البحث عن الفكرة الكبيرة
أزراج عمر
سأبدأ هذه السطور بطرح هذا السؤال: ما هو المقصود من النقد بصفة عامة، والنقد الذاتي بصفة خاصة؟ فالمتداول هو أن النقد ليس إلا اصطيادا للأخطاء وللممارسات السلبية من أجل إبرازها قصد إصلاحها أو استبدالها بالتصورات النظرية والتطبيقات الصحيحة البديلة. لا شك بأن هذا الفهم الشعبي لمفهوم النقد فيه جانب من الصحة، ولكن ينبغي توسيع المجال وتعميق التفكير فيه. فالنقد تقويم وتقييم وتحليل وتركيب. وفي الوقت ذاته، فإن النقد يتطلب التخصص والمعرفة وعمق التجربة، وبدون ذلك، فإنه يبقى مجرد ملامسة للظاهرة المفقودة. أما النقد الذاتي فله خصائصه التي تميزه، وغالبا ما يكون نابعا من الداخل وليس من الخارج. وبمعنى آخر، فإن النقد الذاتي هو تلك المراجع المخلصة والنزيهة لجوانب القصور والتقصير عند مؤسس أو مطبق النظرية أو المشروع. هذا على المستوى الفردي، أو على مستوى الفريق، وحتى على مستوى الدولة. فعندما يقول مصطفى الأشرف، مثلا، بأننا بقينا ندور حول طور الأمة، ولم ننتقل إلى طور المجتمع، فهذا يعني بأن النظرية السياسية ببلدنا قد مورست بشكل خاطئ، لأن الطبيعي هو البدء ببناء المجتمع أولا لتكون الأمة نتيجة له. وفي إطار النقد والنقد الذاتي معا قرأت مؤخرا نص محاضرة للمفكر السيد ياسين تضمنها كتاب ”خطابات عربية وغربية في حوار الحضارات”، مذيلة بملاحظات المتدخلين والمناقشين وجاء فيها بأننا هكذا بصيغة الجمع والتعميم فشلنا في التنمية الإقتصادية وفشلنا في إقامة الحداثة السياسية، كما فشلنا ثقافيا حيث ”لا يوجد لدينا إجماع ثقافي على طبيعة الدولة وطبيعة المجتمع”.
ففي رأيه، فإن القول بأن الإسلام هو الحل، أو أن الماركسية هي الحل” وأن الليبرالية هي الحل لا معنى له إطلاقا من دون ”تقديم برنامج مفصل” ومن دون ”إتاحة الفرصة لمناقشة الهويات بشكل واضح”. ويلاحـظ السيد ياسين بأن ”النقد الذاتي ليس قضية عربية” و”لكنها قضية غربية، لأن أحد عناصر التقدم الغربي هو ممارسة النقد الذاتي”. ولكن المشكلة لا تحل أيضا بمجرد فتح الباب واسعا ودائما للنقد كشكل من أشكال التفريغ لليأس والإحباط. ولكي يصبح النقد عاملا من عوامل النضج الاجتماعي والسياسي والثقافي، فإنه ينبغي أن تكون ”له أثاره الملموسة في الواقع الحي”. ومن هنا، فإن هذا النوع البناء من النقد لا ينحصر في كتابة المقالات والكتب، ولكنه يتجاوز ذلك إلى مواقف تتحول إلى حركة قد تبدأ فردية ثم تتحول إلى ”حركات جماهيرية، معارضة متمدنة” ثم إلى برنامج متكامل يتجسد في مشروع واضح القسمات وأساليب التطبيق.
ففي الجزائر يلتزم المثقفون الجزائريون بما ادعوه ببعض الانتفاضات والفقاعات بعيدا عن القضايا الجوهرية، ودون توفر وازع الإيمان والصدق والنضال المتحضر والسلمي المستمر لدى هذا النمط من النقد الشكلي الموسمي والهش. إنه لم تطرح هذه الاسئلة التي يمكن حقا أن تقودنا الى تفعيل مشروع بناء دولة المجتمع وليس مجتمع الحكومة: هل يكمن الخطأ في مسار التنمية الوطنية المثبتة بشكل دائم في الازمة المركبة ثقافيا واقتصاديا وتربويا، وأخلاقيا وسياسيا، أم أنه يعود إلى الأشخاص أم يعود الى غياب ”الفكرة الكبيرة” بمختلف البنيات التي تتأسس عليها والتصورات التي تسترشد بها؟.
وما هي هذه الفكرة؟ وهل نرد التردد في الانتقال من طور رومانسية الأمة إلى واقعية طور بناء مجتمع العقل والفاعلية إلى الفراغ الثقافي وانعدام العقيدة والقضية، أم الى التطبيقات السياسية لسياسيين اخترعوا اختراعا وزجّ بهم في مسائل مصيرية وهم ليسوا أهلا لها؟ أم أن الأمر يعود إلى كل ذلك، بالإضافة الى المستوى الثقافي الوطني الذي تتجاذبه الأمية الحرفية والمهنية وشتى أشكال الخرافة والانبهار الزائف بالموضات المستوردة في شؤون تصريف السلوك اليومي، والنكوص اللاواعي غالبا إلى الموروث الرجعي المتخلف والتماهي معه، ثم الدفاع عنه ضد التحديث والحداثة؟
مما لا شك فيه أن ماهية النقد الذاتي تتمثل في تقديري في البحث عن أسس الحداثة الروحية والاجتماعية والمادية والثقافية والسلوكية والجمالية والسياسية التي تنطلق وتنهض على العقل الفاعل. ولكي تتأسس هذه الحداثة وهذا العقل الفعال، فإنه يستوجب خروج المثقفين من نرجسيتهم ومن عادة حل المشاكل في ”المقاهي والحانات” للشروع في تحمل المسؤولية التاريخية التي تبدأ من الفرد، أو في شكل تيار ثقافي فكري وتربوي، لتعم بعدئذ في النسيج العام الجماعي. وهنا ينبغي فتح النقاش وتوسيع دائرته حول ماهية ومكونات، وشروط الانتقال من طور الأمة إلى طور المجتمع، ومن الذهنية الثقافية والفكرية التي تتناقض مع ”العقل كمعيار للحكم على الأشياء” إلى طور بناء العقل النقدي النظري والتجريبي للبدء في تلمس الطريق نحو التحديث، وشروط الحداثة في إطار من الخصوصية المتفتحة التي تميز هذا النوع من المشروع. ولكي يستطيع المثقفون ممارسة الإقلاع، فلا بد أولا من طرح السؤال والبحث عن الجواب عنه هكذا: ما هي هذه ”الفكرة الكبيرة” التي بدونها يبقى النقاش دائرا في الهوامش؟
* “الخبر” الجزائرية