صفحات الحوار

حوار صفحات سورية مع الروائية السورية روزا ياسين حسن٭

null

أجرى الحوار حسين الشيخ
يندر أن نجد كتابة سورية تقترب من السياسة، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، ولا تتعرض لتجربة الاعتقال السياسي. وبالاقتباس من الكاتبة المصرية فريدة النقاش: لقد أصبحت تجربة الاعتقال جزءاً من الوجدان الوطني السوري العام
.

الروائية السورية روزا ياسين حسن لا تنتمي إلى الرعيل الذي شهد حملات اعتقال مكثفة، ولم تجرّب الاعتقال، لكنها قررت الذهاب إليه مختارة كما تصرّح بحديثها عن كتابها “نيغاتيف ـ من ذاكرة المعتقلات السياسيات”، وهي أيضاً تقود معها القارئ في تلك الرحلة المؤلمة، عبر تجربة ما يقارب الخمسين امرأة ممن عانين الأسر في المعتقلات السورية. “كان من الممكن أن يستمر العمل بهذا الكتاب لسنوات أخرى! ذلك أن عدد المعتقلات، اللواتي رحت أكتشفهن كل يوم، كان يزداد ويزداد! هذا ما جعلني أضطر إلى حصر العدد وإلا فلن ينتهي الكتاب. وبعد نشر دراسة على هذه الرواية في صفحات سورية، تلقى الموقع عشرات الرسائل تسأل عن الكاتبة وعن الرواية، قررنا اجراء هذا الحوار مع الكاتبة والروائية روزا حسن، وكان هذا الحوار عبر الأيميل، وسيبدأ موقعنا بنشر هذه الرواية على حلقات ابتداء من الأثنين القادم، بعد أن حصلنا على موافقة الكاتبة على ذلك، واليكم الحوار

– روزا ياسين حسن، حين نشرت صفحات سورية دراسة عن روايتك “نيغاتيف”، توالت العديد من الاستفسارات إلى الموقع تسأل عن الكاتبة، أتمنى أن تقدمي نفسك لقراء ومتابعي صفحات سورية؟

أنا كاتبة سورية ولدت في أواسط السبعينيات، أحب أن أحوّل الحياة إلى نص لغوي وأعيش فيه، خصوصاً أني أنتمي إلى جيل أجبر على العيش على هامش الفاعلية، وزجّ في واقع قطيعي أقصي عن الفردانية والإبداع. أكتب الرواية بالدرجة الأولى وأحبها، ثم أحاول أن أعبّر عن وجهات نظري عبر كتابات أخرى.

– كيف أتت فكرة هذه الرواية، الرواية التي تمس جانباً محظوراً في حياتنا، وترصد لحياة معتقلات منسيات؟ الجرأة التي أقدمت عليها تشكل علامة فارقة، شجاعة أمام الأفق المسدود والمحكوم بغياب الحريات والمؤسسات الثقافية والرعاية المطلوبة كحد أدنى لنشر الكتاب في سوريا. وتكمن أهمية هذه الجرأة في حديثها عن واقع ملموس، وتشير بوضوح صارخ إلى البيئة التي تنتمي إليها؟

