أي خط أحمر خَطِر تخطّاه رجب طيّب أردوغان ؟
بقلم جهاد الزين – اسطنبول
خلافاً لما يعتقده عدد من السياسيين والمثقفين العرب المؤيدين بل المتحمسين للسياسة التركية، المنفتحة على المشرق العربي وخصوصا سوريا وفلسطين، والمتوازنة في الصراع السعودي الايراني، فان قادة “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في انقرة لا يحبون سماع دعوات انخراطهم في حلف سوري – ايراني – تركي – عراقي.
ينشأ الالتباس في ذهن المؤيدين العرب الجدد للسياسة التركية في السنوات الاخيرة من اعتبارهم ان هذه التوجهات بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان تعني جاهزية تركيا لقيام نوع من حلف مشرقي اكثر مسافة نقدية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين كما أكثر ابتعاداً عن دول أخرى في المنطقة كمصر والسعودية. وهذا بالضبط مكمن سوء الفهم الذي يقع فيه مراقبون ومعلقون ومتابعون عرب، وليس الحكومات المعنية التي تعرف الفارق، سواء من موقع علاقتها الوثيقة المتنامية بل المتطورة مع تركيا، كالحكومة السورية او من موقع علاقتها الطبيعية والعادية مع تركيا كالحكومة المصرية حتى لو كانت النخبة المصرية الحاكمة غير مرتاحة ضمنا الى هذا النوع من تنامي الدور التركي في المنطقة، وتعتبره غير قادر على ايجاد حلول فعالة لعدد من مشكلات هذه المنطقة. لكن هذه النخبة نفسها تبدو أكثر اصراراً على تجاهل المعضلات العميقة لـ”العجز” المصري.
كان من المفيد للمشاركين في ندوة “الفعالية الديبلوماسية الجديدة لتركيا في الشرق الاوسط” التي عقدت طيلة يوم السبت المنصرم في اسطنبول بدعوة وتنظيم من “المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية” (TESEV) بالتعاون مع “مؤسسة فريدريش ايبرت” الالمانية وضمت مجموعة من الخبراء العرب والاتراك وبعضهم بين العرب على صلة بمراكز صنع القرار في بلدانهم… كان من المفيد لنا كمشاركين ان نجد انفسنا وسط هذه “الالتباسات” التي فتحت على مناقشات بين العرب انفسهم كما بين الاتراك ولكن بنسبة اقل لدى الاخيرين، وان كان بعض المشاركين الاتراك انتقدوا بشكل قوي ما اعتبرته احداهن – وهي معلقة سياسية واستاذة جامعية معروفة – “انحراف” الديبلوماسية التركية بقيادة رجب طيب اردوغان نحو التحول الى “ايران” اخرى في المنطقة.
هذه النقاشات دفعتني الى التفكير في سؤال ربما للمرة الاولى كمراقب متابع ومؤيد (بل ومراهن على) توجهات السياسة التركية منذ تسعينات القرن المنصرم، كسياسة تملك قدرا جديا من القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة رغم انخراطها الاطلسي ورهانها الاوروبي وتستند الى بنية حديثة في الاقتصاد تجعلها “نمرا” اقتصاديا اقليميا مهما في محيطها الاوروبي والآسيوي والقوقازي، كما الى نظام ديموقراطي برلماني صاعد في محاولة تجاوزه للعديد من معوقاته الجادة.
هذا السؤال هو:
ماذا لو كان صحيحا ما يقوله المتضررون في اسرائيل وواشنطن وبعض العواصم الاوروبية من ان رجب طيب اردوغان – ومعه “حزب العدالة والتنمية” بما فيه رئيس الجمهورية عبدالله غول – قد ذهب بعيدا في التحولات الديبلوماسية في الشرق الاوسط بما يجعله متخطيا لخطوط حمر سيظهر ان تركيا ليست قادرة ولا يجب اصلا ان تتخطاها حتى لا يؤدي الامر الى انعكاسات تهدد “التجربة” الجديدة برمتها بالانهيار؟
اطرح السؤال هنا من موقع الحرص الذي لدى كثيرين في العالم العربي على استمرار هذه التوجهات التركية كنموذج تحديثي ديموقراطي وكدور ديبلوماسي فاعل ومتوازن (ومتزن) في صراعات المنطقة واخطرها الحساسية السنية – الشيعية التي يؤطرها التنافس السعودي – الايراني. وهذه كلها عناصر “قوة ناعمة” تركية لا يهددها كما قالت باحثة تركية اخرى سوى ظهور تركيا في موقع عاجز عن حل مشاكلها الداخلية والمتعلقة تحديدا بمدى المصداقية الديموقراطية للنظام.
اذاً، السؤال: هل تجاوز رجب طيب أردوغان الخطوط الحمر بما يهدد تجربته كلها في المجال الديبلوماسي او يحملها ما لا طاقة لها على احتماله؟ هو سؤال مختلف عن منطلقات عدد من التقييمات التي صدرت في اسرائيل وبعض مراكز الابحاث في واشنطن والتي ذهبت بدرجة ليس فقط من التسرع بل حتى من السطحية التي تلامس السخافة – الى القول ان تركيا “غادرت موقعها الغربي” كما كتب بعض معلقي “معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى”.
من باب التكرار التأكيد على وجهة النظر التي تشير الى ان مواقف رجب طيب اردوغان، بما فيها “نظرية” وزير خارجيته الجديد حول “تصفير الازمات” التركية مع المحيط تأتي في زمن تحولات لا تجعلها يتيمة او استثنائية. فالموقف التركي الرافض للسياسة الاسرائيلية المدمرة لفرص السلام يأتي في زمن خطاب الرئيس الاميركي باراك اوباما الرافض لاستمرار سياسة الاستيطان الاسرائيلية وفي زمن ولادة تيار جدي جدا (ولو انه ليس الاكثرية) داخل اوساط اليهود الاميركيين ينتقد سياسة الاستيطان الاسرائيلية من موقع تأييد اسرائيل اي اللوبي الجديد المعروف باسم “جاي ستريت” وفي زمن صدور تقرير غولدستون عن مجلس حقوق الانسان العالمي الذي ادان الممارسات الاسرائيلية في حرب غزة، كما في زمن الاقتراح السويدي من موقع رئاسة الاتحاد الاوروبي لجعل القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية والذي تبنى منه الاتحاد الاوروبي صيغة غير مباشرة، ولكن جريئة، تؤيد تقسيم القدس عاصمة للدولتين… اذاً، ظاهرة سياسة رجب طيب أردوغان تأتي في سياق كهذا، مما يعني في سياق تحولات سياسية دولية ضد اسرائيل تجعلها “معزولة اخلاقيا” على الاقل في العالم كما يعترف الاسرائيليون انفسهم.
كما ان تركيا المنفتحة على سوريا، فهي تنفتح عليها في سياق تعزيز التوجه السوري نحو تسوية الصراع العربي – الاسرائيلي وليس في سياق تحول راديكالي للموقف السوري… فالقيادة السورية الحالية – خلافا لظروف قيادة الرئيس حافظ الاسد – اتخذت القرار الاستراتيجي بانجاز عملية السلام مع اسرائيل على قاعدة الحد الادنى الذي لا يمكن التنازل عنه من زاوية المصالح الوطنية السورية وهو تحرير كامل الجولان مقابل تحمل المسؤولية الكاملة لكلفة هذا السلام.
ينطبق الامر نفسه، ولو في ظروف اكثر تعقيدا، على علاقة تركيا بحركة “حماس” والمسؤولية في عدم تعزيز الجانب التسووي لدى “حماس”، على الاقل منذ فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، تتحملها السياسة الاميركية ورفضها المتواصل أي حوار مع هذه الحركة.
اذاً، السؤال لا يعيد النظر بهذه المنطلقات، اقصد سؤال ما اذا كان رجب طيب أردوغان قد تخطى الخطوط الحمر؟ وانما بـ”مقاييس” لم تأخذ بعد الحجم من الاهمية الذي تستحقه سواء في مجال المعلومات او التحليل.
فمثلا – وهذا ليس مجرد مثال – لم نفهم بعد ظروف عدم لقاء رئيس الوزراء التركي بأي من قادة اليهود الاميركيين خلال زيارته لواشنطن الاسبوع الماضي. وحاولت ان افهم في اسطنبول هل عدم حصول اللقاء مع هذه البيئة التقليدية الاساسية – اعني اليهود الاميركيين – في التحالف التركي – الاميركي منذ الخمسينات من القرن الماضي، هو نتيجة عدم رغبة اردوغان، كما اشيع في بعض وسائل الاعلام، ام نتيجة عدم رغبة قيادات الجماعة اليهودية الاميركية؟ لم احصل على الجواب “الشافي” خلال وجودي في ندوة اسطنبول وفيها اشخاص مطلعون عادة على اجواء كهذه. لذلك السؤال هنا: هل اهتزت الآن احدى ركائز رئيسية في السياسة التركية وهي العلاقة الوثيقة مع اليهود الاميركيين، بل مع “اللوبي الاسرائيلي” والاميركي نفسه منذ دخول تركيا في عضوية الحلف الاطلسي المبكرة في زمن “الحرب الباردة” الاميركية – السوفياتية؟
هل يشكل هذا الاهتزاز في واشنطن “مقياسا” جديا لـ”خط احمر” فعلي يمكن ان تظهر نتائجه لاحقا على دور اردوغان نفسه؟ هل كان بالامكان لأردوغان ان يفصل بين مواقفه الضاغطة على اسرائيل – وهذا امر له صداه بل مداه في البيت الابيض والحزب الديموقراطي والجماعات اليهودية نفسها الآن – وبين قطيعة ما مع البيئة اليهودية؟ ومن اين اتت القطيعة وما هي حدودها، هل انطلاقا من حسابات “حزب العدالة” عن تضاؤل الحاجة الى “اللوبي اليهودي” مع تحسن العلاقات التركية اليونانية ونسبيا التركية الارمينية؟ ام ان المسؤولية لا يتحملها أردوغان الذي ينتمي الى بلد ليست لديه عقدة اضطهاد تاريخية لليهود؟
وهل يمكن المجازفة بالقول هنا، ان مسألة – صامتة كهذه – هي اكثر حساسية حاليا من حتى القرار الذي اتخذته المحكمة العليا بالغاء ترخيص الحزب الكردي الرئيسي في البرلمان… والذي على الارجح، اي قرار الالغاء، لن يمس “المنطقة” الخطرة من علاقة “حزب العدالة” بالمؤسسة العسكرية؟…
النهار