صفحات العالم

تقرير منظمة الشفافية الدولية والعرب

محمد فاروق الإمام
يوم الأربعاء الماضي التاسع من الشهر الحالي استمعت وشاهدت كحال الملايين من العرب إلى برنامج (بلا حدود) التي تبثه قناة الجزيرة الفضائية القطرية، ويديره الصحفي والإعلامي البارع والجريء أحمد منصور، وكان ضيف الحلقة الدكتورة (هوجيت لايبل) رئيسة منظمة الشفافية الدولية، التي أصدرت في 17 تشرين الثاني تقريرها السنوي عن مؤشر الفساد في العالم، والذي يغطي 180 دولة في العالم وفقا لمقياس تصاعدي يتدرج من الصفر إلى عشر درجات. يذكر أن منظمة الشفافية تنشر كل سنة ومنذ العام 1995م مؤشراً للفساد بناء على تصنيف 180 دولة في العالم وفقاً لتحليل مجموعة دولية من رجال الأعمال والخبراء والجامعيين.
والشفافية هي منظمة عالمية غير حكومية تأسست عام 1993م في برلين تُعنَى بالشفافية وكبح الفساد ولها فروع في تسعين دولة وتصدر المنظمة تقريراً سنوياً منذ عام 1995م تصنف بمقتضاه الدول حسب دراسات واستبيانات وعمليات مسح تقوم بها مع أكاديميين ورجال أعمال ومحللين لأداء الدول المالي.
وَصُعقت والكثيرين – كما أعتقد – إلى ترتيب العرب المخجل في قائمة الدول بحسب منسوب الفساد فيها، فقد بين التقرير أن أربع دول عربية تسودها نزاعات مسلحة واضطرابات داخلية احتلت مراتب متدنية جدا وهي اليمن (154) والعراق (176) والسودان (176 مكرر) والصومال (180) التي جاءت في المرتبة الأخيرة. على صعيد البلدان الإسلامية احتلت أفغانستان ثاني أكثر المراكز سوءاً (179) تليها إيران (168) وقالت المنظمة، إن الدول التي احتلت المراكز الدنيا كان بينها قواسم مشتركة كثيرة، فجميعها أنظمة هشة، وغير مستقرة، وتنخر أنظمتها آثار الحروب والنزاعات. وأضافت: (عندما لا يكون هناك وجود لمؤسسات القانون، أو عندما تكون ضعيفة، فإن الفساد يستشري ويخرج عن السيطرة، وتنهب موارد الشعب، ويجري استخدامها في تدعيم الفوضى والعجز). وفيما يخص ترتيب البلدان العربية من حيث مستوى الشفافية، احتلت ثلاث دول خليجية المراتب الأولى والثانية والثالثة، حيث جاءت قطر في المرتبة الأولى المصنفة في المرتبة (22) عالميا، ثم تلتها الإمارات العربية المتحدة (30) وسلطنة عمان (39) إضافة إلى الدول الخليجية الثلاث الأنفة الذكر التي أحرزت تقدما بالمقارنة مع مراكزها في المؤشر السابق نجد السعودية قد تقدمت من المرتبة الثامنة إلى السادسة عربياً ومن المرتبة الـ (80) إلى إلـ( 63) عالمياً في حين تراجعت كل من البحرين من المرتبة الـ (43) السنة الماضية إلى الـ( 46) في المؤشر الحالي والكويت (66).
وترى منظمة الشفافية الدولية أن هذه النتائج تبين أن البلدان التي (تعاني من نزاعات طويلة الأمد وتصدّع بعض آليات الحكم الرشيد هي البلدان ذاتها التي يستشري فيها الفساد على نطاق واسع. إذ عندما تضعف مؤسسات الدولة أو تنعدم من الأساس، يخرج الفساد عن نطاق السيطرة ومن ثم تُهدر الموارد العامة. ويؤدي هذا الوضع إلى حالة اللا استقرار وشيوع ثقافة الإفلات من العقاب). وتضيف المنظمة أن انتشار الفساد يؤدي أيضاً إلى انحسار ثقة أفراد الشعب في مؤسسات الدولة والحكومات الناشئة التي يُفترض أنها تحمي استمرار الدولة واستقرارها. ولاحظت المنظمة أن من الأسباب التي تدعو إلى القلق البالغ استمرار شبح الفساد عندما تعم حالة اللا شفافية في الممارسات العامة وتحتاج المؤسسات إلى دعم ومساندة، وتعجز الحكومات عن تطبيق الآليات القانونية لمكافحة الفساد. وتقدر الأمم المتحدة حجم الأموال العامة التي تتعرض للنهب والاختلاس بسبب فساد الأنظمة السياسية في العالم تزيد عن (تريليون ونصف التريليون دولار سنوياً)، ويتم تحويل هذه الأموال إلى حسابات شخصية أو ودائع سرية في الخارج.
