحكم في ضبط الجرعة على اقل تقدير، وبمرور الوقت تحول معرض الكتاب الى معرض تجاري محض، يضم كل اشكال السلع بما في ذلك الاجهزة المنزلية والمقتنيات الديكورية احيانا، وصار يعج بمطاعم الوجبات السريعة. باختصار ـ ينهي عبد العزيز ـ يعكس معرض الكتاب في مصر الآن ـ بوضوح تام ـ حالة الانحطاط والتشيؤ التي نعيشها، وتعيشها ثقافتنا المعاصرة.
السفير