ما وراء منع المآذن
هوشنك بروكا
بعد مصادقة السويسريين في التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي، على الإستفتاء الشعبي القاضي ب”منع” بناء مآذن جديدة في سويسرا” بنسبة 57.5، انتشر الخبر في الصحافة الغربية والعربية كالنار في الهشيم.
الخبر أثار ردود أفعالٍ كثيرة، بين معارضٍ ومؤيدٍ. هذا الإستفتاء يعني عملياً، ضرورة تغيير المادة 72 من الدستور الفيدرالي السويسري، وذلك بإضافة فقرة ثالثة إليه، تقول بأن “بناء المآذن ممنوع”.
الجديد، على مستوى استقبال هذا الخبر إسلامياً، هو أن الشوارع المسلمة لم تتحول هذه المرة إلى “دول ثائرة مقاطعة”، ضد سويسرا وشعبها وحكومتها، كما حصل في مناسبات مشابهة أخرى كثيرة خلت.
في الوقت الذي اعتبرت فيه العديد من الصحف وقنوات الإعلام السويسرية “الخوف والجهل والخلط بين والجهل والخلط بين الأمور، هي التي دفعت السويسريين إلى الموافقة على حظر بناء المزيد من المآذن في بلادهم”، اعتبر الشعب السويسري(بأغلبية مريحة)، إلى جانب أحزاب اليمين الأوروبي المتشدد، وامبراطورياته الإعلامية، أن “الزحف الإسلامي صوب أوروبا المسيحية، هو الذي دفع بالإستفتاء إلى نتيجته الطبيعية: “نعم لأبراج الكنائس، ولا للمآذن”.
الحكومة السويسرية، احترمت بدورها قرار الأغلبية، واعتبرت نتيجته، بحسب أول بيان رسمي صادر عن الإستشارية الإتحادية، بأنها “تعبير عن بعض المخاوف لدى أفراد الشعب وقلقھم من تيارات أصولية إسلامية متطرفة ترفض تقاليد دولتنا وقد لا تحترم نظامنا القانونيّ”. ولهذا(والكلام لا يزال للمستشارية السويسرية) “يجب أخذ هذا القلق على محمل الجد”.
فالمسألة ليست مسألة “مزاج سويسري عابر”، لا يروق لراكبيه(أو مرتكبيه) مشاهدة منارات ومآذن تنطح سموات بلاد الألب، كما قد يُخال للبعض هنا أو هناك.
المسألة لا تكمن، كما يتصوره البعض، في كوجيتو صِدامي ساذج كهذا: “أنا أكرهك إذن أنا موجود”؛ أو “أنا أمنعك إذن أنا موجود”!
المسألة، برأيي، هي أبعد من ذلك بكثير. فكما أن ما وراء المآذن في “أوروبا المسلمة” ما وراءها، كذلك يمكن القول أن ما وراء “منع المآذن”، في “أوروبا المسيحية”، ما وراءه.
القضية بإختصار شديد جداً، تكمن بأسها وأساسها، في “شجري أعلى”(والعبارة هي للشاعر الفلسطيني موسى حوامدة، الذي خرج على عادة “إسلام” المتطرفين الإسلاميين، ما أدى إلى إهدار دمه في مارس 2000، إلى أن أصدرت المحكمة براءته في يونيو 2002)، و”إلهي أعلى”، و”نبيي أعلى”، و”ثقافتي أعلى”، و”مكاني أعلى”، و”هويتي أعلى”.
ف”منع” المئذنة، سويسرياً ههنا، لا يترجم “منعاً” للمكان(كمكانٍ عالٍ)، أو منعاً ل”هندسته”، بقدر ما أنه يعني منعاً كبيراً في معناه الأوسع، في كونه “منعاً” لثقافة “ماوراء المئذنة”، و”طريقة تفكير” ماورائها، وبالتالي منعاً ل”العقل المدبر” للمئذنة.
يعود تاريخ قيام أول مئذنة في سويسرا إلى سنة 1963. أما المئذنة الثانية التابعة للمؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف(التي تبنى فكرة إقامتها وبناءها الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز في عام 1972) فتم تدشينها سنة 1978، وذلك بمبادرة من الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز آل سعود بالتعاون مع رئيس الحكومة الكونفدارلية السويسرية آنذاك، حيث بلغت قيمة الأرض وتكاليف البناء والتجهيز والتأثيث حوالي 21 مليون فرنك سويسري تحملتها حكومة المملكة العربية السعودية وحدها بالكامل.