لست أول من كتب عن هذا، هناك من سبقني بالتأكيد، ولن أدّعي أني لم أفكر بتبعات العمل، لكن رغبتي كانت هي المنتصرة، فالمشكلة أن رغباتي هي التي تقودني دوماً. رغبتي الجامحة في الحديث عن أولئك النساء، ورغبتي في إجهار حكاياتهن المنسية والمغيبة والمخبأة داخل ملابسهن وحاراتهن وأهاليهن وواقعهن عموماً. أتت فكرة الرواية أولاً من معرفتي الشخصية ببعضهن، فنحن بشكل أو بآخر ننتمي إلى أوساط اجتماعية متقاطعة، والصداقة الحميمة التي جمعتني مع إحداهن، ثم صارت الفكرة تكبر وابتعدت عن الجانب الشخصي ابتعاد الروائي عن الأصل الواقعي لشخصياته. الأمر الأهم كان رغبتي في تدوين شيء من المسكوت عنه، من المغيّب والموؤود، فتجربة الاعتقال تجربة جديرة بأن تدوّن وإلا ستذهب أدراج الرياح، ولن يكون التدوين بعمل واحد مني بالتأكيد، فكل عمل هو أشبه بومضة نور وسط الظلمة، ولن يتضح المشهد المعتم إلا بتوالي ومضات النور المتلاحقة. وكما قلت لك أنا كائن كتابي أسعى إلى تدوين الشفاهي، وسطوة القصص التي رحت أسمعها، ثم غواية عمقها وتأثيرها، هي التي أجبرتني على كتابتها.

– كيف لامست اعترافات بطلات رواياتك التي تحمل الكثير من الحزن والأسى، كيف استطعت اقناعهن بفتح جانب مؤلم من أرواحهن، كيف استطعت دفعهن الى هذا البوح، هل هي علاقة شخصية تماهيت فيها مع بطلاتك، لماذا اخترت هذا الجانب الخطر؟

الأهم في هذه التجربة أني انتهيت منها وقد اكتسبت عدداً من الصديقات الرائعات من المعتقلات. وأزعم أن ما يميز العمل بالدرجة الأولى، إن كان سلباً أو إيجاباً، أني لا أنتمي إلى جيلهن، وهذا ساهم نوعاً ما في إضفاء قليل من الحيادية الموجبة برأيي في الكتابة، كما ساهم في تأريخ لرأي امرأة من جيلي في تجارب نساء سبقننا وخضن تجاربهن معتقدات أنهن يمهدن (الدرب!!) للأجيال اللاحقة فدفعن الأثمان الباهظة. وبالدرجة الثانية أنا كاتبة، وهذا أيضاً مهم في عملية التدوين، أي ادعاء القدرة على التعاطي مع النص باعتباره لعبة لغوية وليس ميداناً لتصفية الحسابات، ولا منشوراً حزبياً ولا تقريراً سياسياً أيديولوجياً، فأنا لم أكن وفية لتجربة المعتقلات بقدر ما كنت وفية للكتابة بمعناها المطلق. حتى أنك قد تجد قصة أو قصتين، وجدتهما دالتين وتحفران عميقاً، في الكتاب لمعتقلة من المعتقلات. هذا لا يعني بحال أن تجربتها تقتصر على هاتين القصتين، لكن إخراج كتاب مؤثر فاعل في روح القارئ وقادر على التأريخ الوجداني، أي كما قلت آنفاً وفياً لفكرة للكتابة، كان هو الحكم في انتقاء هذا الحدث أو هذه القصة دون غيرها وصياغة الشخصية بناء عليها.

كما قلت لك لم تربطني علاقة شخصية بالكثيرات منهن قبل العمل، والكثيرات الكثيرات، ولنقل العشرات منهن، رفضن بصرامة أن يتحدثن إلي، أو يبحن بشيء عن تجاربهن. وتعرضت إلى أكثر من موقف طردتني فيه معتقلة أو قرعتني أخرى.

– كيف تعيش بطلاتك اليوم، ماهو التأثير الغامق على أرواحهن بعد هذه التجارب، ماهو رأيهن بما كتبت خصوصاً وأنك توثقين لفترة مهمة في تاريخ سورية؟

لا أعرف حقيقة ما هو تأثير كتابتي عليهن، هذا سؤال ينبغي أن يجبن هنّ عليه. أما كيف يعشن اليوم فالأمر متفاوت من امرأة إلى أخرى حسب مراقبتي للأمر، منهن من أكملت حياتها بالشكل الأنسب الذي رأته، ومنهن من كان الأمر صعباً عليها. الحديث عن الحياة بعد الاعتقال تستوجب كتاباً أو رواية أخرى، إن لم يكن روايات، وسيكتبها غيري بالتأكيد. وهناك من كتبها بشكل أو بآخر مثل رواية مصطفى خليفة، التي صدرت مؤخراً عن دار الآداب، وهي بعنوان: القوقعة. لقد نجح خليفة حسبما أرى في رصد الضياع والتيه الذي يعاني منه المعتقل بعد إطلاق سراحه.

– الرواية التوثيقية تسقط في مطب التقريرية، كيف استطعت التغلب على هذا المطب ولم تسقطي في التقريرية، كيف فصلت بين الرواي والمؤرخ في روحك؟

كان جهدي الأكبر منصب على هذه الناحية: أن أتفادى التقريرية، ولا أعرف إن كنت قد نجحت أم لا. كان اقتناعي بأن التقريرية ستسقط عملي في مطب الآنية، فيما ستحمله الرواية إلى مصاف الأدب حيث يبقى ما بقي قراؤه. كذلك الرواية، باعتبارها سفراً للتخييل كما أراها، ستحقن ما حدث بنكهة ما لم يحدث، أي ستحمل تلك الحكايات الحقيقة حدّ الوجع إلى مرتبة التخييل فتضيع الحقيقة (كما أراها بالطبع)، فكان الحل بالنسبة لي أن أقوم بجمع الاثنتين معاً فكانت: رواية توثيقية. وإذا كنت قد نجحت في الهروب من التقريرية فلأني ربما لم أكن سياسية يوماً بل روائية، لذلك نظرت إلى التجربة من زاوية الروائي، وكانت المعتقلات بالنسبة لي شخصيات روائية ينبغي الغوص إلى دواخلهن، ورصد التفاصيل المحيطة بهن، تلك التفاصيل التي تشكل جمال الصنعة الروائية. حقيقة ما كان يعنيني هو دواخلهن كنساء كما قلت آنفاً ولم أكن معنية البتة بآرائهن الأيديولوجية ولا انتماءاتهن ولا خطاباتهن، على الرغم من أن منهن من حاولت أن تحرف الكتابة بالاتجاه هذا. بناء على كل ذلك حاولت أن أدوّر الحدث من الداخل إلى الخارج، يعني أن أنقل ألسنة الرواة، فراح السرد يتنوع بلسان الشخصية، أي بألسنة حوالي ست عشرة معتقلة، إلى لسان راوٍ كلي المعرفة عالم بالأشياء. ثم فتّت الزمان وداخلته، ولأسباب أمنية بالدرجة الأولى عوّمت الأمكنة، ولكني لم أعوّم تفاصيلها أبداً. كنت أعتقد أني بكل ذلك أدوّر الواقعة (الواقعية) وأحيطها روائياً وبالتالي أبعدها عن الخطابية والتقريرية.

– يقول بعض الذين ينتقدون هذه التجربة بأن تغطيتك للمعتقلات كانت مقتصرة على بعض التنظيمات السياسية دون غيرها، ولم تغطي روايتك كل القصص الأخرى التي لا تقل ألما عن قصص بطلات روايتك؟

صحيح، هذا الأمر الذي اعترفت به في مقدمة الرواية، حاولت أن أحصل على قصص الإسلاميات، مثلاً، بطرق ملتوية وغريبة لكني لم أفلح على طول الخط. ذهبت إليهن متنكرة بزي إسلامي، كذبت لأكسب ثقتهن، حاولت أن أتقرب من أشخاص يعرفونهن.. عبثاً. أعتقد أن الخوف الذي مازال معششاً في دواخلهن، وبالتأكيد هناك تبرير قوي له، هو ما منعهن من البوح. وربما كانت هناك أسباب أخرى، شخصية أو اجتماعية أو عقائدية، منعت معتقلات أخريات. إحدى المعتقلات (الشباطيات) شتمتني متهمة إياي بأني أثير بلبلة في وقت عصيب، وأخرى (يسارية) اتهمتني بامتهان تجربتهن لأتاجر بها، على الرغم من أني وضّحت لها طويلاً بأني سأكتب أسماء المعتقلات الصريحة وبالتالي سيكن هن بطلات التجربة ولست أنا. بالمقابل هناك فتيات مثل لينا.و وهند.ق وناهد.ب وضحى.ع وحسيبة.ع بذلن كل ما في وسعهن لمساعدتي، سواء بإعطائي رسائلهن أو يومياتهن أو قصصهن أو صورهن وما إلى ذلك. وكنت قد وجهت لهن الشكر في بداية الرواية.

– أحدى الرسائل التي وصلت لصفحات سورية تتساءل لماذا لا يتم ذكر أسماء الجلادين أيضاً، مادمت قد ذكرت أسماء المعتقلات؟

الكثير من الجلادين المذكورين في نيغاتيف ما زالوا حتى اللحظة على رأس عملهم، وبالتالي كان شرط الكثيرات من الصبايا هو عدم ذكر أسماء الجلادين وأعتقد لسببين متناقضين: الأول أن منهم من كان في غاية الإنسانية والتعاطف مع المعتقلات، وقد يؤدي ذكر اسمه الصريح إلى جرّ الويلات عليه وهو في غنى عنها، أما السبب الثاني فلربما كان بعض الخوف ممن كانوا جلادين حقيقيين في الداخل وما زال لهم الصولة والجولة، أو لنقل أن عدم ذكر أسماء هؤلاء محاولة لدرء بعض الضغوطات عن المعتقلات.

– سألتِ العديد من الروائيين السوريين الشباب السؤال التالي: الرواية الشابة، مصطلح شائك لا يزال حتى اليوم في حاجة إلى تحديد. هل يرتبط المصطلح بأعمار الكاتبات والكتّاب الشباب، أم يعكس فتوّة الإنتاجات الخلاّقة، وحداثتها الفنية واللغوية على مستوى الشكل والموضوع، مهما تكن أعمار مؤلّفيها؟

نود أن نسألك أنت هذا السؤال ونرغب بتوضيح أكثر منك. حول رأيك في الرواية السورية الشابة وهل هناك بالفعل رواية سورية شابة، والمشكلات الخاصة التي تعانين منها، والمرجعيات الفكرية والأدبية التي تشكل خلفية إنتاجك، والموضوعات الأثيرة على قلبك؟

كنت قد كتبت قبلاً عن هذه المسألة أكثر من مرة، لم أصل إلى رأي نهائي في ما يسمى: الرواية الشابة، وأفضل أن أسميها: الرواية الجديدة، لكني أعتقد أنها رهينة اللغة أكثر مما هي رهينة العمر، أي تقترب الرواية اليوم من الجدة بمقدار ما تطرح، على مستوى الشكل والمعنى، من جديد ومبتكر، وبمقدار جدية محاولاتها للتخلص من الإرث القديم.

ومشكلاتي ككاتبة شابة تشابه مشكلات بعض الكتاب والكاتبات الشباب في سوريا، أولئك الخارجين عن المؤسسة الرسمية، من صعوبات النشر والرقابة المهيمنة حد الاختناق والأوضاع الثقافية والاقتصادية المتردية وما إلى ذلك. أعتقد أننا اليوم بتنا أشد اقتناعاً بالخلاص الفردي، لم يعد ما يسمى بالخلاص الجماعي، الذي كلّت آذاننا من سماع شعاراته، يؤثر فينا. الكتابة أضحت عبارة عن مشاريع فردية بحتة، حتى أنه من الصعب أن تحدد سمة أو سمات موصوفة للجيل الكتابي والإبداعي اليوم. إنه متنوع ومتلون ومختلف، كما قلت إنه جيل فرداني بامتياز. وهناك تجارب نشرت في السنوات الماضية تستحق الوقوف عندها وإعادة النظر إلى هذا الجيل الشاب الذي يفتح آفاقاً جديدة للرواية السورية، وخصوصاً منها الاسماء النسائية التي تحاول أن تغير وجهة النظر المكرسة والتقليلدية للكتابة النسائية، هناك سمر يزبك وعبير إسبر وشهلا العجيلي ومنهل السراج وغيرهن. وأنا على اقتناع أن هذا الجيل سيمهد لزمن الكتابة النسائية (الحقيقية) في سورية.

أما بالنسبة إلى مرجعياتي الثقافية فلربما كانت خاصة قليلاً سأجيب عنها في السؤال الأخير من اللقاء.

– هناك الكثير من الشكوى حول غياب النقد الجدّي المواكب لهذه التجارب الروائية الشابة، هل هذا ما دفعك الى كتابة النقد، لاسيما أن نقدك لامس العديد من التجارب الشابة؟

اللافت للنظر أن التجارب الشابة في الستينيات أو السبعينيات مثلاً كانت تصاحب بحملة إعلامية ثقافية واسعة ومميزة، ولطالما تبنى خيرة الكتاب القدامى تجارب الكتاب الجدد. ربما كان السبب في كون الإبداع السوري كان وقتها ما يزال يخطو على طريق التجديد وبلورة ملامح ومعالم واضحة له. لكن اليوم تعاني الكتابات الشابة من التهميش المبالغ به، ومن قلة الفرص بل وندرتها، ومن الحصار الإعلامي، لكن بالتأكيد ليس هذا ما دفعني إلى كتابة النقد كما سميته، وأنا لا أسميه كذلك، ولنقل ليس هذا ما دفعني إلى كتابة المقالات، بل كانت رغبتي بأن أوصل رأيي الذي ينتمي إلى هذا الجيل، ولنقل أوصل رأي امرأة من نسائه، ذلك الرأي الذي من الصعب أن أوصله كله في الرواية، بالإضافة إلى قناعتي بأن الأدب ليس وليد الصدفة، وأننا نظلمه للغاية إن وضعناه في هذه الخانة، إنه وليد التفكيك بالمعنى اللغوي والثقافي والاجتماعي، ووليد النبش والغوص، ووليد فهم الجمال والثقافة بمعناها الواسع والمتلون، لذلك فأنا أقتنع أن على الروائي أن يكون أول ناقد لعمله، وثانياً عليه أن يبحر في فكرة الكتابة وتقنيات اللغة والدلالات، والأهم عليه أن يغني نصوصه بثقافته المتنوعة، ولا أقصد ثقافة المعلومات بالتأكيد، لأن النصوص الروائية كالصاحب الخوان تفضح ضحالة كاتبها.

– كتبت في احدى مقالاتك: أن نحكي حكاياتنا الخاصة كما لو كانت تخص الآخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكاياتنا الخاصة، كيف استطعت ذلك في مجمل نتاجك؟

الجملة ليست لي بل هي للكاتب التركي أورهان باموك وقالها حين تسلّم جائزة نوبل، وأنا لا أعرف إن نجحت أو سأنجح في ذلك، لكن الأهم باعتقادي أن نحاول فهم الشخصية الروائية كما هي دون أن نحاكمها، أو لنقل لنكن مع الإنسان في مواجهة حكم التاريخ أو المجتمع ولندع شخصياتنا تقودنا، ولنترك شياطين اللغة تقودنا لا نحن من يقودها.. في الرواية ينبغي أن نكون عشاقاً مازوخيين نترك معشوقنا أو معشوقتنا/ الرواية تفعل بنا ما تريد دون تدخل أو اعتراض، وهي بالتأكيد ستقودنا إلى بر الجمال والعشق.

– كيف استطعت التخلص من سطوة الايديولوجيات، ولاسيما أن روايتك الأخيرة هي رواية أيديولوجية بشكل أو بآخر؟

لا أتمنى أن تكون روايتي إيديولوجية البتة، وإن كنت تقصد أنها تدافع عن حق الفرد في الحرية والتعبير وتتحدث عن الآلام التي تقترفها الديكتاتوريات فهذه ليست أيديولوجيا بالمعنى النظري للكلمة. في النهاية لكل كاتب أيديولوجيته الخاصة به، وهذه تكون خارجة من قمع الأيديولوجيات الكبرى التي تحولت من نظريات إلى قواعد متمترسة مغلقة. في نيغاتيف حاولت جاهدة أن أتخلص من ذلك، هناك خلطة أيديولوجية متعددة ومتنوعة للمعتقلات في الرواية (إسلامية ويسارية وقومية…) ومع ذلك حاولت أن أنقل معاناتهن على قدم المساواة وقدر استطاعتي، وكما قلت لك سابقاً لم تكن أحزابهن أو تجاربهن السياسية النضالية أو حتى قناعاتهن ما يعنيني، ما كان يعنيني بحق هو ذلك البريق الذي ما زال يومض في الداخل، وتلك المساحة الشفيفة الممتدة فيهن والتي تسمى الروح.

(حين يَعشق الرجل يؤنث)، ماذا تفعل المرأة حين تعشق؟

لأن العشق لا يمسك مسك اليد فهو مفتوح على الأبستيمولوجيا، على الدلالات والتنظيرات والتعريفات المتوالدة التي لا تنتهي. لكني أرى أن العشق سمة أساسية من سمات الأنوثة، ولنقل الأنثى بالمعنى المطلق دون أن نغفل الفروقات الفردية والاجتماعية والزمانية والمكانية والإيديولوجية وغيرها. إذا فإن الأنوثة تُحَفّز في داخل المرأة حين تعشق، كما تُحفّز الأنثى النائمة في داخل الرجل حين يعشق فتطغى الأنوثة الجوانية على الذكورة لـ يؤنث. ولك أن تتخيل ما الذي من الممكن أن تفعله أنثى حفّزت الأنوثة في داخلها، إنها قادرة على إشعال عالم بكامله.

نقل بلوتارك، وهو كاتب إغريقي معروف، أن كاتونيوس قال يوماً: الإنسان العاشق يسمح لروحه أن العيش في جسد إنسان آخر. قد تبدو الفكرة طوباوية اليوم لكني أراها واقعية بشدة، حين تعشق أي شيء فأنت ستكون مستعداً لوهبه روحك، كأن أعشق رجلاً أو نصاً أو كتاباً، ذلك أن روحي لن تكون سعيدة ما لم تسكن في ذلك الجسد. لم لا يكون العشق دعوة للسعادة!!.

لكن المقولة ذاتها لا تعني أن العشق لحظة انخطاف، على الرغم من أهمية تلك اللحظة القائمة أبداً، بل هو في اكتشاف المحبوب في كل يوم، والقدرة على تجديد فعل الحب، وعلى إعادة إنتاج الجمال الذي تكتنفه علاقة العشق، وإلا راح الصدأ يغلفها حتى يلتهمها كاملاً.

همومك الكتابية متعددة من النقد الى الرواية الى الدراسات النسائية، هل تعتقدين أن الكاتب وخصوصا كاتب الرواية عليه أن يعطي كل هذه المجالات المتسعة؟

بالتأكيد لا، حسبه أن يعطي الرواية روحه كما قلت آنفاً. لكني أشعر أني بحاجة إلى أن أعبر عن مجمل أفكاري بهذه الطريقة. قد يأتي يوم وأكتفي بكتابة الرواية فحسب.. ربما.

– بدأت بكتابة الرواية إثر وفاة والدك بأسبوع تقريباً، والدك بوعلي ياسين القامة السامقة في تاريخ سورية كتب إثر فوزك بجائزة للقصة في يومياته: ” قد حلّ وقت تبديل اللاعبين”، كيف استطعت التخلص من سطوة تركة أب بهذا الحجم والتأثير؟ هل خضعت لهذا الـتأثير، ولاسيما أن بعض دراساتك تخضع لهذا المنطق، أم حاولت اكمال مابدأه، ليتك تكتبين عن علاقتك معه، عن ذكرياتك معه، كان والدك رغم تأثيره الهائل في الثقافة والسياسة حتى على المستوى العربي، مجهول التفاصيل؟

لم أستطع إلى اليوم أن أكتب عن بوعلي على الرغم من مرور ثمانية أعوام على رحيله. شيء له طعم العلقم ووخز الشوك يقف في حلقي كلما هممت بالكتابة، أعتقد أني بحاجة إلى فترة أخرى، لا أعرف مدتها، كي أتخلص شباك ذاكرتي الحزينة والشديدة العاطفية بشأنه. لكني على الرغم من كل ذلك فإني أستطيع القول بأني لم أتخلص أبداً من التركة التي تقول عنها، إنها ملتصقة بروحي، مازالت كلماته وأفكاره إلى اليوم تتصادى في أذني. ولا أعتقد أني مطالبة بالتخلص منها بقدر ما أنا مطالبة بتجاوزها، ليس بالمعنى التراتبي أو القيمي، بل بمعنى إعادة إنتاجها كي تكون خارجة من رحم جيلي ومن مرجل أفكاري وآرائي الخاصة، وكذلك كي لا أكون عبارة عن نسخة مشوهة ومكرورة، بشكل أقل أهمية، من أبي.

أعتقد أنه ليس من السهل أن أنسى أشياء تشربتها يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة، خصوصاً مع رجل مبدئي كبوعلي ولكنه غير متمترس البتة، رجل أبعد ما يكون عن الاستعراضية، ورجل علمني الحب وأن المهم هو إيماني بنفسي أولاً وليس إيمان الآخرين بي لأني أستطيع تغيير إيمان الآخرين بنفسي.

ذلك أن أفكاري بنيت على أفكاره، وأول كتبي التي قرأتها انتقاها هو لي، بداية نقاشاتي معه، وتطورات أفكاري معه أيضاً. هو الذي شكلني بطريقة ما ثقافياً ووجدانياً. وإن كنت اليوم أختلف معه فذلك جزء لا يتجزأ من تركته لأنه اقتنع بالاختلاف، ونادى بعدم السكون ولا السكوت، ودربني قدر استطاعته على إعمال التفكير، ولن يرضى بالتأكيد بأن أكون نسخة ممسوخة عنه. ثم لولا أرضيتي الثقافية التي ساهم هو ببنائها بكل أجزائها ما استطعت أن أبني فوقها بنائي الخاص المختلف.

هذا ما أجيب به الذين يتهمونني اليوم بمخالفة آراء بوعلي، وأعتقد أنه سيكون فخوراً بإجابتي هذه، ويجيبني بابتسامته المحبة.

٭روزا ياسين حسن، من مواليد دمشق 1/12/1974

كاتبة وروائية سورية، خريجة كلية الهندسة المعمارية سنة 1998

عملت كصحفية وكاتبة في عدد من الصحف والمجلات السورية واللبنانية والعربية.

عملت كمديرة لمكتب مجلة عشتروت في دمشق.

أصدرت:

مجموعة قصصية بعنوان: سماء ملوثة بالضوء- دار الكنوز الأدبية- بيروت 2000

رواية بعنوان: أبنوس. فازت بالجائزة الثانية في مسابقة حنا مينة. أصدرتها وزارة الثقافة السورية عام 2004

رواية نيغاتيف ـ من ذاكرة المعتقلات السياسيات”. صدرت عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ـ آذار 2008

فازت في سنة 1992 و1993 بجائزتي القصة القصيرة

ناشطة في مجال العمل الأهلي والجمعيات النسائية

عضوة مؤسسة في جمعية: نساء من أجل الديمقراطية

تعمل حالياً في هيئة تحرير موقع الثرى الإلكتروني، وتنشر في عدد من المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات السورية واللبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى