النجاحات التركية في العالم العربي: جاء وقت التفكير لا التصفيق
جهاد الزين
لأنه زمن إنجازات تركية متلاحقة في الاقتصاد والديبلوماسية، ربما ينبغي الآن اكثر من اي وقت سابق او لاحق الانكباب على التفكير والدراسة والنقاش حول معوقات “القوة الناعمة” التركية، بل حول محدودية قدراتها… حتى لا تحصل موجة مبالغات مؤذية سواء لصانع القرار التركي او للدور التركي المتصاعد أو إذا وقعت في مجال ما ديبلوماسي مع اوروبا او في الشرق الاوسط او على المستوى الاقتصادي صدمة سلبية مفاجئة.
فالتجربة التركية في النتيجة تعنينا في العالم العربي من زاوية جوهرية يجب عدم نسيانها في اي لحظة هي امكان تقديم نموذج ريادي للمصالحة بين الاسلام والحداثة… هذه هي “المنطقة” الفكرية – السياسية – الثقافية المفتقدة في العالم الاسلامي، ولهذا فان هذا المعنى يتقدم بل يستوعب حتما المعاني الاخرى التي نهلل لها حاليا – وهذا مشروع – في الدور التركي كالموقف المتقدم من دعم عاقل وشجاع في القضية الفلسطينية، او احتضان وتطوير علاقة سياسية – اقتصادية مع سوريا تشجعها على الانخراط في العملية التسووية… بل يمكن القول ان هذه المواقف الفعالة من فلسطين وسوريا هي عناصر تخدم النموذج الجوهري الاساسي المفتقد والمنشود في المصالحة بين الاسلام والحداثة… والمسألة هنا تتخطى تركيا، فلو كان هناك في الظرف الراهن امكان لريادية تحديثية تأتينا من مكان آخر غير تركيا في العالم المسلم لما ترددت النخب العربية والمسلمة في التوجه نحوه. والمعادلة المتعلقة بتفاوت مستويات الاهمية في “معاني” الدور التركي ترتبط بالعالم العربي نفسه. اذ علينا ان نتذكر دائما ان المشروع الاصلاحي العربي الفعلي يريد الانتهاء من الصراع العربي – الاسرائيلي (على قاعدة تحقيق المطالب الوطنية الفلسطينية والسورية بالانسحاب الاسرائيلي) لكي يزيل عائقا، بل العائق الاساسي امام مشروع التحديث بمعنييه الاقتصادي والديموقراطي، وليس العكس، اي ليس لاجل الصراع مع اسرائيل نريد التحديث.
من هنا القلق على النموذج التركي الذي يجب دائما ان نتذكر ايضا انه نموذج صاعد، اي غير مكتمل، اذا لم اقل انه رغم كل نجاحاته الباهرة ما زال نموذجا مهددا، سواء من حيث مدى متانته الديموقراطية، او مدى تنافسيته الاقتصادية قياسا بالاقتصادات العظمى في العالم.
بين الاتجاهات البحثية التي تدفع الى التفاؤل بوعي جزء من النخبة التركية لمسؤوليات الصعود التركي بدء ظهور دراسات في كليات العلوم السياسية والاقتصادية في تركيا حول “حدود الدور التركي” في مجالات ومناطق مختلفة منها الشرق الاوسط. بينها دراسة جادة وطويلة للدكتورة مليحة بنلي التونيشيك تربط تقدم او تراجع “القوة الناعمة” التركية مع العالم العربي بثلاثة عوامل اساسية: الاول هو مدى قدرتها على حل مشاكلها الداخلية كنموذج حديث ديموقراطي، والثاني مدى تقدم نموذج علاقتها بالاتحاد الاوروبي والثالث هو عدم تحول العالم العربي الى المزيد من الراديكالية بحيث ان “الردكلة” اي الاتجاه للتطرف الشعبي والنخبوي يخفف من قيمة الجاذبية التركية المعتمدة على الاعتدال والاستقرار.
عليّ ان اضيف هنا – كما قلت في مداخلتي في ندوة اسطنبول – محدوديات القوة الاقتصادية التركية التي تبقى بالنتيجة قوة اقليمية لا عالمية ولو ان الاقتصاد التركي اثبت نفسه في عدد من المناطق: القوقاز، البحر الاسود، اوروبا، الشرق الاوسط وروسيا… وهو الآن آخذ بالتوسع داخل افريقيا، لكن ليس طبعا باحجام التوسع الصيني في القارة السوداء. ويكفي لاعطاء دلالة على قوة ومحدودية الدور الاقتصادي في آن معا الرقمان اللذان جاءا ضمن الارقام الرسمية التي وزعتها ادارة الخزينة في رئاسة الوزراء التركية المتعلقة بالعام 2008. اذ جاء في الرقم الاول ان حجم الاستيراد التركي للآلات الصناعية، اي آلات الانتاج الصناعي، بلغ عام 2008 ما يعادل 36,8 مليار دولار في حين ان حجم الاستيراد الذي احتاجت إليه تركيا من النفط والغاز للعام نفسه بلغ 35,5 مليار دولار. انه اقتصاد محتاج الى الاستيراد (التصنيعي لا الخدماتي) الضخم ولكنه بلغ معدل 794 مليار دولار كناتج محلي، فيما تطورت قدرته التصديرية بين العامين 2002 و2008 سنوات “حزب العدالة والتنمية” الى 141 مليار دولار للعام 2008 وحده رغم بعض التراجع في العام 2009 بسبب الازمة المالية العالمية. وهذه حصيلة عقود من الجهود التأسيسية قادها في ذروتها وبتنسيق تام مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان ومعاونوه.
لقد استفادت الاندفاعة التركية بدون شك – بما فيها على المستوى الاقتصادي في العالم العربي – من بعض المواقف التي دغدغت مشاعر الراديكالية العربية الحاضرة دائما بسبب الاحباط التقليدي من السياسة الاميركية والتدمير المنهجي الاسرائيلي لفرص السلام. والاتراك – الذين، كما كتب صحافي دانماركي مؤخرا، عادوا الى العالم العربي بزي التجار بعدما حكموه قرونا بزي عسكري – راكموا سلسلة متلاحقة من الانجازات السياسية الديبلوماسية. لكن ربما بدأت تظهر الآن، او منذ فترة معينة، مؤشرات اعباء خطيرة ناتجة عن هذه الانجازات تتطلب من القيادة التركية “اخذ نَفَس” لاستيعاب هذه الانجازات قبل ان تتحول في بعضها الى عبء على التجربة الداخلية، كما الخارجية. فالاصلاحات الديموقراطية لم تكتمل، والعلمانية التركية لم تنتقل بعد كعلمانية الى “الجمهورية الثانية” بحيث يتلاشى القلق بل التوتر العميق بين “الكماليين” الذين اسسوا هذه التجربة وراكموها طويلا وبين الجيل الجديد من “الاسلاميين” الذين يقودونها الآن. فلا مسألة الحجاب في الجامعات حُلت، ولا المسألة الكردية دخلت درجة من الاستقرار كمسألة داخلية صرفة غير قابلة للتلاعب الخارجي، كما ان المحيط المباشر لتركيا ما زال محفوفا بالقنابل المتفجرة. فإذا كانت العلاقات السورية – التركية قد استقرت على قاعدة ثابتة ومتنامية كعلاقات دولتين، كذلك العلاقات اليونانية – التركية خصوصا مع رئيس الوزراء الحالي جورج باباندريو الذي يعتبر نفسه مؤسسا للتحول الايجابي مع تركيا منذ العام 1999 ومقابله وزير الخارجية السابق اسماعيل جم في حكومة بولنت اشفيت من يسار الوسط آنذاك، فضلا عن التقدم النسبي مع ارمينيا ولو المحفوف بالمخاطر، والذي يحميه – اساسا مع ارمينيا – اطار متقدم اقتصادي – سياسي بلغته العلاقات التركية – الروسية… مع كل ذلك فإن الحدود مع العراق ما زالت بالغة الخطورة في منطقة اقليم كردستان العراقي، اذ ان هذه الدويلة رغم تحولها عمليا الى منطقة ازدهار للتجارة والاستثمارات التركية فانها مصدر متواصل للاضطراب الداخلي في مناطق الجنوب الشرقي التركي ذات الكثافة الكردية. ناهيك طبعا عن ان احد الاسئلة في تدهور العلاقات التركية – الاسرائيلية الذي يتخطى مسؤولية رجب طيب اردوغان الشخصية هو عدم الاطمئنان العميق لدى المؤسسة العسكرية التركية الى درجة الحضور الاسرائيلي الامني في اقليم كردستان، ولو غير المنظور؟
كل هذه الاوضاع تتطلب فترة من الاستيعاب لـ”هضمها” من قبل القيادة التركية ومن قبل اجهزة الدولة التركية، وبعضها يتعلق بالمزيد من تأهيل الجسم الديبلوماسي العريق لتولي المسؤوليات الجديدة في الدور التركي، لانه من الثابت الآن ان “الطبقة” الاجتماعية الاكثر ريادية وضغطا نحو الانفتاح هي طبقة رجال الاعمال، بشقيها التقليدي والجديد الآتي من الاناضول، هذه البورجوازية مع فتح الحدود اكثر كما الاسواق الا انها تعرف اكثر من غيرها – لانها صنعت ذلك – ان حوالى خمسين في المئة من الصادرات التركية ما زالت تعتمد على اسواق الاتحاد الاوروبي، وهذا يعني – اضافة الى الاصلاحات السياسية – ان عجلة التحديث الاقتصادي ما زالت مرتبطة اساسا بالعامل الاوروبي، الامر الذي يتطلب تركيزا اكبر في العلاقات مع بعض الدول الاوروبية الكبيرة المؤثرة.
واذا كان هذا هو زمن التفكير المسبق بمعوقات الدور التركي، لانه زمن انجازات كبيرة اقتصادية وديبلوماسية، اليس هو بالتالي الوقت المناسب الذي بات فيه على زعيم هذه التجربة رجب طيب اردوغان ان “يهدأ” هو ايضا على بعض “الجبهات” التي فتحها وبحيث لا يزيد توترا بانتظار استيعاب النجاحات القائمة وتثبيتها، وبينها ربما المساس ببعض مرتكزات التوازنات التركية في العلاقة مع تحالفات اساسية؟ لا سيما ان التعنت الاسرائيلي سيظل يفرض عليه درجة من الضغط، لكن هل يعني ذلك تهديد علاقة تركيا باليهود الاميركيين… وهل كان يمكنه ترميم هذه العلاقة ام ان “اللوبي الاسرائيلي” في واشنطن الذي ما زال، رغم التحولات، يمثل الاكثرية اليهودية الاميركية، نجح في عزل اردوغان خلال زيارته الاخيرة لواشنطن اعلاميا وسياسيا في منع اي لقاء مع قادة المنظمات اليهودية؟
قد تتفاوت الاجوبة – والمعلومات – حول كل هذه المسائل، انما المهم ان لا يكون الاغراء الانتخابي في الداخل التركي مدعاة لشطط سياسي مؤذٍ… ودائما أكرر… للانجازات التركية الاكيدة.
راجع مقال جهاد الزين امس من اسطنبول)
– اسطنبول
النهار