أما تاريخ الجدل الحاد حول “منع المآذن” في سويسرا فيعود إلى يناير 2005، وذلك عندما أطلقت جمعية إسلامية(تركية) مشروعاً تبنى القائمون عليه، “مئذنةً رمزية” بإرتفاع خمسة إلى ستة أمتار. ولكن المشروع قوبل بالرفض من سلطات الكانتون، لأن “المئذنة لا تزيد ولا تنقص شيئاً من طبيعة استخدام المكان كمصلّى لممارسة الشعائر والطقوس الدينية”، كما جاء في قرار لإحدى المحاكم الإدارية في سويسرا.
وبقراءة تاريخ المئذنة، كما ورد في أمهات الكتب والمصادر الإسلامية، سنرى بأنها استحدثت ك”رمز لاحق”، لتتحول عبر التاريخ إلى رمز لكل المساجد.
فالمسجد النبوي مثلاً(وهو ثاني أقدس دور عبادة بالنسبة للمسلمين بعد المسجد الحرام في مكة، حيث قال فيه نبي الإسلام: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام/ صحيح مسلم: رقم 1394) والذي يعود تاريخ تأسيسه إلى الأول من هجرة الرسول إلى المدينة المنورة في 12 ربيع الأول 622م، ظل أكثر من 88 عاماً بلا مئذنة، إلى أن جاء الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وأمر واليه في المدينة المنورة عمر بن عبد العزيز ببناء أربعة مآذن في أركان المسجد، وإضافة جماليات أخرى إليه لم تكن موجودة فيه من قبل.
والبعض يعيد تاريخ الظهور الأول ل”المئذنة” إلى سنة 705م، عهد الخليفة الأموي الوليد الأول. من هنا ارتبط “تاريخ المئذنة” بتاريخ الأمويين، الذين قاموا بنقل العاصمة السياسية للإسلام من مكة إلى دمشق.
تعتبر “مئذنة العروس”(تسمى أيضاً بمئذنة الكلاسة والمئذنة البيضاء) الكائنة في الجامع الأموي الكبير، أول المآذن وبكرها في تاريخ الإسلام قاطبةً.
المئذنة، كما يقول التاريخ الإسلامي نفسه، لم تضاف إلى المسجد، ك”إضافة جمالية” إلى المكان، كما يتصوره البعض، وإنما أضيف إلى “المقدس”، لأكثر من اعتبار وسبب.
البعض يرى أن استحداث المئذنة، جاء كرد على “المكان المسيحي العالي” في حينه، الذي كان يستخدم، كمكان ل”بلوغ المسيح”، والإهتداء بنوره. ومن هنا ارتبطت صورة الكنيسة بالكاتدرائية، بإعتبارها “مكاناً عالياً” يليق ب”علو المسيح”، والدعوة من خلال هذا “الفضاء العالي”، إلى “تعاليمه العالية”.
الجامع الأموي الكبير مثلاً، كان في أصله ك”مكان عالٍ”، معبداً رومانياً أنشئ في القرن الأول للميلاد، ثم تحول إلى كنيسة. بعد فتح دمشق ودخول خالد بن الوليد(عنوةً) وأبو عبيدة الجراح(صلحاً) إليها، صار نصفه جامع ونصفه الآخر كنيسة. سنة 705 م، وبأمرٍ من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، تم تحويل المكان كله(مع نصفه المسيحي) إلى مسجد كبير.
لو قرأنا في تاريخ دمشق، حيث فيها “زُرعت” أولى المنارات، سنرى بأنها كانت قبل فتحها إسلامياً، “مكاناً عالياً” عند المسيحيين، للتبشير بتعاليم المسيح.
فدمشق(تسمى في بعض المصادر بمهد المسيحية) التي سقطت بأيدي الإسكندر الأكبر سنة 333 ق.م.، وارتبط تاريخها لاحقاً بتاريخ الحضارتين الرومانية واليونانية، تحولت فيما بعد إلى مكان مسيحي مهم، ل”صناعة” القديسين والرسل، للتبشير بالديانة المسيحية.
بعد سقوط دمشق في أيدي الفاتحين المسلمين في القرن السابع الميلادي، كان لا بدّ من تغيير معالم المكان الدمشقي، ذات الطابع المسيحي الغالب، وتحويله إلى “مكان إسلامي”، يشير إلى هوية المنتصر. فرُفعت المئذنة، بعد الفتح الإسلامي، ك”رمز” للمكان المنتصر الجديد، على أنقاض “الكاتدرائية”، بإعتبارها “مكاناً مندحراً”. وهنا بالضبط يمكن فهم رمزية “المئذنة” في تاريخ الإسلام السياسي، الذي ربط بين “المئذنة” والنصر؛ أو المئذنة في كونها رمزاً ل”المكان القوي”؛ أو “المكان الفاتح” الجديد.
