حوار مع الباحث المناضل جبران الجابر
إبراهيم اليوسف
لعلّ الباحث المناضل جبران الجابر، عضو لجنة التنسيق في اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين ، أحد تلك الشخصيات الكارزمية التي لفتت انتباهي ضمن صفوف الحزب الشيوعي ، على امتداد سنين طويلة، عرفته خلالها، كي تتعمّق تلك العلاقة ، يوما ً بعد يوم إلى الآن ، ويكون لي شرف العمل معه عن قرب ، ومعرفة الكثير عنه …..!
لقد قرأت كل ما كتبه هذا المناضل الشيوعي الصّلب ، والمبدئي، حتى وإن كنت ، وما زلت ، أختلف معه في عدد من النقاط، وهو ما لا يفسد للود قضية ، معه ، أو مع سواه، إلا أن الرجل كان يلفت نظري بقوة أثناء اللقاءات الرّسمية العامة التي كانت تجمعنا ، وبخاصة في المؤتمرين الأخيرين للحزب الأمّ الذي كان يضمّنا : الحزب الشيوعي السوري-جناح الرفيق خالد بكداش، حين كان يطرح آراءه بعمق، وبثقة عالية بالنفس ، غير مكترث بالسهام التي ستنوشه ، ولا بانعكاس ذلك – سلباً-على الأصوات التي سيحصل عليها، مادامت ثنائية متلازمة : التصفيق والصمت خير جسرين عادةً ، للارتقاء لسدّة المسؤوليات الرفيعة في كل مكان ، وما أكثر الأمثلة في البال على هذا الأنموذج في كل مكان وزمان……!.
أكثر من أربعين سؤالاً دوّنته للرفيق أبي فراس ، خلال أحد اللقاءات الحميمة ،بيد أنه أجاب عما يتعلق منها بأربعة محاور هي :
1-لمحات في تاريخ الحزب وسوريا–
2-الحزب والجبهة الوطنية التقدمية
3-الحزب والموقف من القضية الكردية
4-السلطة السياسية والمثقف
تاركاً الأسئلة الأخرى ، كي يجيب عنها ، لاحقاً ، ربّما لتكون من عداد كتيّب قد يتمّ طباعته ، ذات يوم ، ضمن سلسلة طويلة من كتب تنتظر دورها في الطباعة ، وما أوسع دائرة الحلم عندي ، وما أضيق طاقاتي الآن …! ، ليكون مدخلاً مهماً إلى تجربة رجل كبير ، استنفد العمل الحزبي اليومي- برأيي – جلّ طاقاته ، ووقته طويلاً ، شأن كثيرين ، من المبدعين والمفكرين الذين يرجحون العمل الحزبي على العطاء الثقافي الفكري الإبداعي ، دون معرفة كيفية موازنة طرفي المعادلة في ما كان هناك إصرار على العمل الحزبي النضالي.
ولقد قمت بحذف أسئلتي ، جميعها ، كي أبقيه وجهاً لوجه مع قارئه ، وهو يبدي جملة آرائه ، ومواقفه ، بشفافية ، ووضوح ، دون أن أعلّق عليها ، ما دامت في المحصلة آراءه هو ، كي يأتي هذا الحوار ضمن سلسلة طويلة من حوارات مماثلة ، مع مناضلين قدامى ، كانوا يقولون كلمتهم ببسالة وشجاعة ، غير خائفين على ما سيدفعونه من ضريبة من جرائها ، اضطهاداً وملاحقة ، وسجناً ، وتعذيباً ، وهي عموما ً حوارات قمت بها ، أو أشرفت عليها ، وخاصة أثناء إدارتي لمجلة” مواسم ” التابعة للحزب الشيوعي السوري، معتمداً آنذاك على عدد من الوجوه الجديدة التي صار لبعضها الآن شأن ، لم يتمّ التمكّن من دفعها إلى دائرة الضوء ، لجملة ظروف فوق طاقتي ، بأسف……!
لمحات في تاريخ الحزب وسوريا:
ربّما كان من الصائب القول : إن المعترك السياسي والفكري في مرحلة من المراحل، يكثف بصورة بالغة تشابك تأثيرات التاريخي والآني، ويستشرف آفاق لوحة التناقضات ومآلها.
لقد كانت مرحلة ما بعد الاستقلال لوحة فسيفسائية من الناحية الاجتماعية والسياسية والفكرية ،وكان ذلك شأن اللوحة العالمية ،فمن جهة هناك إمبريالية أميركية علقت في قاطراتها الدول الإمبريالية الكبرى ومضت نحو «إملاء الفراغ» المزعوم،وسارت تدوس شعوباً كثيرة وتخضع دولاً عديدة نالت للتو استقلالها الوطني وفي نفس الوقت كانت أبواقها الدعائية تروج لكل فكرة من شأنها المساس بالاتحاد السوفييتي وإضعاف تأثيره ،فكانت أن تمركزت على ثنائية الإيمان والإلحاد وعلى الأسرة ،وهكذا كان الفكر الرأسمالي يدخل بكثافة مختلف مسائل الوعي الديني ، لتأكيده أن الرأسمالية هي طريق الخلاص ، وأنها طريق التطور والتنمية والرقي المدني والاجتماعي.
ولكن الواقع كانت له إيحاءاته المناقضة لذلك ،.فالإقطاع ورجاله الأساسيون الذين يتحركون بسرعة ،واستخدموا كل الطرق لتشديد قبضتهم وردع النضال المتزايد بفعل الوقائع الموضوعية اليومية التي يكابدها الفلاحون ،اصطدموا أكثر فأكثر بالنضال الوطني الذي تضمن تصفية الإقطاع ، وأخذ الحق الإقطاعي الإلهي يصطدم أكثر فأكثر بمقاومة اجتماعية ونضالات يومية ،والأهم أن ذلك النضال ارتقى وتطور فدخل ساحات الأرياف ، وتعززت بيارق الأحزاب الوطنية والتقدمية والشيوعية التي استندت بصورة صائبة إلى مغزى انتصار الاتحاد السوفيتي على الفاشية ،كما أنها استندت إلى الإنجازات التي حققتها الثورةالاشتراكية في الأرياف السوفياتية آنذاك.
لم يقتصر الأمر على ذلك ،فعلاقات الإنتاج الرأسمالي تتسارع وتائر انتشارها في العالم ،وأخذت تتبلور بصورة واضحة أكثر من أي وقت مضى شرائح اجتماعية بورجوازية كبيرة نسيباً لكنها متباينة من حيث دورها الاقتصادي والاجتماعي ،وكانت البورجوازية الصناعية ناهضة ولسياسييها صدارة اجتماعية ، وكان ذلك تحت تأثير دورها في المسألة الوطنية في الأربعينيات ، وتوجهات وطنية سلكها العديد من رموزها السياسيين في مطلع الخمسينات ،وكان ذلك الخطر المتنامي يتأنى من ارتباطات شريحة الكمبرادور التي تزايد دورها الاقتصادي وتوطد ارتباطها بالاحتكارات الكبرى.
وباختصار ، فإن المعركة بوقائعها وآفاقها كانت تدور حول مستقبل سوريا ودورها على الصعيد العربي وفي المنطقة ،وموقفها من الصراع الأساس بين المعسكر الرأسمالي والاشتراكية ، وقوتها الرئيسة الاتحاد السوفييتي.
