الحريري وقفز الحواجز السورية !
راجح الخوري
كل شيء يبدو “ماراتونياً” في هذه الحكومة. اولى حكومات الرئيس سعد الحريري. التكليف كان متكررا وعلى مرحلتين. الاستشارات الاولى كانت نوعا من “سباق الضاحية”، اما الثانية فكانت نوعا من تداول ماراتوني في الحوار الوطني!
لجنة البيان الوزاري تحولت مجمعا لعلوم اللغة والمضامين، والبند السادس كان منبرا عاليا لمخاطبة الناس وحتى لقرع الطبول وللرد عليها بصيحات الغضب. مناقشة البيان الوزاري تحولت نوعا من “الماراتون” الكلامي الذي استغرق ثلاثة ايام واستهلك قدرة الناس على المشاهدة والاستماع.
اما الاستمتاع فمن الماضي.
واذا كان “درب الصليب” الحكومي، قد انهك رئيس الحكومة الشاب الحامل همّين: همّ النجاح تجاوبا مع الواجب الوطني في بداية الطريق وهمّ النجاح وفاءً لعهد ذاتي وسيكولوجي مكتوب بالدم، فان الشهور الستة التي استغرقتها عملية استيلاد الحكومة كانت “معمودية السياسة” في اعقد صورها وتناقضاتها. وما تعلّمه سعد الحريري في ستة شهور هو تقريبا خلاصة ستين عاما من قاموس السياسة اللبنانية بتناقضاتها وتبدلاتها و”اوامر اليوم” الهابطة عليها من قريب او بعيد.
واذا كان كل هذا قد جعل الحريري يلوذ بالصبر والصمت والمثابرة وطول الاناة، وخصوصا امام بعض الديباجات النيابية الاخيرة المكتوبة بالانياب، فان حصيلة الثقة لم تخرج عن الحسبان، فاذا بكلمة “ثقة” وهي من ثلاثة احرف، تصبح طابشة في ميزان تجمعت في كفته الاخرى حصيلة طوفان من الحكي استمر ثلاثة ايام فيا للعجب!
ولكن ابتسم، انت في البرلمان، وليس على الكلام جمارك ورسوم. وكان لا بد في النهاية، قبل الوقوف لتقبل التهنئة، من ان يقول رئيس الحكومة ما قال: “عافاكم الله. هذه الحكومة لادارة الشأن العام وليست لادارة الخلافات السياسية.
ودعونا نضع في الاهداف ان الانتماء المتوازن يجب ان يقترن بالانماء المتوازن. ولتكن حكومة الوفاق بوابة التوفيق الوطني. وان بيان الحكومة لم يكن لائحة وعود فحسب، انه عهد على تنفيذ برنامج عمل متضامن هدفه الاساسي هموم الناس، ولا نملك سوى خيار واحد هو السعي الدؤوب لتحقيق النجاح”.
مساء اول من امس، لم يعد رئيس الحكومة الى منزله لينام على حرير 121 صوتا اعطوا الحكومة الثقة، وهو رقم لم يُتحْ لحكومات والده الشهيد.
بعض الارقام تمنعك من النوم وتشعل فيك الحوافز المستريحة وتطلق عجلة التحدي. اذاً، حكومة “الانماء والتطوير” مدعوة الى العمل، وليس الا الى العمل، الذي تعمد الحريري دائما القول انه يتوق الى الانخراط فيه، والناس يراقبون لا النواب.
ولأنك في لبنان لا يكفي ان تعمل في الداخل، عليك ان تعمل ايضا في الخارج وراء الحدود في امكنة كثيرة، وخصوصا عند الاشقاء الذين لحظ البيان الوزاري، بضوء اخضر من الحريري كما قيل، الاشارة اليهم والى “العلاقات الاخوية” معهم.
عليك ان تعمل في سوريا، التي يبدو انها في مسالة تشكيل الحكومة، اضطلعت مجددا بالدور الذي تبرع فيه في كل القضايا الكبيرة والصغيرة، اي ان تكون العقدة وان تكون الحل تماما كما قال هنري كيسنجر يوما.
يعرف سعد الحريري الذاهب الى سوريا، بعد مرحلة من العداء والجفاء وما اليهما، ان ثقة الـ 121 نائبا تحمل في بعض مضامينها السياسية بصمات دمشقية. سوريا تعرف هذا ايضا، لكنها لا تريد على ما يبدو ان يهبط سعد الحريري فيها رئيسا للحكومة مدججا بهذه الثقة الكبيرة، وهو الذي دأب على تكرار القول ان المحكمة الدولية شيء والعلاقات اللبنانية – السورية شيء آخر، وانه اذا كانت الحقيقة متروكة لهذه المحكمة، ولن نتدخل في امورها، فان واجب رئيس الحكومة في لبنان ان يسعى مخلصا الى ترتيب العلاقات مع دمشق على قواعد الاخوة، وهو بهذا يتعمد ان يفصل القانوني عن السياسي.
في دمشق قد يكون هناك رغبة في الفصل بين القانوني والسياسي كما يقول البعض في بيروت، وذلك في سياق تفسير دوافع اثارة موضوع الاستنابات القضائية الصادرة عن القضاء السوري في حق عدد من السياسيين اللبنانيين والرموز القضائية والرسمية والامنية والاعلامية، وكل هؤلاء من المقربين من الحريري. يأتي الامر متصلا بخلفية عمل التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تخلله من شهود وشهادات.
اثارة موضوع الاستنابات عشية زيارة الحريري لدمشق، اثارت عاصفة من الشكوك والمحاذير في بيروت، لانه كان يمكن تأجيل الموضوع الى ما بعد الزيارة. ويقول البعض ان هذا التوقيت له اهدافه، وان يكن هناك من يقول ان سوريا تفصل بين السياسي في استقبالها للحريري بترحيب يتكرر علنا، والاستنابات في حق مقربين منه، بما يعني ضمنا انها لا تريد لزيارته مهما قيل، ان تبدو كأنها تأتي في “سياق متصل “بحقبة الاعوام الخمسة الاخيرة على طريقة الحساب”… له ما قبله”!
وهناك من يقول ان موضوع الاستنابات قد يستهلك اهمية الزيارة بمعنى ان تجاوز هذه الاستنابات عبر المخارج القانونية طبعا، وبعد المصافحة ذات المغزى السياسي والانساني العميق بين الرئيسين بشار حافظ الاسد وسعد رفيق الحريري، سيحول دون التطرق الى ارساء قواعد موضوعية للعلاقات الاخوية قد يثيرها الحريري بحثا عن اسس للتفاهم بين البلدين الشقيقين على تطبيق قرارات الحوار الوطني في لبنان في شأن ترسيم الحدود وازالة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وضبطه في داخلها، اضافة الى قضية المفقودين وتفعيل العلاقات الديبلوماسية بين البلدين.
وثمة من يرى في بيروت ان لموضوع الاستنابات بعدا سياسياً اكثر منه قضائيا في النهاية. فعندما يلتقي الاسد الحريري يجب ان تكون المساواة قائمة في كل شيء تقريبا. المسؤولية النسبية طبعا بين رئيس دولة ورئيس حكومة وكذلك بين من وضع الحقيقة في عهدة المحكمة الدولية، ومن يضع الاستنابات في عهدة قضاء يدقق في تحقيقات هذه المحكمة!
تشكيل حكومة “الانماء والتطوير” كان “ماراتون” الحريري السياسي، الذي عليه الآن السعي الى قفز الحواجز في دمشق.
النهار