ما هو تعريف الفساد الإداري؟ وهل هو موجود لدينا؟ وهل هو محدود أم واسع؟ وما هي درجته أو نسبته؟ وما هي مظاهره وأشكاله؟ وما هو تقييم منظمة الشفافية العالمية للفساد لدينا؟ وما هو الحل الأنجع لمكافحته؟
بداية لابد وأن نعترف بصراحة أننا من البلدان التي وصل الفساد الإداري فيها إلى درجة عالية وفقاُ لمؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تصدره سنوياً منظمة الشفافية العالمية؛ ولكن قبل أن نخوض في غمار ترتيبنا الدولي وفقاً لذلك المؤشر، لابد لنا من أن نعرف ما هو الفساد الإداري؟.
يعرف الفساد الإداري باختصار بأنه (استغلال المنصب العام لخدمة المصالح والمنافع الشخصية).
وقد أصبح هذا الفساد واقعاً ملموساً وموجوداً في كافة مفاصل الحياة في مجمل البلاد العربية، باستثناء بعض الدول الخليجية، وهو قديم وليس حالة مستجدة، ولا هو بالحالة الطارئة، ولا هو بالحالة التي تتفرد فيها هذه الدول التي ينخر جسدها الفساد من القمة حتى القاعدة، عن غيرها من دول العالم، كما أن الجهود المبذولة لمكافحته ومحاصرته قديمة أيضاً، وإن كانت في حاضرنا أكثر جدية من ذي قبل، إلا أن حصيلتها لا تحظى برضا المجتمع بمختلف مؤسساته وشرائحه.
وإذا ما التمسنا العذر لبعض الدول العربية التي تدور في بلدانها رحى حروب أهلية واضطرابات وعدم استقرار واحتلال وتدخلات أجنبية وإقليمية كالعراق واليمن والسودان والصومال، فما هو العذر الذي يمكن أن نلتمسه لدول عربية مستقرة كمصر وسورية وليبيا والجزائر والمغرب؟!
وما يهمنا هنا إلقاء الضوء على بلدنا سورية حول أسباب الفساد الذي ينخر جسدها منذ ما يزيد على أربعين سنة دون إيجاد العلاج الناجع لوقفه أو استئصاله، وهذا لا يكون إلا إذا وضعنا الأصبع على الجرح، والنقاط فوق الحروف بشجاعة ونقد ذاتي بناء، ونتحمل كل التبعات بلا غضاضة أو تبرم أو تهرب أو اتهام!!
لنعترف بداية أن الفساد في سورية ليس حكراً على صغار الموظفين في الإدارات والمؤسسات الإنتاجية والإنشائية والخدمية المختلفة في المركز والأطراف، وإنما يشاركهم فيه كبار الموظفين الحكوميين أيضاً.
وغالباً ما تتم صفقات الفساد إما بشكل مباشر ( على عينك يا تاجر) أو عن طريق ما يعرف بالمفاتيح ( فلان مفتاح لفلان، ولفلان علاقة بوزارة ما، أو مجلس بلدي ما، أو السجلات العقارية، أو المالية، أو القضاء، أو الجمارك، أو الشرطة، أو المصارف، وهكذا..) دون أن يكون للمسؤول ظهور شخصي كطرف مفاوض، وهذا الأسلوب الذي يتصف بالذكاء يوفر للمسؤول الحكومي الحماية ويحول دون تعرضه للمساءلة لعدم توفر أدلة تدينه.
الصحافة الرسمية والخاصة (النادرة) في سورية – على سبيل المثال – راحت بين الحين والآخر تنشر بعض القرارات الصادرة عن رئاسة مجلس الوزراء أو عن وزارة المالية والجهات المختصة بصرف فاسدين عن أعمالهم لأسباب تمس النزاهة، وكذلك الحجز على أموال فلان وفلان وتقديمه للقضاء بتهمة اختلاس المال العام… وهذا يدل على أن الفساد مازال موجوداً، وأن محاربته ومكافحته قائمة ومستمرة، ولكن بخطىً بطيئة لا ترقى إلى مستوى وحجم الفساد وانتشاره الواسع.
ولعل من أول مظاهر الفساد إسناد الأمر إلى غير أهله، أي عدم اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، وتفضيل الأهل والأقارب ودافعي المعلوم والمقربين على أصحاب الخبرة والاختصاص، وما ينجم عن ذلك من سوء الإدارة التي هي أصل كل علة، وهي السبب في تراجع قطار التنمية إلى الوراء، ويقول أحد الباحثين في معرض حديثه عن أسباب تراجع معدلات النمو والتنمية والخسارات الكبيرة التي تتعرض لها بعض المنشآت الاقتصادية في سورية (فتش عن الإدارة)؛ فعندما تكون الإدارة فاسدة تكون النتائج سلبية، وتنعكس على المنشأة بشكل خاص وعلى البلد بشكل عام والعكس صحيح.