لهذا، تحولت دمشق، شيئاً فشيئاً، بعد “قيام المئذنة”، من “موطنٍ للمسيحية” إلى “موطنٍ للإسلام”.
المئذنة، إذن، رمز إسلامي ارتبط بدخول المكان أو إدخاله في الدين الإسلامي. فهي، أبعد من أن تكون مجرد “علو جميل”، أو “جمالية مكانية”. هي تدّل إذن، إلى إقامة الإسلام الفاتح، القوية في المكان المفتوح. لذا ينظر إليها استاذ التاريخ في جامعة بوسطن، والمختص في تاريخ المآذن، جواناثان بلوم إلى المآذن، على أنها “رموز صامتة”.
فبالرغم من الرمزية الكثيرة التي يمكن أن تكونها المئذنة، كالإشارة إلى “السماء العالية، قدس المكان”، وإلى “أصبع الشهادة، كرمز للواحد الأحد”، وإلى “العلو، حيث ملكوت الله”، وإلى “المكان العالي للنداء إلى الصلاة”، وإلى “المكان العالي للعبور إلى صلاة عالية”، ولكن التاريخ يشير أيضاً، أنها كانت في بدايات ظهورها واستحداثها، تعني الإشارة إلى “المكان المنتصر”، و”المكان الفاتح البديل”، و”المكان القوي”، و”المكان الأعلى” من كل ما سبقه من مكانات عالية.
فالمئذنة عبر التاريخ، كانت تُرفع في كل مكان يدخله الفاتحون المسلمون، كإشارة إلى “قيام” الإسلام و”انتصار” تعاليمه في جغرافيات الأديان والثقافات الأخرى المفتوحة.
من تابع حرب الملصقات التي تزامنت مع “المبادرة الشعبية لمنع المآذن”، سيكتشف أن “تاريخاً طويلاً من الصدام المتطرف” بين “الجامع والكنيسة” أو “المئذنة والكاتدرائية”، يقف خلف الراهن من صدام السويسريين، سكان البلاد الأصليين، مع المسلمين الوافدين.
فالملصقات التي شبهت المآذن بصواريخ منتشرة على كافة أرجاء العلم السويسري، لم تكن مجرد “ملصقات دعائية” لحصاد أصوات الشارع السويسري، بقدر ما أنها(على تطرفها) عبّرت عن “راهن قلق” تعيشه سويسرا في أوروبا(وأوروبا في سويسرا)، بسبب فشل سياسات الإندماج في عموم أوروبا، وفشل المسلمين في أن يتحولوا إلى مواطنين أوروبيين “فاعلين”، حسبما تقتضيه “معايير المواطنة الأوروبية”(لغة، ثقافة، طريقة تفكير، فلسفة حياة).
إنطلاقاً من هذا الفشل في سياسات الإندماج الأوروبية، وخرافة العبور إلى “إسلام أوروبي”(كما كان يدعو إليه عرّابه الأول حفيد حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين سنة 1928، المواطن السويسري المصري الأصل د. طارق رمضان)، بدأ النقاش في الآونة الأخيرة يحتدم بين الأوروبيين، حول مستقبل الخصوصيات الأوروبية وهوياتها مع الهويات الوافدة أو “اللاجئة” إليها، لا سيما منها “الهوية الإسلامية”، التي يزداد ثقلها في أوروبا يوماً بعد يوم. ف”الرياح الإسلامية”، التي تعصف بين الحين والآخر عواصم الحرير، تجري بالطبع، بما لا تشتهيها سفن مراكز القرار الأوروبية.
وتأسيساً على هذا “الصدام”(الذي هو حقيقة أكثر من أن يكون وهماً) بين الهويات الأوروبية والهويات الوافدة، “يرى أصحاب المبادرة الشعبية لمنع المآذن، في ازدياد عدد المسلمين في البلاد تهديدا للهوية والخصوصيات الثقافية السويسرية”. أولرخ شلوير مثلاً، وهو عضو في حزب الشعب السويسري وواحد من المشعلين لنار الحملة الحالية، يرى “إن المآذن هي رمز سياسي وغير ديني، وأن المسلمين في سويسرا لديهم نوايا لتطبيق الشريعة عبر إنشاء مجتمعات مغلقة ومعزولة تسيطر عليها أعراف وتقاليد مختلفة عن القانون السويسري. وهنا يتحدث شلوير عن انتشار الزواج القسري وانتشار البرقع وختان البنات وغيرها من الممارسات”. ويضيف شلوير لبي بي سي”لا نريد أن تصبح سويسرا مثل ضواحي لندن حيث يعيش أكثر من خمسين ألف مسلم في مجتمعات مغلقة. الجميع مرحب بهم في سويسرا، شرط أن يندمجوا في المجتمع ويحترموا القانون والأعراف. نعم للحرية للدينية، لكن هناك قانون واحد.”(بي بي سي، 29.11.09).
“القلق” الأوروبي(بغض الطرف عن شرعيته أو لاشرعيته، قانونيته أو لاقانونيته) تجاه الهويات الوافدة، هو قلق موجود في أوساط النخبة والعامة على السواء. وهو قلق تحوّل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وملحقاته إلى “خوف حقيقي” من “الإسلام القادم” في الغرب القادم، وأوروبا القادمة منه على وجه أخص.
فالحديث في “الخوف من الإسلام” غربياً، لم يعد مجرد “خوف نظري محتمل”، أو ضرباً من “الترف التنظيري” في شئونه، وإنما بات “خوفاً حقيقياً قائماً”، يمكن له أن يداهم المكان الأوروبي في أية لحظة تركبها جماعات الإرهاب المتأسلمة، التي تتشدق ب”الإسلام النصوصي الماضوي”، مذهباً وطريقاً ل”جهادها”.
في سياق “خوف” الأوروبيين من “الزحف الإسلامي” المسلح بثقافة المئذنة(بإعتبارها ثقافةً للفتح) إلى ثقافاتهم المفتوحة، هناك من يعتبر “الخوف الأوروبي من الإسلام”، “خوفاً من الآخر”؛ أياً كان هذا الآخر. بمعنى أنّ أصحاب هذا الرأي يحللون هذا “الخوف من الإسلام”، بإعتباره خوفاً من كل الآخر. وذلك في إشارةٍ إلى اختزال الأوروبي الآخر المتعدد في الإسلام الواحد.
ولكن حقيقة راهن هذا الخوف، أوروبياً لا يدعم هذا الرأي، بل يدحضه. ففي سويسرا على سبيل المثال، لا يقف دعاة “حملة منع المآذن” الموقف ذاته من معابد الأديان الأخرى كالسيخ والهندوس والبوذيين أو المسيحييين الأرثودوكس. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن خوف السويسري أو الأوروبي من الإسلام، له ظروفه وعوامله وأسبابه الخاصة. أنه خوف حقيقي موجود، من “نوع آخر”، ومن “طبيعة أخرى”، كما يرى البعض. وهو الأمر الذي يثير في المقابل قلق الجاليات الإسلامية، فضلاً عن إثارته لقلق بعض المنظمات الإسلامية العالمية، كمنظمة المؤتمر الإسلامي، التي حذّرت مؤخراً من “تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في سويسرا”.
ائمة الأزهر في القاهرة(مدينة الألف مئذنة)، عبروا بدورهم عن استيائهم وغضبهم، بإعتدال، من قرار المنع هذا، واعتبروه “قراراً مخالفاً لأسس الديمقراطية السويسرية”.
الخوف الغربي من الإسلام، هو خوف من انتشاره أو “توسعه”، وبالتالي “زحفه” إلى ديمقراطياته ودوله التي تفصل بين الدين والدنيا، وبين ملك الله في السماء وملك الإنسان على الأرض؛ فهو بالتالي خوف ثقافة تمشي على الأرض من ثقافة تطير في السماء؛ ثقافة تؤمن بهندسة وضعية، حيث فيها الخطان المستقيمان المتوازيان لا يلتقيان مهما امتدا، من ثقافة تؤمن ب”هندسة سماوية”، لا يلتق فيها الخطان المستقيمان المتوازيان ذاتيهما، إلا بإذن الله!
“زحف” ثقافة المئذنة(كثقافة فاتحة تعبر عن المكان المنتصر) وامتدادها في جغرافيات الديمقراطيات الغربية، بإعتبارها “ثقافة منافسة” لثقافة أهل الدار، شغلت بال الكثيرين من أهل الشأن(معتدلين ومتشددين) في مراكز القرار الأوروبي.
وفقاً لبعض الإحصائيات المنشورة في بعض المواقع الرسمية، فإن عدد المساجد وأماكن الصلاة في بريطانيا وحدها يبلغ 1500، وفي فرنسا حوالي 1554 مسجداً، أما ألمانيا فتُقدّر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـحوالي 2500 مصلى(بينها 147 مسجداً)، وفي بلجيكا بحوالي 300 مسجد ومصلى، وفي هولندا بما يقارب ال 450 مسجداً ومصلى، وفي إيطاليا بنحو 735 مسجداً ومصلى، وفي سويسرا بحوالي 200 مسجداً(أربعة منها تعلوها مآذن)، أما في النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها 200 مسجداً ومصلى(منها 70 في العاصمة وحدها).
بحسب عالم الإجتماع الديني جان فرانسوا مايير، وهو أحد الخبراء المرموقين المتخصصين في رصد مستقبل الأديان، وصاحب كتاب الإنترنت والدين(2008)، فإنّ هناك أربعة أسباب أساسية دفعت السويسريين إلى التصويت وهي: أولاً، أن المآذن لا تنتمي إلى المحيط والثقافة السويسرية؛ ثانياً، إن الإسلام غير متسامح وهو يمنع بناء الكنائس؛ ثالثاً، التخوف من التأثير الواسع لإنتشار الإسلام؛ رابعاً، إن المسلمين عليهم أن يتكيّفوا ويندمجوا.
أياً تكن المواقف، سواء كانت مع أو ضد قرار المنع هذا، فإنّ الأكيد هو وجود نوع من أزمة “عدم الثقة بين “الأنا”(الأوروبي) و”الآخر”(المسلم على وجه أخص)، بدأت بعد أحداث سبتمبر 2001، تطفو على سطح المجتمعات الأوروبية. وهو الأمر الذي أدى بالنتيجة، إلى انتشار ظاهرة “الخوف والخوف المضاد” بين أهل الثقافات الأوروبية من جهة، وأهل الثقافة الإسلامية، كثقافة وافدة، من جهة أخرى.
فالمسألة، برأيي، ليست مسألة “حرية العبادة”، أو “حرية أن تعبد ما ومن تشاء كما تشاء”، بقدر ما أنها مسألة “دعني أكون حريتي التي هي أنا؛ حريتي التي هي ثقافتي؛ حريتي التي هي ديني”.
خوف الأوروبي من “ثقافة المئذنة”، كما يقول أهل النخبة وأهل الشارع على السواء، لا يكمن في خوفه من “عبادة المسلم لله”، وإنما يكمن في فزعه من “عقل المسلم”، الذي يرى كل العقل في عقله، وكل السماء في سمائه، وكل العلو في مئذنته.
الأوروبي، كما تقول ثقافته المفتوحة، لا يخاف من عبادة أحد لله، أو آخر للشيطان، أو ثالثٍ ل”اللاة أو العزة أو المناة”، أو رابع ل”لاشيء”، وإنما كل خوفه هو من ما يختفي من “عصبيات وعقليات وثقافات مغلقة معطلة”، وراء تلك العبادات، وما حواليها من آلهة ومقدسات.
ديمقراطيات الغرب وليبرالياته قامت على مقولات أساسية كهذه: “دعه يعمل..دعه يمر”، “دعه يفكر..دعه يعبّر..دعه يقول”، فهل “العقل الإسلامي”(الأوروإسلامي ضمناً) مؤهَل فعلاً بالإنخراط والإندماج في هكذا غربٍ، يقوده هكذا عقل؟
هل العقل الإسلامي يؤمن بشريعة “القانون الوضعي”، حيث تمشي عليه أوروبا الآن، بديلاً عن القانون السماوي، الذي من المفترض به، أن يكون قانوناً يحاسب به الله عباده، يوم الدين؟
هل العقل الإسلامي، يقبل ب”المسجد”، كمؤسسة دينية لا علاقة لها بالدولة وإدارة شئونها، كما هو حال الكنيسة في الغرب، حيث ما لله لله وما لقيصر لقيصر؟
هل “المسلمون الأوروبيون”(بمن فيهم عقلاءهم)، يسعون بعقلهم بالفعل إلى “إسلام أوروبي”، مندمج مع ثقاقات الغرب المفتوحة، أم أنهم يسعون ب”عقلهم المتدين” إلى “أسلمة الغرب”، للعبور إلى “أوروبا مسلمة”؟
المشكلة؛ أو لنقل مشكلة سويسرا بخاصة والغرب بعامة مع المسلمين الوافدين، ليست بالطبع في قيام المآذن، وإنما المشكلة هي في “قيامة” ما يمكن أن يختفي وراءها من عقل معطل، يعطل الذات والآخر معاً؛ عقلٌ لا يفعل بقدر ما أنه ينفعل.
ايلاف