ودون رؤية ذلك الجانب وتأثيراته السياسية والاجتماعية لا يمكن أن نتلمس مكامن “الصح والخطأ” في كثير من القضايا التي كانت محاور أساسية على الساحة السياسية والفكرية والاجتماعية ،دون ذلك لا يمكن فهم بروز تيارات تتبنى شعار الاشتراكية وهي تيارات قومية أودينية في أولوياتها وفي رؤيتها الفكرية لمسائل الصراع في تلك المرحلة،ولم يكن شعار الحياد الإيجابي مصادفة ، لكنه يعكس ثنائية متناقضة ،فهو تعبير عن البحث عن موقع يضع هذه الدولة أو تلك على مسافة متساوية من الولايات المتحدة زعيمة المعسكر الإمبريالي والاتحاد السوفييتي القوة الرئيس للاشتراكية آنذاك ،ولكنه من جهة أخرى شعار أخذت به قوى سياسية واجتماعية ترفع الاشتراكية من جهة ، وتطرح آفاق تنمية تتناقض مع مسارات توطيد الرأسمالية، وتمسك بالقضية القومية وحلها باعتباره مفتاح حل مختلف التناقضات وسبيل إنهاء التخلف بكافة مياد ينه
لقد أجاد التيار القومي بأحزابه بالإمساك بالقضية القومية، لكنه وضع ذلك على أساس أن الصراع القومي هو العامل الأول في حراك التاريخ وعلى أساس أن الوحدة هي الحل السحري لقضايا العرب والعروبة ، وجاء تأثير الفكر الطبقي على تلك القوى في كثير من الأحيان ،إما باعتباره عاملاً ثانوياً أو بطروحات وشعارات جعلت منه فزّاعة وظفته النظم الرجعية في إطار أنه عامل يهدّد مصالح تلك المجتمعات بما فيها الطبقات الشعبية ،أو أنه عامل يقوي سيطرة البورجوازية في هذه الدولة أو تلك على الدولة الأخرى ,وكان وشعار “بترول العرب للعرب” عاملاً مهماً لحشد أوسع الجماهير حول الأحزاب القومية،ولكن مفعوله كان سلبياً في الأوساط الاجتماعية في البلدان النفطية ،وفهم في تلك الأوساط على أنه رغبة في الاستيلاء على ثروات هذا البلد أو ذاك من قبل بلد عربي آخر،ولعله كان أحد الشعارات التي كان لها دور كبير في تأجيج الخلافات العربية ،وقد أدى إلى وضع الأمر على نحو يخالف مسألة ضرورة حشد الجماهير على المستوى القومي في إطار شعارات وطنية وقومية ،مثل الاستقلال والتبعية الاقتصادية والنهب الاقتصادي أو غير ذلك من الشعارات التي تسهم في عدم تصوير الأمر وكأنه صراع على ثروات هذه الدولة أو تلك ،لقد بينت التجربة التاريخية أن التيار القومي لم يوفق في وضع استراتيجية صحيحة لنظرية الوحدة العربية،وكثيراً ما كانت الأماني تحل محل الواقع الموضوعي المتكون ،ولم يحالفه التوفيق في التوصل إلى صيغ عملية صحيحة لبناء دولة الوحدة ، وقد أثبتت ذلك الوحدة السورية المصرية ،ناهيك عن إنه غابت أهمية التدرج في الوحدة العربية وتغلبت فعلياً النظريات المثالية عن الدولة وأهملت الدراسات الموضوعية كمستويات التطور الاجتماعي المتباينة كما أهمل دور العلاقات الأثنية ،يضاف إلى ذلك أنه ورغم تبني الاشتراكية إلا أن الفكر القومي أفرز قوى شوفينية ، ولم يقتصر ذلك على نفي وجود قومية أخرى في هذا البلد أو ذاك ،بل ظهر أن القوى الشوفينية تنتهي أيضاً إلى عداء التقدم الاجتماعي ،ولم تجد غضاضة في التعاون مع الدول الإمبريالية الكبرى لمواجهة القوى الوطنية التقدمية والأحزاب الشيوعية ،أضف إلى ذلك أن قادة قوميين عملوا على توظيف العلاقات الاجتماعية مثل العلاقات العشائرية والدينية لكنهم أصبحوا يسيرون خلفها.
لقد كانت سنوات الخمسينيات سنوات كثيراً ما جرى فيها تغليب التناقضات الثانوية على التناقض الرئيس ، وكثيراً ما كان ضيق الأفق يحاصر نشاط بعض الشيوعيين الذين تمركز جهدهم الدعائي هنا أو هناك على إثبات أن النظرات الاشتراكية من خارج تيار الاشتراكية العلمية إنما هي لخداع الجماهير الشعبية ، ولتشويه مفهوم الاشتراكية وهكذا فقد تغلبت النظرات الإيديولوجية بعيدة المرام على الضرورات السياسية الراهنة التي كانت تتطلب جبهة وطنية واسعة ،لا لتقوية النضال الوطني وتأمينه جماهيرياً فحسب ، بل لأنها الخط الاستراتيجي الذي يتيح المناخات الأفضل كي تجري الأمور والتفاعل والتعاون مع القوى الوطنية والديمقراطية والقومية على أساس عدم دفع التناقضات الثانوية إلى الواجهة .
لقد كان للحزب الشيوعي السوري دورا مهم في النضال الوطني ، وكان له باع طويل في نشر الفكر الاشتراكي العلمي ، وفي فضح مختلف التوجهات والمشاريع الإمبريالية وأسهم بفاعلية في صون الاستقلال وتوطيده ناهيك عن نضاله ضد الإقطاع والبورجوازية الكمبرادورية ،كما ناضل آنذاك وبثبات ضد الدكتاتوريات العسكرية ومن أجل ترسيخ الديمقراطية ،وإن كانت ديمقراطية بورجوازية ،وطرح ،وإن كان بصورة متأخرة نسبياً ودون أن يبلور ذلك بوثيقة محددة ضرورة قيام جبهة وطنية،وكان من المهم أن يكون ذلك الشعار شعاراً استراتيجياً منذ الاستقلال ،خاصة وأنه شعار يجد في كل مرحلة من المراحل صيغه المتطورة وصولاً إلى الديمقراطية الوطنية التي أصبحت ضرورة في ظروف سوريا الراهنة،وتعتبر الديمقراطية الوطنية مرحلة في التطور الاقتصادي والاجتماعي يؤمن المستوى الأول أو الدرجة الأولى في درجات سلم التقدم الاجتماعي.
لقد ناضل الحزب طبقياً فكانت مصالح العمال والفلاحين في مركز اهتمامه،وفي هذا الميدان وجد من يقول : إن الذي ساد هو نزعة يمينيه لم تعط للنضال الطبقي مداه وأبعاده،وحتى في أيامنا هذه،نجد من يقول : إن خالد بكداش لم يكن ثورياً وذلك لأنه لم يطرح الاشتراكية.
لقد أسهم الحزب في نشر الفكر الاشتراكي ،وكان له تأثيره المباشر أو غير المباشر في تبني شعار الاشتراكية من أحزاب قومية وحتى دينية،لكن الاهتمامات الآنية لم تسعف في تكوين كادرات نظرية تخصصية تدأب وتكرس جهدها على التعاطي المباشرة و العميق مع المسائل النظرية ،كما لعبت عوامل أخرى في هذا المجال ،خاصة وأن المرء يتلمس أن الشأن النظري هو من اهتمامات الرفاق السوفييت ،وكانت أحد مظاهر ذلك الاهتمام بالترجمة ،وكان من المهم مواكبة ذلك بجهد متواصل ومستمر في البحث الفكري والفلسفي في المسائل المطروحة على الساحة السورية خاصة والعربية والعالمية عامة.
أما مسألة طرح الاشتراكية باعتبارها مهمة مباشرة ، وآنية ، أو القول : إن الحزب لم يطرح شعارات طبقية جذرية ،فهو رأي غير دقيق وغير صائب،وأعتقد أن العودة إلى التقرير الذي حمل عنوان حزب «العمال والفلاحين» هو أحد الأدلة على عدم مصداقية وصحة تلك الآراء،وحتّى أن تلك الآراء تتجاهل موضوعة معروفة ولا تخص الحزب الشيوعي السوري ،تلكم الموضوعية هي أن هاجس مد الاشتراكية أفقياً كان الهاجس الأول حتى اليوم الأخير من حياة ستالين،وكان ذلك اتجاهاً استراتيجيا للحركة الشيوعية ،وكان ميدانه الأول البلدان النامية وذلك لاعتبارات تتعلق بوضع البلدان الرأسمالية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية .
إن القول : إن خالد بكداش لم يطرح الاشتراكية هو رأي يناقض استراتيجية الحركة الشيوعية التي استمرت حتى آخر يوم من حياة ستالين،ولكن الأمر عرف تغيرات مهمة وأساسية منذ أيام خروتشوف ، حيث استمرّ ذلك الاتجاه الاستراتيجي بصورة عامة ، لكن التغيرات الأساسية طالت الاشتراكية والقوى الاجتماعية وأيديولوجيا الأحزاب السياسية والقادة الوطنيين والقوميين ولم يعد الموقف من الحزب الشيوعي هو الأساس في تقييم هذه الحكم أو ذاك ،وأدّى ذلك إلى مضاعفات كثيرة ،فأصبح بإمكان هذا النظام أو ذاك أن يقيم علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفييتي ، وإن كان موقفه سلبياً من الحزب الشيوعي في بلده ،وكان لذلك تداعياته في الميدان الايديولوجي وعرف العالم مفاهيم مثل مفهوم دول التوجه الاشتراكي ومفهوم التطور اللارأسمالي،وأعيد إلى الواجهة وأقحم مصطلح الديمقراطيين الثوريين ،وينبغي أن نلحظ أن مقولة :إن توجهات يمينية فرضها خالد بكداش على الحزب أو القول : إن الحزب غيب الشعارات الطبقية الجذرية ، إنما هي أقوال تفتقر إلى معرفة عميقة بالأوضاع السورية،ولوجرت الأمور على ذلك النحو لعزل الحزب عن البورجوازية الصغيرة والمتوسطة ، كما أن تلك الشعارات لاتصلح فعلياً لوضع سوريا آنذاك فهي تجهض التوجه نحو الجبهة الوطنية كما أن تلك الشعارات الجذرية كان من شأنها الحيلولة دون وقوف البورجوازية الوطنية ، تلك المواقف الوطنية المعروفة وربما يصح القول أن ذلك قد يدفعها نحو قبول الأحلاف الأميركية أو يجعلها قوة تحتمي بالانقلابات العسكرية ويخرجها من معادلة النضال الوطني العام ومن معادلة النضال من أجل الديمقراطية.
تجدر الإشارة إلى أن مستويات في الحزب كان سلوكها العملي بعيداً عن تكتيك توثيق العلاقات مع القوى التي لم تطرح الاشتراكية العلمية ولكنها طرحت مفاهيم تدخل ضمن نظريات الاشتراكية القومية التي كان العديد من الأحزاب القومية يطرحها آنذاك،ونتيجة عوامل عديدة لم يستطع الحزب أن يتجنب المعارك مع مختلف القوى الإسلامية وأدى الوضع آنذاك إلى الحيلولة دون تكوين تيار ديني «متنور» وظل الأمر في نطاق علاقات محدودة مع هذا أو ذاك من رجال الدين.
لقد ناضل الحزب ودعم ودافع عن كل تدبير تقدمي ونبه إلى خطر حرق المراحل في الميدان الاقتصادي لكن ذلك كان في كثير من الأحيان غائباً عن الوعي الاجتماعي الاعتيادي وذلك تحت ضغط واقع العلاقات السياسية وغياب الديمقراطية ،واستمرارية الدعاية المعادية للحزب باسم الوحدة حيناً والدين أحياناً أخرى.
وتجدر الإشارة إلى أنه،ورغم دور الحزب في التدابير التقدمية،إلا أنه لم يستطع أن يلعب دوره في الممارسة العلمية التطبيقية, التي اتخذت في مجال الأرض ، والقطاع العام الصناعي ، وحتى في هذا المجال ، فلقد لعبت نظريات الحزب أو” الحزب القائد” دوراً سلبياً في الممارسة العملية ، سواء فيما يتعلق بالتدابير المعادية للإقطاع ، أو تلك التدابير التي أدت إلى التأميم وقيام قطاع صناعي ، مهم ومتنوع.
ينبغي القول, ونحن قد اجتزنا الاحتفال بالذكرى الثالثة والثمانين لتأسيس الحزب, ينبغي القول أن الحزب لحق به الأذى نتيجة التعاطي غير المتكامل مع القضية القومية،وخلاصة الأمر أن الذي ساد الحزب وقضية القومية العربي.
وتحت ضغط النضال الوطني والطبقي ,هو نظرة مجتزأة لقضية الوحدة العربية باعتبارها الشعار الذي يلخص وضع القومية العربية حيث دول عديدة لكنها في غالبية سكانها تنتمي إلى القومية العربية.
لقد تجلى هذا الخلل في أن الحزب اعتمد بصورة أساسية المعالجة السياسية لقضية الوحدة العربية وأخرجها من اهتماماته الفكرية والنظرية وتعامل معها كشعار سياسي يجري التعامل معه عندما تنضج الظروف والواقع ،في حين كان ينبغي التعاطي الإيديولوجي والفكري مع المسألة القومية بكل جوانبها ومكوناتها .
وتجدر الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية وهي أن ذلك الخلل كان موجوداً ومتكوناً قبل أن يكون خالد بكداش عضواً في الحزب الشيوعي ، كما تجدر الإشارة إلى أنه في مستويات معينة من الحزب ،لم يكن واضحاً أن فلسفة ماركس تشكل أساساً للتعاطي مع المسألة القومية في كل جوانبها ، ولعلّ بعضهم ظن أن التعاطي مع المسألة القومية هو شأن الأحزاب القومية ومفكريها.
لا يكفي القول : إن البنود “الثلاثة عشر” هي بنود صحيحة وضرورية ، وأثبتت الحياة صوابيتها ،ذلك أن المسألة الأساسية هي الاستيلاء على ذهنية الجماهير الشعبية ، وقد أدى غياب الاهتمام الفكري والأيديولوجي بالمسألة القومية والتعاطي معها من منظور التعامل مع الشعارات السياسية،أدى إلى تسهيل مهمة القوى التي كانت تثقف الناس بآراء خاطئة مدعية أن الشيوعيين ضد الوحدة العربية ، وأن الشيوعيين ينكرون القومية،وقد ساعد ذلك التعاطي مع المسألة القومية إلى صعوبات عملية ونظرية ، وسهلت السبل أمام دعاية كاذبة قائمة على تناقض الأممية مع القومية التحررية.
ولعلني لا أجانب الصواب إذا قلت : إن ذلك سهل كثيراً نفاذ دعايات في الوعي الجماهيري ، لتبرير تأجيج العداء للحزب الشيوعي السوري.
ومن الطبيعي القول : إن الفكر المادي الديالكتيكي ، ليس من السهل أن ينفذ إلى الوعي الجماهيري بسهولة نفاذ نماذج الفكر المثالي،وقد كان لذلك أثره وقد شدّد من تلك الصعوبات ، وذلك الأثر عدم الاهتمام النظري والإيديولوجي بالقضية القومية.
من المعروف أن مواقف الحزب من مشاريع قومية مثل: الهلال الخصيب، أو الوحدة بين سوريا والعراق أيام نوري السعيد ، كانت صحيحة ، ولكن اكتفاء الحزب بفضح تلك المشاريع الاستعمارية ،دون برنامج متكامل لمعالجة المسألة القومية من وجهة الفلسفة المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ،إن ذلك، كان نقصاً في التعاطي مع المسألة القومية العربية ، وأبعد عن الذهنية الجماهيرية المهارةالحزبية التي تفضح الدعاية الشوفينية بشأن موقف الحزب من القضية القومية في سوريا ، بخاصة ،والقومية العربية بعامة.
لقد كان دور الحزب الشيوعي مهماً في فضح الصهيونية ، وتحديد طبيعتها الرجعية العنصرية ، ودعم و تأييد بثبات نضال الفلسطيني ، وشارك في مرحلة معينة بأعمال المقاومة الوطنية الفلسطينية , وإذا فات الحزب أن يقود الكفاح المسلح ضد الاستعمار الكولونيالي الفرنسي لعوامل متعددة , فإن السؤال الذي يطرح الآن نفسه :
لماذا لم يجرب الحزب ،ومنذ قيام دولة إسرائيل أن يمسك بالخيوط الأولى لمقاومة الدولة الصهيونية ، وذلك بالاستناد إلى التعاون الوثيق مع الأحزاب الشيوعية في فلسطين والدول المحيطة بها؟ .
كما أن الحزب لم يبادر إلى رفع شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للجولان , فهل كان الأمر متعلقاً فقط بالعوامل الخارجية والدولية؟، أم أنه تعداه إلى رؤية خاصة بالحزب وتتعلق بطرائق وسبل النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي؟ ، إنها تساؤلات مشروعة .
الحزب والجبهة الوطنية التقدمية :
لقد أولى الحزب الشيوعي السوري اهتماما بموضوع الجبهة الوطنية وبرز ذلك جلياً منذ
أواسط الخمسينيات ، ولسنا في وارد التناول الواسع لذلك ، لكن المهم هو أن الحزب أثناء نضاله من أجل إقامة الجبهة الوطنية آنذاك ، سلك سبيل الندية خلال بحثه ونشاطه لتحقيق ذلك ،كما أن البعد الاستراتيجي للجبهة الوطنية كان يقترن بوضوح الرؤية بشأن التنوع السياسي فعلياً , كما كان شديد الوضوح في أن الأساس الاستراتيجي للجبهة لا يحول دون أن يصوغ كلّ حزب تكتيكة الخاص بشأن نشاطه ، كما أنه يمكن لأي حزب أن يتخذ موقفاً خاصاً من هذه القضية أو تلك ، ثم أن الظروف التي طرحت فيها مهمة إقامة الجبهة الوطنية تختلف عن ظروف قامت فيها الجبهة الوطنية التقدمية التي يتعلق بها سؤالكم
لقد جاء قيام الجبهة الوطنية التقدمية باعتباره ضرورة موضوعية ، لكن التعاطي مع هذه الضرورة الموضوعية لم يرق إلى المستويات الضرورية للنضال الوطني ضد الإمبريالية والصهيونية ، كما لم يرق إلى المستويات الضرورية لتأمين التطور التقدمي الاجتماعي ، وجعله خطاً ثابتاً لارجعة عنه ، ولايمكن ـن يعزى كل ذلك إلى موضوعة الحزب القائد ، وقد لعبت عوامل عديدة في قيام الجبهة على أساس ميثاقها المعروف ، و لا يمكن إنكار عوامل عامة وموضوعية ، ولكن ذلك لاينفي العوامل الذاتية سواء تعلق الأمر بحزب البعث العربي الاشتراكي الذي استولى فصيل منه على السلطة من خلال قيام الحركة التصحيحية ،أو لا ، والمهم أن سلسلة العمليات العسكرية التي وصلت إلى الحركة التصحيحية ، كانت تترافق بترسيخ مفاهيم سياسية محددة ، وذلك مثل الحزب القائد، والديمقراطية الشعبية، تلك الموضوعات التي استندت في عدد من مبرراتها إلى تجارب البلدان الاشتراكية ، آنذاك،وتجاوزت الخصائص السورية وضرورة التدرج السياسي بما يتواكب والتدرج الاقتصادي والاجتماعي .
ومن المهم الإشارة الواضحة إلى دور القائد الشرقي التاريخي ، وانعكاسات ذلك في وعي الأفراد عندما يمسكون بزمام الأمور.
لقد كان واضحاً أن موقف الاتحاد السوفييتي من الشخصيات والأحزاب القومية التقدمية أخذ أبعاداً جديدة ،منذ كان خروتشوف أميناً عاماً للحنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي ،فمن جهة تابعت موضوعة أهمية الامتداد الأفقي للاشتراكية في البلدان المتحرّرة ،ولكنها وجدت أن ذلك لم يعد مهمة حصرية بالأحزاب الشيوعية،كما أنه لم يعد يتطلب تبني الاشتراكية العلمية بصورة متكاملة ، وترافق ذلك مع موضوعة أن الاتحاد السوفييتي أصبح قادراً على أن يقوم بدور دكتاتورية البروليتارية على الصعيد العالمي.وماذا يعني كل ذلك في الممارسة الفعلية أليس ذلك أحد العوامل التي دفعت إلى ضرورة «عالمية» كي تلعب الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية دوراً ثانوياً وبعيداً عن الندية،وأن عليها أن تقبل بوجود شكلي فيما يتعلق بقضايا السلطة السياسية والنظام الاجتماعي السياسي الاقتصادي, ورغم ذلك فإن الحزب الشيوعي السوري لم يغب عن باله لحظة واحدة أن الأولوية هي لتجميع أوسع القوى للنضال ضد الإمبريالية والصهيونية ،ومن أجل استمرار التقدم الاجتماعي وتعميقه.
وطبيعي القول :إن عوامل سلبية كانت قد فعلت فعلها،فمن جهة لا يجوز تكرار التجربة العراقية وينبغي وضع حد للعلاقات المأزومة بين التيار القومي الوطني التقدمي والأحزاب الشيوعية ،ومن جهة أخرى فإن مواقف البلدان الاشتراكية آنذاك انزاحت نحو براغماتية مبتذلة بهذا القدر أو ذاك ، وطويت موضوعة لينينية معروفة ، وهي أن الموقف من القوى الأخرى ينبغي أن يستند إلى موقفها من الحزب الشيوعي وحرية نشاطه.
أنضيف إلى ذلك أن الحزب لم يخرج معافى بعد انهيار الوحدة السورية المصرية ، كما أن نقاط الضعف التي باتت جلية في هذا الميدان ،أو ذاك, لعبت دورها في انقسام الحزب الذي لا يمكن إنكاره أنه أحد العوامل التي كان لها تأثيرها فيما توصل إليه الحوار والنقاش بشان ميثاق الجبهة.
وإذا كنا قد أتينا على تلك العوامل ، فلأنها فعلت فعلها بشكل مباشر أو غير مباشر فيما انتهى إليه الأمر بشأن التوصل إلى ميثاق للجبهة الوطنية التقدمية ،ولكن الممارسة الفعلية لميثاق الجبهة كانت تدلّ بوضوح أن الاعتراف بالأحزاب الأخرى كان اعترافاً شكلياً وغير جدي ،والدلالات الأساسية للاعتراف غير معمول بها ، خاصة وأن أحزاب الجبهة لم تتمتع بحق إصدار نشراتها وصحفها الخاصة بها ،ولم يكن لها حق افتتاح المكاتب العلنية،كما أن وجودها في هذا المجال أو ذاك محدّد بقوائم الجبهة التي لاتتيح معرفة أنها قوائم تمثل أحزاباً سياسية ،وحتى في وسائل الإعلام فإن التعريف بقادة الجبهة كان مقصوراً على عبارة معروفة وهي «عضو القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية» ودون أي إشارة إلى أنه” أمين عام لهذا الحزب أو ذاك من أحزاب الجبهة”……؟!،ولكن الأكثر تأثيراً من الناحية السلبية كان في الترجمة الملموسة لموضوعة «الحزب القائد» وما ارتبط بها, فمن جهة غابت حقوق أحزاب الجبهة في التعبير عن آرائها الخاصة ،وجرى الاكتفاء بحقها في طرح ذلك ضمن الجدران الأربعة.
وبعد ذلك عليها أن تلتزم بما تقرره الاجتماعات الجبهوية ، ومعروف أن غالبية أية هيئة جبهوية جاءت من حزب البعث العربي الاشتراكي ، وتحولت هيئات الجبهة وكأنها هيئات لحزب واحد ، وليست هيئات لأحزاب عديدة ،ولا أعتقد أن ذلك مستغرباً خاصة وأن ميثاق الجبهة أثار بوضوح إلى أن المآل هو أن تكون في سوريا حركة سياسية واحدة،فهل كان حرق المراحل السياسية للوصول إلى ذلك متواكباً مع تطور وقائع التقدم الاجتماعي…..؟…….
لقد كان التماثل المطلق حتى في التكتيك هو المنهج الذي سارت عليه الجبهة، ولم يقتصر الأمر على التماثل المتعلق بالمسائل الاستراتيجية الكبرى ، بل كان ذلك التماثل مطلوباً في التكتيك المباشر واليومي ، وغيبها عن الوعي الاجتماعي ،وكثيراً ما أدّى ذلك إلى ترداد عبارات مثل “الحزب”……. “لصاحبه حزب البعث العربي ،ولايجد الناس غرابة في أن يرددوا” أن أحزاب الجبهة لا لون ولاطعم ولارائحة لها،ومن البديهي القول أن ذلك الوضع لم يكن بعيداً عن التداعيات المرتبطة بسيادة قانون الطوارئ والأحكام العرفية.
لقد بات واضحاً أن أحزاباً تتعاون في جبهة لايمكن لحزب أن يقوى وغيره يضعف ،بل أن الوقائع تدلّ على أن تلك الأحزاب إما تقوى معاً أو تضعف معاً،وأصبح واضحاً أن اجتماعات فروع الجبهة وقيادات أحزابها أقرّت بضرورة تفعيل أحزاب الجبهة ،وهو يلخص وضع أحزاب الجبهة بعد عشرات السنوات على قيام الجبهة الوطنية التقدمية ،كما أنه لابد من القول : إن التاريخ السياسي للبلدان العربية يطرح تساؤلاً هاماً وهو:
هل يمكن الجمع بين مفعول الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ من جهة وبين الديمقراطية من جهة أخرى،أم أن الأمر في غاية الوضوح ،ألا وهو أن الأحكام العرفية وقانون الطوارئ إنما وجدت لمنع النشاط السياسي.
لقد جرى تلمّس نقاط الضعف خلال مسار الجبهة الوطنية التقدمية وجرى تعديل لبعض البنود ومنها الفقرة المتعلقة ب”الطلبة “،ولكن المسألة أعمق من ذلك فالممارسة كانت تشير إلى حالة منع النشاط السياسي في مختلف القطاعات العمالية والفلاحية ، وأن الأمر لن يجد علاجه إلى بعد صدور قانون الأحزاب ، وتعديل قانون المطبوعات وإنهاء العمل بالأحكام العرفية وقوانين الطوارئ.
لقد أخذ بعضهم السلبيات ، وتناسى أموراً مهمة وسياسية ، وهي أن الجبهة الوطنية التقدمية ، لعبت دوراً في ترسيخ الثوابت الوطنية ، كما لعبت دوراً في استمرارية السياسة الوطنية، وفي النضال ضد الإمبريالية والصهيونية ،ووضعت حداً لاستمرار التوتر بين التيار القومي والأحزاب الشيوعية ،وإذا لم تستطع الجبهة أن تلعب دوراً فاعلاً في تأمين المستوى المعاشي اللائق ، إلا أنها لعبت دوراً مباشراً أو غير مباشر في إحباط الكثير مما أراده دعاة الليبرالية وقوانين السوق ،كما لعبت دوراً في الحفاظ على قطاعات مهمة من ملكية الدولة، ودافعت عن حقوق العمال والفلاحين ،وحدّت من التوجهات التي أرادت السير نحو علاقات سياسية أكثر قسوة تحت مظلة قوانين الطوارئ والأحكام العرفية ، وتظل الجبهة الوطنية التقدمية ضرورة موضوعية وطنية في ظروف عالمنا، لكنها ينبغي أن تقوم على ميثاق وطني جديد، يعتمد على الديمقراطية الوطنية ويكرس برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، باعتباره استراتيجية للقوى المنضوية في التحالف الجبهوي، ويقر بالحريات الديمقراطية والتنوع السياسي القانوني ،ويقونن القمع السياسي ويضيق مجاله الاجتماعي ويحاصره في الحالات الخطرة على الاستقلال والسيادة والحق في اختيار طريق التطوير والتنمية وعلى أساس الشكل الديمقراطي في تأدية السلطة السياسية ويؤمّن حلاً لحقوق القوميات الأخرى، والهام أيضاً ألا يتحول القمع السياسي إلى القمع الفكري والثقافي.
إن سبيل الخلاص لسوريا هو في اعتماد الديمقراطية الوطنية وبرنامجها وكان للحزب الشيوعي السوري دور مهم في النضال من أجل الديمقراطية ، كما كان له دور مهم في كل مكسب طال الطبقة العاملة وجماهير الفلاحين وغيرهم من الشرائح الاجتماعية .
وطبيعي القول :إن النضال الوطني العام أسهم به الحزب الشيوعي إسهاماً كبيراً سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة ،كما أنه من المستحيل الحديث عن مكاسب العمال والفلاحين وسائر الجماهير الشعبية دون لحظ الدور المهم الذي قام به الحزب الشيوعي،إلا أننا منذ سنوات نرى جنوحاً للمراوحة في ميدان المشكلات الاقتصادية والمعاشية ، وتغييب واسع لمسألة هامة هي أن السياسي يبدأ بالاقتصاد وينتهي بالسياسة لكن الابتعاد عن ذلك يعتبر شكلاً فاقعاً للانتهازية والتحريفية.
لاينبغي للغيوم السوداء أن تغطي كامل مساحة الرؤية ،فالرأسمالية وضعت الآن طبقات وشرائح اجتماعية متعدّدة في بوتقةالبحث عن حلول لقضايا الشعوب ، ومن الطبيعي القول : إنه لايكفي الحديث عن مشاكل البشرية وويلاتها ، بل ينبغي رؤية واضحة إلى جذور تلك المشاكل الكامنة في بنية علاقات الإنتاج الرأسمالي السائدة في عالمنا على شكل علاقات عولمية،كما أنه من المهم في ظروف عالمنا الارتقاء من حالة الممانعة الوطنية ورفض الحلول الأميركية واستراتيجياتها إلى حالة فضح ذلك باعتباره نتاجاً للإمبريالية العولمية ،ينبغي الارتقاء في النضال الوطني العام باتجاه سلوك سبل التطور التقدمي وعدم الأخذ بما تريده قوى الليبرالية التي تتمركز على الاقتصاد للوصول إلى القضايا السياسية الرئيسية .
إن الاشتراكية مستقبل البشرية وهو ما يؤكده الحراك الجاري في عالم اليوم ، لكن ذلك الهدف له شعاب ومراحل متنوعة ومتعددة ،وهو في بلادنا وغيرها يبدأ في ولوج مرحلة الديمقراطية الوطنية ،ومن الأهمية بمكان أن نؤكد أن ضرورات التقدم الاجتماعي نحو الاشتراكية لم تعد مقصورة على القضايا الطبقية،بل إن التقدم الاجتماعي نحو الاشتراكية أضحى ضرورة وطنية وإنسانية وبيئية ، وقد بات جلياً عجز الإمبريالية العولمية عن حل قضايا عالمنا الإنسانية والطبقية ، بما فيها مشكلات التلوث والبيئة ، ناهيك عن إنهاء الحروب وإحلال السلام في قارات العالم ، ومعالجة قضايا الطفولة وحقوق المرأة، وصولاً إلى إنهاء استغلال الإنسان للإنسان ، واضطهاد شعب لشعب.
الحزب والموقف من القضية الكردية
أعتقد أنني ارتكب خطأ فادحاً إذا ادّعيت بأنني ألم ّبتلك المسألة من كل جوانبها،لكنني أريد أن أشير إلى أن القضية الكردية في سورية، أو حقوق الأكراد السوريين وقضيتهم ،كان لها خصوصيتها التي ميزتها عن القضية وحقوق الأكراد في العراق أو غيره، وتجلب هذه الخصوصية بما يمكن تسميته أن قضايا الأكراد السوريين هي قضايا حديثة مقارنة بتاريخ قضية الأكراد في العراق.
وإذا توقفنا عند الرأي السائد بشأن هذه القضية ومواقف الأحزاب الشيوعية منذ عشرات السنوات، وهو الموضوعة المعروفة بحق تقرير المصير فإننا نجد أن بعضهم حاصر الموضوعة ومنحها بعداً وحيد الجانب، ألا وهو المساواة بين تقرير المصير وحق الانفصال .
وقبل كلّ شيء فإن استخدام أي حق لا يمكن أن يترجم فعلياً، بعيداً عن الشروط الموضوعية واتجاه المعالجة وتداعياتها وآثارها على النضال الوطني العام ،وعلى مصالح الكادحين من سائر القوميات , وعلى سبيل التوضيح فإن حق تقرير المصير لم يرتبط مطلقاً بوجاهة حق الانفصال ، ناهيك عن إن أي حق لا ينبغي أن يكون معادلة الملموس تعسفيا بل ينبغي فعلياً أن يكون في إطار المسألة الوطنية وضروراتها وآفاقها ومهام النضال المترتبة على كل ذلك، وتشير الوقائع بوضوح أن حق لانفصال كان ترجمة سيئة لحق تقرير المصير في معظم الحالات ، وحول هذه الموضوعة إلى خدمة مباشرة للإمبريالية ومصالحها والدليل الأخير على ذلك هو ما جرى في يوغوسلافيا على أيدي جنرالات وساسة حلف الأطلسي ،ناهيك عن تفتيت الاتحاد السوفيتي وآثاره العامة على البشرية والتي أصابت بصورة مباشرة كل القضايا الإنسانية ومختلف أصقاع الكرة الأرضية.
وفي هذا الصدد لا يمكن تجاهل احد التوجهات الأساسية للإمبريالية العولمية والتي تبلورت على شكل التفتيت بالاستناد إلى المسائل القومية والمسائل الأثنية،وثم دمج تلك الأجزاء المتناثرة بالعولمة الاقتصادية والسياسية والعسكرية،ومثل هذه الممارسات لاعلاقة لها بحق تقرير المصير ، وهي حالة تشير إلى أن الإمبريالية تمسك بالخلافات في هذه الدولة أو تلك ،وتدفع بها نحو التفتيت وتحديد آفاقها السياسية والاجتماعية،وفي هذا الصدد ينبغي أن نلحظ أنه في حالات غير قليلة تنهار الأمور فيها باسم تقرير المصير إلى صراعات أكثر دونية ، وتنتقل إلى صراعات عشائرية وقبلية ومناطقية وطائفية وغيرها وغيرها…..!
إن الحزب الشيوعي بنى موقفه بالانطلاق من القضية الوطنية العامة ،والتي هي في جوهرها تخدم مصالح الكادحين السوريين عرباً وأكراداً ووجد أن الحالة الوطنية السليمة تتطلب تقديم حلول صحيحة للقضايا التي تخص الأكراد السوريين وذلك مثل الجنسية، وحق التملك وإنهاء كل الممارسات التي لا نؤمن بمفهومها صحيحاً للمواطنة ، ودون التمييز بين أبناء الوطن الواحد بالاستناد إلى اعتبارات قومية وسياسية.
ولقد دخلت حقوق الأكراد السوريين في دهاليز أدت إليها الفلسفات القومية العربية والفلسفات القومية الكردية ، ولم يكن هذا شأن القضايا القومية في سوريا وحدها،بل نلحظ الأمر متأزما في الكثير من البلدان العربية ,كما هو الحال في العراق والجزائر وكذلك الأمر في السودان أو غيرها .
لقد حاول الحزب تطوير مواقفه المتعلقة بالحقوق الخاصة بالأكراد السورين ؟ إذ دعا إلى تأمين الحقوق الثقافية للأكراد وقد أثار ذلك الكثير من الآراء الشوفينية القومية العربية التي تناهض ذلك ، واندفع بعضهم لإنكار مطلق للمشكلة الموجودة موضوعيا رغم أن الحقوق الثقافية نجد الكثير من دلالاتها ومعالجة الملموسة بصورة عادية وفي الكثير من الدول حيث نجد صحفاً متنوعة اللغات ، كما أن في سوريا بالذات يجري تدريس العديد من اللغات إلى جانب اللغة الرسمية، وثالثا فإن في سوريا مدارس خاصة لها خصوصيات قومية كما هو حال المدارس الأ رمنية والسريانية في بعض المدن السورية .
إن معالجة حقوق الأكراد السوريين،ومنها الحقوق الثقافية ناهيك عن الجنسية والمساواة بحقوق تملك الأرض وغيرها من العقارات أصبحت عاملاً أساسيا من عوامل الوحدة الوطنية ، وبات واضحا أن الحديث عن الوحدة الوطنية لاتستقيم أموره واستمرار تلك المظالم التي تقع على الجماهير الكردية ، وإذا استمرّ عدم تأمين تلك الحقوق ، و إذا لم ينته رفع تلك المظالم ، فإن تخمرات هذه المسألة وتداعياتها لن تكون في مصلحة الوطن، و كادحيه عرباً وأكراداً .
ومع عدم الاستجابة للمطالب العادلة للجماهير الكردية ، ذهبت بعض القوى الكردية للعب على أوتار القضية القومية ، وأخذت تطرح حق تقرير المصير على أساس تأمين الانفصال القومي،وواضح أنه حتى في العراق فإن كل العوامل تحول دون ذلك وتؤكد على تأمين حقوق الأكراد ضمن الدولة العراقية الديمقراطية الفيدرالية.
وربّما كان التدقيق ضرورياً حيث أن الحزب إما كان عليه أن يؤجل طرح الحقوق الثقافية للأكراد ويستمر في التمركز على المطالب الأخرى ، أو أن يضع الحزب الحقوق الثقافية للأكراد في صلب مشروع برنامجه دون تراجع عن ذلك لاعتبارات لا تخص القضية الوطنية ،إن ذلك أضعف تأثير الحزب وقدّم متنفساً لبعض الأحزاب القومية الكردية لتشديد الهجوم على الحزب في الأوساط الكردية.
إن ذلك الخطأ أدت إليه بصورة واضحة حالة التعاطي السياسي مع القضية القومية ،ومن الهام الإشارة إلى أن التعاطي السياسي قد يترافق مع أخطاء سياسية كالتي حصلت،لكن الحزب من الناحية الإيديولوجية والفكرية كان عليه أن يضع موضوعة الحقوق الثقافية للجماهير الكردية في صلب نشاطه الإيديولوجي والفكري،لكن استمرار التعاطي السياسي مع القضية القومية أفقد الحزب الكثير من زخمه في كونه الحزب المؤهل لمعالجة المسألة القومية ، سواء أكان الأمر متعلقاً بالقضية القومية العربية، أو كان مرتبطاً بالقضية الكردية.
وخلاصة الأمر فإن حقوق الأكراد السوريين أصبحت مسألة وطنية، ومن الخطأ الفادح التعاطي معها من منطلقات غير صائبة ،لأنه بحلها،تتحقق وحدة وطنية فعلية،ويظل أن نقول : إن كل وطني وتقدمي في سوريا معني بهذه المشكلة وينبغي أن تسهم سائر القوى الوطنية والتقدمية في النضال الوطني العام الذي لم يعد رفع المظالم عن الجماهير الكردية خارج نطاقه.
السلطة السياسية والمثقف
لقد جرى تنوع تناول مستمر للعلاقة بين السلطة السياسية والمثقف ، وليس من الغرابة إذا ، وكنا رأينا أن تلك العلاقة هي في حالة أزمة شاملة و تنوع مظاهر هذه الأزمة وتختلف من دولة لأخرى وتثير تلك الأزمة تساؤلاً جاداً، ألا هو : لماذا هذه الأزمة التي تكاد تكون مستعصية على الحل في الكثير من الدول العربية ؟، وهل إن التناقض بين السياسي والمثقف هو تناقض تناحري وتعود جذوره نحو الاختلافات الجذرية بشأن النظام الاقتصادي الاجتماعي ؟
وإذا توخينا التوقف عند الجانب الموضوعي فإنه من الخطأ الفادح أن نعتبر أن شريحة المثقفين شريحة متجانسة أو إنها موحدة في مناهلها الفلسفية والإيد يولوجية و القيمية، لأنها شريحة متباينة في اصطفافاتها الطبقية وجذورها الاجتماعية ، ناهيك عن الخلافات السياسية ، الخلافات التي صار لها جذور في صفوف المثقفين, إن ذلك يقودنا إلى القول : إن غالبية المثقفين و في كثير من الدول العربية لايختلفون مع السياسي بشأن الجوهر الطبقي العام للنظام السياسي الاقتصادي ، كما لايدخلون في نطاق القوى التي ترى أن مشكلات الوطن تعود في نهاية التحليل إلى العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الطفيلية السائدة في الكثير من الدول العربية, وطبيعي القول : إن ذلك الأساس الموضوعي يشكل مادة مهمة للسلطة السياسية كي تكون بطانتها المثقفة ،ومن الوهم الاعتقاد أن السلطة السياسية في حالة غربة مطلقة عن كل المثقفين ،أو بعبارة أخرى فإن الواقع الموضوعي يضع مسألة ه مهمة ، ألاوهي : إن لكل سلطة سياسية مثقفيها ، وإذا كان مفهوماً أن العلاقة بين المثقفين تتسم بالتناقض وذلك للتباين بشأن ما يتعلق بالطبيعة الطبقية للنظام السياسي الاقتصادي ، فإن اتساع نطاق الأزمة التي أشرنا إليها يتجلى في المفارقة البارزة المتصاعدة بين السلطة ومثقفيها ودخولهم في أشكال تناحرية ، رغم إنها في الأساس تناقضات ثانوية ، ولكنها قد تؤدي إلى موقف سلبي من السلطة السياسية ، نتيجة عوامل متعددة حيث تلجأ السلطة إلى الزّجر بحق مثقفيها ، وتعاملهم كما لو أنهم مثقفون من الشريحة المثقفة والمعارضة جذرياً للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
إن تلك الحالة تعمق الأزمة بين المثقف والسياسي ، وأحد أهم الاختلافات أن السياسي يهتم بحجم المسائل السياسية المطروحة وبصورة مباشرة ، و إنه كثيرا ما يلهث وراء المواقف الآتية، خاصة في ظروف الدول العربية , ويفرض ذلك سلوكيات لحشد التأييد والدعم المباشر وتحريك كل الأدوات والجهود والأنشطة لإقناع أكبر عدد ممكن من الناس بصحة ما يقول ،رغم إنه في حالات كثيرة يدرك أنه يروج للكذب والتبرير وإخفاء الحقائق والأهداف الفعلية لسياساته وبرامجه وخططه الاقتصادية ,و يعتبر ذلك أبرز خاصية راهنة للسياسات الإمبريالية ، كما أنه يطال بهذا القدر أو ذاك سائر سياسات الدول الرأسمالية وذلك نتاج عوامل عديدة متشابكة ، ولكن جوهرها الأول العميق هو أزمة علاقات الإنتاج الرأسمالي المعولم التي لم تعد صالحة لمعالجة قضايا عصرنا ، أما الوجه الآخر للمسألة فإن مقوّمات أن يكون الإنسان مثقفاّ ، فإنه لا يستطيع أن يكون إلا إذا توفرت وترابطت مكونات أساسية , حيث الثقافة تتطلب الاستناد إلى منظومة أو مجموعة النظريات الفلسفية والفكرية , ولكن الأمر يتعدّى ذلك ، فالثقافة تتشكل ثانياً من نسق القيم التي تستخلص وتستند إلى ذلك الأساس الفلسفي, وطبيعي فإن العماد الآخر للثقافة هو الممارسة العملية اليومية المستندة إلى ذلك النسق من القيم , وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى الظواهر التالية , ويلاحظ جيدا أننا كثيراً ما نصادف رفاقاً أو أصدقاء يظنون أن الماركسية مقصورة على معارف فلسفية ، وكثيراً ما عبروا عن ذلك بترداد مقولات ماركسية ، لكنهم في واقع الحياة لايأخذون بنسق القيم الماركسية , بل يمارسون ما يتناقض مع تلك القيم ،ويعبر عن هذه الحالة بمفهوم التناقض العميق في مجتمعنا بين الفكر والقيم من جهة ، والممارسة من جهة أخرى .
أما المشكلة الأخرى التي يمكن التنويه إليها فإن خلاصتها أن الثقافة البرجوازية دخلت مرحلة انسداد الأفق منذ مئات السنين ، وذلك لأن البرجوازية تحولت إلى طبقة رجعية معتبرة أن الرأسمالية نهاية التاريخ وذلك باستغلالها وحروبها ، وقد بات ذلك سافراً في مرحلة الإمبريالية وتعمق في مرحلة العولمة الإمبريالية , أردت أن أقول :إن المثقف البرجوازي يعاني من عاملين ، فمن جهة فكره الفلسفي وقيمه ، ومن جهة أخرى سلطته السياسية التي تجره إلى اهتمامات ومهام لا علاقة لها بجوهر الثقافة ومهمتها .
ويمكن القول : إن مختلف صنوف الثقافة الرأسمالية في وضعنا الراهن ، تبقى على سطح الظواهر السطحية ، مهما كان طابعها النقدي ومهما كان جارحاً , إنها تمركز على نقد الأفراد ، ولاتصل إلى أعماق العلاقات ، بل على العكس من ذلك فإن الخطوط الحمر تنتهي للقول : إن البلاء لايمكن في علاقات الإنتاج الإمبريالية المعولمة ، ولا تدعو إلى تغييرات جذرية وتسهم في تقدم المسكنات.
وفي بلادنا العربية ، تتعمق الأزمة نتيجة علاقات الإنتاج الرأسمالي الطفيلي التي لا يمكن أن تعالج قضايا الوطن والجماهير الشعبية ،وخلاصة الأمر ـن عوامل متعددة تضع المثقف في وضع اضطهاد السياسي ، فالسلطة زاجره بحق مثقفها ، أو تحيله إلى أداة مباشرة يردد آراء السلطة في كل صغيرة وكبيرة ، ومن ناحية أخرى فإن السلطة السياسية لاتبقى لذلك المثقف أية مسافة تسمح له بممارسة دوره الفعلي في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية ، وذلك أن الإبداع الثقافي مرتبط بحالة التخمر الثقافي، وهي حالة لا تلائم السياسي الآني ،إنها حالة تجميع الأجزاء ، وكشف علاقاتها عبر الغوص في مضمون الظواهر وأبعادها ، وهو ما يؤدي للوصول إلى عكس ما يريده السياسي من مبررات ، إن السياسي يريد المثقف ملحقاً له سواء في الثقافة أو الفن أو المسرح أو الفنون الأخرى، ويؤزم الأمر عوامل عديدة سائدة في كثير من الدول العربية ،و يمكن القول :إن أخطر تلك العوامل يكمن في شكل تأدية السلطة السياسية ، حيث تغيب الديمقراطية ، وتنتفى آلياتها ، وطبيعي أن تداعيات العلاقة السياسية في ظروف الديكتاتورية ، تشدد ميلاً متزايداً عند السياسي ،كي يكون المثقف متطابقا كليا وبصورة مباشرة مع الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي الآني ،وشيئاً فشيئاً يجد المثقف نفسه في المواقع التبريرية المبتذلة وغير العقلانية ، ويتخلى فعلياً عن الإبداع الثقافي والمعرفي .
أما العامل الآخر ، فإننا نتلمسه باعتباره عاملاً يشمل الثقافة التاريخية للقائد السياسي الشرقي, إذا صحّ التعبير, تلك الثقافة التي تعتبر نموذجاً لمفارقة بالغة التعقيد حيث التاريخي يظل آنيا لايدخل إدراج التراث ، أما الجانب الآخر للمفارقة فيكمن في عمق التناقض بين تلك الثقافة ومستوى تطور القوى المنتجة ،ويؤسس ذلك كما يلاحظ في البلدان النامية غير الديمقراطية إلى أن القائد السياسي يتحول إلى عامل معرقل لتطور القوى المنتجة التي يعتبر الإنسان ركنها الأساسي ، و لعل ذلك يفسر ظاهرة تزايد البون بين المستويات العالمية الراهنة للتعليم والثقافة من جهة، ومستوياتها في كثير من الدول النامية ، ألا نلحظ ذلك في الكثير من ضروب الإنتاج الثقافي بما في ذلك مختلف الفنون الأدبية .
وكي تتوضح الفكرة أكثر فإن القائد السياسي الشرقي لاشبيه له سوى أبطال السوالف والأساطير ، فهو القدير، والعليم ،والمفكر، والحكيم الذي لا يخطأ ، وعندها يتحول الجميع إلى أدوات صغيرة في مشاريع بطل السوالف ، وعندها أيضا يصبح الإنتاج الثقافي الإنمائي متوجها لتمجيد القائد الذي يسمو عن الحالة البشرية ، وقد يتحول إلى كائن ميتافيزيقي ، وفي تلك الظروف التي تسود في الكثير من الدول العربية حيث الملك والأمير والرئيس ، فإن الزجر أو الإلحاق هما العاملان اللذان يتوزعان شرائح المثقفين, إن الثقافة لا تستقيم أمورها دون مسافة بين السياسي والمثقف ، ويمكن القول : إن في تلك المسافة نجد التناقضات والاختلافات وحتى المشاكسة وسائر خصوصيات المثقف الذي يربو بنفسه وإبداعه عن الجزئيات اليومية ، ليخلق منها مركباً ثقافياً ومعرفياً يتوخى أغوار المشكلات وتفاعلاتها بلغته الثقافية الخاصة.
يمتاز المثقف الحقيقي بالمعرفة المعمّقة المستشفة لمآل الظواهر ، وكثير اًما قيل عن ذلك بأنه “خيالات ” المثقفين ،و كثير اً ما أدى الأمر إلى التباس في معنى الثقافة ،فتخرج الثقافة عن كونها شكلاً من أشكال الوعي والمعرفة وقد تكون تلك المعرفة حقيقية ، أو معرفة غير حقيقية, تخرج عن ذلك, ويدخلها بعضهم في عالم الإلهام وفي كل الأحوال فإن الإلحاق الذي تفرضه ظروف غياب الديمقراطية لايترك للمثقف شيئا من كل ذلك ، ويحوله إلى الاهتمامات الخاصة بالسياسي و يرميه بعيداً عن مهمته ودوره الاجتماعي والسياسي والفكري والعلمي, ولاغرابة إذا قلنا: إن موضوعة انحطاط الثقافة، ليست مسألة تخصّ مرحلة مضت وطويت ، بل نجد موادها في كثير من البلدان العربية . وتجدر الإشارة إلى أن السياسي يحاصر حتى مثقفه في ظروف غياب الديموقراطية ، ويفقده دوره الثقافي ويحوله إلى موظف عادي أو داعية تفوته وتجانبه الحقيقية ، ويصبح إنتاجه الثقافي ذا خاصية آنية وسرعان ما يندثر. والمشكلة الثانية التي تجدر الإشارة لها نجد دلالاتها في العديد من المواقع التي تشير إلى أن السياسي يفكك جماعة الثقافة باستخدام الزمر والإلحاق ، ويحتاج الكثير من المثقفين إلى الوقت ، كي يعرفوا أن الإلحاق توأم الزجر، ويدل ذلك على تنوع التعسف السلطوي الذي يلحق بالمثقفين بما فيهم مثقفو السلطة السياسية ، كما يشير إلى اتساع نطاق القهر السلطوي الذي يحل بالمثقفين ،ولايقتصر معنى التعسف على الزجر ، بل يدخل في نطاقه غياب الثقافة عن المثقف ، أما ثالثه الأثا في فإن الثقافة في بلدان تغيب عنها الديمقراطية تتجلى في انحراف الثقافة عن مهامها . ومن الطبيعي القول : إن أحد اهتمامات مثقفي السلطة السياسية يكمن في الدفاع عن النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي ، ولكن بدلاً من ذلك تتحول الثقافة إلى تمجيد السياسي, إلى تمجيد الفرد ، ويغيب عنها الموقف في النظام السياسي الاقتصادي .
ولتوضيح هذه الفكرة فإن غياب مهمة المثقف تنعكس بشكل غير مباشر في عزل النظام السياسي الاقتصادي ,حتى في كثير من الحالات, عن الطبقات والشرائح الاجتماعية التي يمثل النظام مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإذا أردنا توضيحا ًمملوساً فيمكن القول : إن الدول الرأسمالية المتطورة مرت بمراحل رسّخت البوجوازية الكبرى فيها مفهوماً واضحاً هو أن النظام السياسي الاقتصادي هو “الخط الأحمر” الذي لا ينبغي تجاوزه , أما الأفراد الذين يتولون السلطات التنفيذية و التشريعية , فما من واحد منهم يشكل خطاً أحمر ، وهذا ما يفسر ضروب الإنتاج الثقافي التي تصور القائد السياسي أبله أو جاهلاً أو كركوزاً أو أحمق ، وفي الوقت نفسه فإن الأمر في بعض الدول العربية، حيث أن أي إنتاج يشير إلى أي معنى سلبي , يتعلق بالقائد السياسي، يعتبر صاحبه معادياً للوطن وخطراً داهما ً, ألن يضع السادات قانون العيب في مصر؟، أليست الوقائع اليومية تشير إلى ذلك المعنى بطريقة أخرى حيث التطبيل والتزمير للملك أو الأمير أو الرئيس أو غيرهم من كبار المسؤولين في هذه الدولة او تلك؟, أنضيف إلى ذلك مسألة أخرى تجعل عنق المثقف في قبضة السياسي ،حيث متطلبات الحياة المعاشية لا تمكن المثقف من الانصراف للإنتاج الثقافي , ويؤزم هذه المسألة أن السياسي كثيراً ما استحسن العمل بالمثل المعروف ، وهو ” الأرض وماعليها لواليها ونجد صورة ذلك في التاريخ كما نجدها في أيامنا الراهنة ،وعندها يكرر الناس قولاً معروفاً ، وهو«إن الذي يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه » هكذا يظل الأمر إلى أن تتوقف عند فكرة وهي أن تعسف السياسي يؤدي بآثاره إلى حالة لا تخص هذا المثقف أو ذاك, لكنها تتحول إلى أمر اجتماعي من جهة, ومن جهة أخرى تخرج تلك الآثار عن الحالة الآنية العابرة وتتحول إلى عامل تمتد آثاره لسنوات وسنوات ، وتصيب تلك الآ ثار مختلف شرائح المثقفين ويفسر ذلك استمرارية تأثير التعسف السياسي لسنوات عديدة ، بل ولأجيال بكاملها من المثقفين , وخاصة و أن المثقف له خصوصياته الشخصية والنفسية , ناهيك عن أن ممارسة الإبداع الثقافي تحتاج إلى مناخات إيجابية ثابتة ومستمرة , فالإبداع الثقافي لاينتج عن مصادفة عابرة ، لكنه نتيجة تخمرات في وعي المثقف ، و مواد تلك التخمرات تتوزع بين عناصر معرفية و أيديولوجية وفكرية واجتماعية ، وقد يؤدي التعسف بالكثير من تلك العناصر وعندها يشل الثقافي حتى بعد أن يذهب السياسي وينتهي أمره , ولكن صورته تظلّ قائمة ، وتخرج قتامتها عن نطاق شخصانية السياسي المعادي للديمقراطية ، لتطال كلّ شيء, ويبرز ذلك في كثير من حالات المثقفين في الميل للأخذ بموضوعية اللا جدوى
الحوار المتمدن