ويتخذ الفساد في سورية أشكالاً متعددة متفق عليها بين كافة السوريين، منها:
1– استغلال المنصب العام.
2 – الاعتداء على المال العام.
3 – التهرب الضريبي والجمركي.
4 – تهريب الأموال.
5 – الرشاوى بكافة أشكالها…
وبحسب التقرير الذي أصدرته منظمة الشفافية العالمية لعام 2009م؛ احتلت سورية المرتبة (126) من أصل (180) دولة في الترتيب العام للدول (حسب درجات النزاهة)، ذلك التقرير الذي يتم إعداده سنوياً بناء على استطلاعات رأي لرجال أعمال وخبراء مستقلين تحدثوا عن فساد عايشوه في شركات وإدارات حكومية في البلدان المعنية، ومن خلال مؤشر مدركات الفساد لـ 180 دولة، حيث تمنح درجات من صفر إلى عشرة (على أساس أن الصفر يعني وجود فساد مطلق والعشرة تعني نزاهة مطلقة)، ويرتكز الترتيب على بيانات ومعلومات من خبراء دوليين وقادة أعمال في عشر مؤسسات مستقلة من بينها البنك الدولي ووحدة ايكونومست للمعلومات والمنتدى الاقتصادي العالمي.
هذا، ويتطلب القضاء على الفساد في سورية وجود رقابة قوية من خلال مؤسسات إنفاذ القانون كمديريات الرقابة الموجودة في كافة مؤسسات الدولة والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، وكذلك (مجلس شعب حقيقي منتخب عبر صناديق اقتراع شفافة ونزيهة، وتحت رقابة دولية محايدة، ويشرف على العملية الانتخابية ويديرها القضاء، بعيداً عن تدخلات الحزب الحاكم والأمن ووزارة الداخلية)، ووسائل الإعلام المستقلة منها والعامة، ووجود قضاء نزيه، إضافة إلى وجود منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني المستقلة والنشطة.
ولقد برزت قضية مكافحة الفساد والحرب عليه، وتفكيك شبكاته وخلاياه، كأولوية قصوى في السياسة السورية في الآونة الأخيرة، كما بينها خطاب القسم والخطابات اللاحقة للسيد الرئيس بشار الأسد. ومما جاء في خطاب القسم للسيد الرئيس لولاية دستورية جديدة في 17 تموز عام 2007م: (… والحديث عن التطوير الإداري، يقودنا إلى الحديث عن الفساد، الذي يعتبر محط اهتمام الناس في بلدنا، لتأثيره المباشر وغير المباشر على الحياة الاجتماعية، ولتحوله إلى معوق للإصلاح، وعلى الرغم مما يثار عن حجمه وأبعاده، وعلى تباين الآراء في هذا الشأن، وعلى الرغم من الجهود المبذولة للحد منه ومكافحته.. فإننا مازلنا نحتاج إلى آليات ناجعة لمكافحة الفساد. فالمحاسبة هي آلية مهمة، لكنها ليست كافية، لذلك فان التطوير الإداري، وتوسيع استخدام التقنيات الحديثة، هي آليات مكملة). ويضيف قائلاً: (الحل الفعلي هو كما قلنا… في الإدارة، إن كان لدينا إدارة جادة فعلاً، وكان هناك أتمتة…وآليات للتقييم والاختيار؛ فلا يكفي أن نختار شخصاً لأنه جيد فقط، وبعد فترة نكتشف أنه فاسد، أو أنه يتحول إلى إنسان فاسد. فالتقييم أهم من الاختيار).
إذ أن مكافحة الفساد والانتصار عليه عملية ممكنة، بالقضاء على أسبابه ومبرراته؛ باتباع مبدأ اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، وتطبيق القوانين والأنظمة المرعية على كافة المواطنين دون استثناءات، واتباع قواعد وأساليب التنظيم والإدارة السليمة، ومكافأة الجيد ومعاقبة المسيء، واتباع مبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع، وتحقيق عدالة وتوزيع الأجور، وقبل كل شيء نشر الأخلاق الحميدة في المجتمع ومحاربة الفساد الأخلاقي، فالفساد (كما قال السيد الرئيس) قضية أخلاقية وتربوية بالدرجة الأولى ويجب أن نراها كمجتمع، وليس فقط كدولة وكإدارة وكسجن.
فهل تجد كلماتنا هذه طريقها إلى آذان المسؤولين في سورية ويتقبلونها بصدر مفتوح دون تبرم أو تأفف أو إهمال أو تخوين أو الادعاء بأن الغرض منها التشهير وتحقيق أهداف سياسية؟!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى