جوناثــان ليتــل: الشيشــان ســرطان روســيا
اسكندر حبش
صاحـب روايـة «العطوفـات» يعـود بتحقيـق ميدانـي
بعد روايته الأولى «العطوفات» التي فازت بجائزة غونكور لعام 2006، يصدر الكاتب الأميركي ـ الفرنسي جوناثان ليتل، كتابا جديدا، لكنه ليس رواية، بل تحقيق ميداني أجراه في الشيشان، ذلك البلد الذي يزوره دائما، ضمن أطر «المهمات الإنسانية».
جميع الصحف التي تناولت الكتاب، أجمعت على أن ليتل يرسم في كتابه لوحة مقلقة عن ذلك البلد الغارق في حرب، من غير المعروف، متى تنتهي، ليحلّ مكانها السلام.
الكتاب صدر بعنوان «الشيشان، السنة الثالثة» عن غاليمار، ضمن سلسلة «فوليو وثائق»، وقد التقته صحيفة لوفيغارو، في حديث حول كتابه، كما حول الوضع هناك، نشر بتاريخ 28 تشرين الثاني الماضي، بعنوان «جوناثان ليتل: لقد ماتت الإيديولوجيا الشيشانية الانفصالية»… هنا ترجمة لأبرز ما جاء في حديث ليتل للصحيفة الفرنسية.
كيف هي الحياة في الشيشان في زمن فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف؟
تبدو الشيشان إلى حد كبير جمهورية غير واقعية، إذ ثمة فرق هائل ما بين المظاهر والواقع. العاصمة غروزني، على سبيل المثال، أعيد إعمارها بالكامل منذ الحرب الثانية. كلّ شيء يوحي بأنه طبيعي. ففي قلب المدينة، نجد حاليا مطاعم «السوشي»، المحلات التجارية الكبيرة التي تبيع الأقراص المدمجة، محلات الأجهزة الالكترونية. لكن في الوقت عينه، هناك أناس يختفون، حتى في وضح النهار. عمليات القمع كانت قد هدأت في عام 2007. حين تبوأ سدة الرئاسة هذه السنة، بمباركة الكرملين، (كي يحل مكان والده أحمد، الذي قتل في انفجار عام 2004)، قام الرئيس رمضان قادروف بتهدئة اللعبة كي يرسخ شرعيته. من هنا خفت عمليات الاختفاء كما عمليات التعذيب. لكن في العام 2008، عاد الوضع للتقهقر، لغاية أن أصبحت أسفل الدرك العام 2009. أصبحت عمليات الاختطاف (اختطاف المدنيين المشتبه في أنهم على علاقة بالمتمردين) أكثر شيوعا. البعض منهم لا يعودون أبدا، والبعض الآخر يعودون بعد أن يكونوا قد تعرضوا للتعذيب.
من يقف خلف عمليات الخطف هذه؟
في مرحلة سابقة، أي خلال الحرب الثانية، كان أشخاص مقنّعون يقومون بذلك، اليوم نجد رجال الشرطة، الذين يرتدون بزاتهم الرسمية، يأتون للبحث عن الشيشان في منازلهم. إنهم ينتمون إلى أمن قادروف الخاص، وهم قانونيا، مرتبطون بوزارة الداخلية الروسية. عمليات القمع، يقوم بها اليوم الشيشان أنفسهم وليس الروس، مثلما كان يحدث قبلا. لقد استأثر رمضان قادروف بعمليات الضغط والعنف في بلده. كلّ شيء يمرّ عبر رجاله. إنها حصيلة «شيشنة» (من شيشان) الأزمة (حل تخيله بوتين العام 2002 كي يجد حلا لمسألة الانفصال وذلك عبر وضعه، في غروزني، سلطة شيشانية قوية، لتحل مكان القوات الروسية قوات شيشانية متحالفة معها). لقد فوض الروس الشيشان إلى رمضان قادروف. لكن ينتهي الأمر بالضحايا بأن يدخلوا إلى قلب المحاكم الروسية. تمّ إرسال العديد من السجناء الشيشان إلى سيبيريا. وفي السجون، يتم تعريضهم عمدا للفيروسيات، أي يتم تعريضهم للاحتكاك مع مرضى السلّ، لذلك، نجد أن نسبة قليلة منهم تعود إلى ديارها. العديد من قادة التمرد التاريخيين ماتوا في السجن بسبب المرض، رسميا. اعترض قادروف على ذلك، إلا أن الأمر لا يزال مستمرا. بالتأكيد، يرتكب المتمردون الإسلاميون جرائم بدورهم، إلا أنهم هم المستهدفون، بشكل عام.
مكتب الذاكرة
ما عليه وضع المنظمات غير الحكومية وممثلي حقوق الإنسان في الشيشان؟
كان «مكتب الذاكرة» (الجمعية الروسية الرئيسية للدفاع عن حقوق الإنسان) في غروزني يشكل أمرا أساسيا بالنسبة إلى عائلات الضحايا، إذ كان يمدهم بالمعلومات، كما يساعدهم على إيجاد ملاذ ما. إلا أن ناتاليا إيستيمروفا (مناضلة روسية في مكتب الذاكرة) تعرضت للاغتيال في إينغوشيا في شهر حزيران من عام 2009. كانت تجري تحقيقات حول حالات معينة. وكرد فعل على الاستنكار الدولي لهذه الجريمة، الذي لم يتوقعها، ضاعف قادروف عملية الضغط على الجمعيات. رفعت قضية تشنيع بحق مدير مكتب الذاكرة أوليغ أورلوف. أمر ـ قادروف ـ بعملية تنظيف كبرى. أبعد عن غروزني كل ممثلي جمعيات حقوق الإنسان، كما آخر الناشطين في مكتب الذاكرة. قرر قادروف تصفية المقاومة والتخلص من المنظمات غير الحكومية. وذلك بدعم من موسكو.
ما هو تفسيرك لتفاقم عمليات الردع الفجائي عام 2009؟
كان رمضان قادروف يعتقد أن سياسة العصا والجزرة التي ينتهجها، ستسمح له بتسوية نهائية لمسألة المقاومة. إلا أنها، المقاومة، لا تزال موجودة. لقد فشلت طريقته، التي ـ مع ذلك ـ كانت أكثر مكرا من سابقيه، وكانت ترتكز على القوة فقط. وهذا ما أحاله غاضبا. إنه شخص لا يحتمل أن يجد من يقاومه.
بدقة، أين هي اليوم المقاومة الشيشانية التي يحاول الروس أن يتخلصوا منها منذ العام 1994؟
منذ إيقاف الـ KTO (تسمية روسية للدلالة على عملية مكافحة الارهاب التي أطلقتها موسكو العام 1999) في شهر آذار 2009، عاد المتردون الإسلاميين للنشاط نسبيا. عدنا لنشهد مؤخرا انتشارا كبيرا للعمليات الانتحارية. وهذا دليل على ضعف المقاومة، التي لم تعد تملك القدرة على القيام بعمليات واسعة. يؤكد البعض أن المقاومة لا تزال تملك بعض الوحدات القومية المقاتلة. إلا أنها ليست وحدات كبيرة ولا عديدة. المقاومة اليوم، هي مقاومة إسلامية، بشكل خاص. وما ذلك إلا نتيجة للسياسة التي ينتهجها الكرملين، الذي خص طاقته كلها بالرهان على الأقوياء وبإضعاف المعتدلين. من السهل دائما تبرير القمع حين نجد أمامنا هؤلاء «المقززين الملتحين».
موت الأفكار الانفصالية
هل ما زالت الأفكار الانفصالية، التي حملها القوميون الشيشان خلال الحرب، أفكارا موجودة؟
كلا، لقد ماتت الأفكار الانفصالية. لأن من كان يحملها إما قد ماتوا وإما أنهم في المنفى، أي غير قادرين على حمل المشروع السياسي. كذلك نجد أن العديد من المقاتلين الانفصاليين قد تم استيعابهم من قبل السلطة الشيشانية القريبة من الروس: لقد شهد جناح هذه الفكرة الشيشانية نجاحا ما. يقول البعض انه في سنوات قادمة، ربما، ثمة وضع جديد سيسمح للفكرة الانفصالية بأن تعود لتحيا… وبانتظار ذلك، يزعم من هم على رأس السلطة أنهم مستقلون عن موسكو وأنهم يتصرفون مثلما يرغبون هم. إلا أن رمضان قادروف لا يسيطر على الموارد النفطية. ما من استثمار قام به في مجالي الغاز والطاقة. وبعيدا عن إعادة عملية الإعمار، لا نجد أي اقتصاد شيشاني. ما من وظائف أيضا، فقط يمكننا العمل من أجل الحكومة. لا يملك رمضان قادروف الحق بأن يبني اقتصادا مستقلا بناء.
هل سيطرت الفكرة الإسلامية على الشيشان؟
ثمة فضاءات حرة لا تزال موجودة بعد، إلا أنها تقل شيئا فشيئا. لقد أعطت موسكو لقادروف الضوء الأخضر من أجل أسلمة الشيشان. تزعم السلطة الشيشانية أنها تشجع على قيام إسلام «تقليدي»، صوفي، كي تواجه السلفية التي يبشر بها المقاتلون الإسلاميون. إلا أن خطاب قادروف التقليدي لا يملك سوى الاسم فقط، إذ في الواقع، نجد أن الشريعة، أو بالأحرى، «الشريعة الجديدة»، هي التي يقع في قلب المشروع الديني. في النهاية، ثمة إسلام مختلف عن الإسلام التقليدي للشيشانيين، قد فرض نفسه بشكل تدريجي.
هل ينتشر ذلك في المجتمع؟
كلا، لأن الخطاب الاسلامي خطاب مصطنع، لأن ليس له مضمون واقعي. في الواقع، إنهن النساء، بخاصة، اللواتي وقعن ضحايا هذه «العودة إلى التقليد». أما بالنسبة إلى الرجال، فقد أصبحوا مضطرين إلى احترام شهر «رمضان». كما أن ارتداء الحجاب أصبح اليوم مفروضا في المباني الحكومية كما في الجامعة. يبشر رمضان قادروف كما محيطه، بتعدد الزوجات. ويشعر المرء بأن الرجال ينتقمون بذلك، إذ خـلال الحـرب، كانت النساء من دافع عن البلاد، لقد ربحـن اسـتقلاليتهن وأهميتهن.
بعد سنين من العذاب، ما هي حالة المجتمع اليوم؟
إنه مدمر بشكل كامل، لقد فقد نقاط استدلاله، قيمه الحقيقية، قواعده ورموزه الاجتماعية الأكثر تجذرا. إن «الشيشانية»، هذه الثقافة الجماعية والفردانية ـ في الوقت عينه ـ التي جعلت من كل شخص جنرالا، لكن كل الجنرالات يعملون معا، قد دمرت. كان والد رمضان قادروف، لا يزال يجسد، على طريقته، بعض القيم الاجتماعية الشيشانية. كان مفتيا، وسلطته كانت معترفا بها. إلا أن ابنه على قدر كبير من الاختلاف. نجده يذل، في أمكنة عامة، أشخاصا أكبر منه، يعذب أصدقاء والده، من هنا نجده يقدم مثالا غريبا لشعبه. سبق للمجتمع الشيشاني أن تحول وتبدل عبر عمليات الترحيل (إلى كازاخستان في عهد ستالين، كما عهد الاتحاد السوفياتي. الهجوم الروسي ساهم بدوره في زيادة هذه الهوة في رباط الهوية).
إزاء ذلك، كيف يمكن لهذا النظام أن يستمر وأن لا يتم اغتيال رمضان قادروف أو طرده من السلطة؟
جرت بعض المحاولات القليلة لاغتيال رمضان قادروف. المخلصون له فعلا ليسوا سوى بعض المئات. أما الآخرون، فلا خيار لديهم، حتى وإن كنا نجد أن العديد من الناس مع هذا «الوضع الطبيعي». لا يزال النظام بأسره واقفا بفضل «كريشا» بوتين (حرفيا «السقف» والمقصود به «الحماية» من قبل بوتين). حين يسقط ذلك يوما، سيكون لكل حادث حديث.
السرطان الشيشاني
هل لا تزال الشيشان تشكل سرطانا لروسيا؟
نعم، ودائما. إذ مثلما كتبت أنا بوليتكوفسكايا، نجد أن العنف الشيشاني يمتد إلى روسيا، وبخاصة عن طريق الشرطة الروسية التي تطبق الوسائل عينها التي تطبق في الشيشان. من هنا، نجد ازديادا في عمليات التعذيب في مراكز الشرطة الروسية. الخطر يكمن إذاً، في «شيشنة» روسيا. كما أنه علينا أن لا ننسى هذا الإحساس «الكيجيبي» (من كي. جي. بي) الذي لا يزال حاضرا بقوة في المجتمع الروسي. في أي حال، إن نجح الجميع في حل الأزمة في الشيشان، فإننا سنجدها تنتقل إلى الجمهوريات المجاورة. فإنغوشيا تعترض لعمليات التفجير. الخواء المطلق يسيطر على داغستان. ولا تعرف موسكو كيف تتصرف تجاه ذلك. يبحث الكرملين عن الحلول. يعتقد البعض إنه بإمكان روسيا أن تعيش مع أزمة صغيرة في القوقاز. لكن البعض الآخر يبدون قلقهم الأمني إزاء الألعاب الأولمبية المنوي اجراؤها في ستوشي العام 2014.
كيف تفسر هذا العناد الروسي؟
هو الخوف من الانفصال. إنهم لا ينجحون في تخطي هذا الهوس. لكن في الوقت عينه، يعترفون باستقلالية أبخازيا وأوستيا الجنوبية (جمهوريتين انفصلتا عن جورجيا)، أي أنهم فتحوا الباب مجددا أمام الانفصاليين وخاطروا بإطلاق المطالب الانفصالية عندهم. قانونيا، لقد أطلقوا النار بين أقدامهم.
لكن، في النهاية، من كسب الحرب؟ الروس أم الشيشان؟
الجواب على قدر كبير من الإبهام. يتعلق ذلك بالمعنى الذي نعطيه إلى معنى الانتصار. الطرفان يعتقدان أنهما كسبا الحرب. هذه هي نتيجة الاستراتيجية الروسية: جعل الشيشان يعتقدون أنهم ربحوها. إلا أن الروس بذلك وقعوا معاهدة مع الشيطان، لأنه إن كانت هزيمة المقاومة القومية العسكرية شاملة، إلا أن المقاومة الإسلامية تتطور في الجمهوريات المجاورة.
السفير الثقافي