السلام الكردي بين أوجلان الأسير ومحكمة تركيا الدستورية
بكر صدقي *
بعد صمت دام ثلاثة أيام، قطع حزب العمال الكردستاني الشك باليقين وتبنى علناً الكمين المسلح الذي نصبته في السابع من الشهر الجاري إحدى مجموعاته المسلحة لدورية من الجيش التركي في ولاية توكات، قتل فيها سبعة جنود وجرح ثلاثة آخرون.
ومنذ أكثر من أسبوعين يشهد عدد من المدن التركية احتجاجات من ناشطين أكراد على تدهور شروط سجن عبدالله أوجلان في زنزانة منفردة تقلصت أبعادها بقرار من إدارة السجن. وشهدت تلك الاحتجاجات مواجهات عنيفة مع قوات الشرطة، قتل في إحداها شاب كردي في إحدى البلدات التابعة لولاية ديار بكر، برصاصة في ظهره، يعتقد أن أحد عناصر الشرطة أطلقها.
وفي اليوم الذي دفن فيــه الجنود السبعة ضحايا كمين حزب العمال الكردستاني، أعلن عن وفاة فتاة في إحدى ضواحي اسطنبول متأثرة بحـــروق زجـــــاجة مولوتوف ألقى بها ناشطون أكراد على باص كان يقلها من المدرسة إلى البيت، قبل شهر من وفاتها.
قيادي في حزب المجتمع الديموقراطي صرح في تأبين الشاب المقتول في ديار بكر برصاصة في ظهره: «لقد فقدنا تسعة من أولادنا. على هذه الحرب أن تتوقف» ضاماً بذلك الفتاة الاسطنبولية والجنود الأتراك السبعة إلى الفتى الكردي المحتج على تدهور شروط سجن زعيم الحزب الكردستاني الأسير.
بعد يومين على هذا التصريح قررت المحكمة الدستورية العليا حل حزب المجتمع الديموقراطي ومجموعته البرلمانية والحجر السياسي لمدة خمس سنوات على سبعة وثلاثين من كوادره القيادية بمن فيهم اثنين من أعضاء البرلمان هما رئيس الحزب أحمد ترك المعروف باعتداله وآيسل توغلوك، فضلاً عن تحويل ما بحوزة الحزب من أموال للخزينة العامة.
بهذا القرار تم وضع نقطة النهاية لفصل جديد من الحياة السياسية الكردية، بعد سلسلة من قرارات الحظر المماثلة استهدفت الحزب السياسي الكردي تحت تسميات أخرى. وبخسارة المجموعة البرلمانية للحزب المنحل اثنين من أعضائها الواحد والعشرين، بات بقية النواب الأكراد بحاجة لنائب إضافي ليتمكنوا من إعــادة تــأسيــس الحــزب تحت تسمية جديــدة، وفــقاً للقوانـين ذات الصلة.
بعد قراءة التطورات الدراماتيكية الموصوفة أعلاه بات السؤال الملح: ما هو مصير مبادرة «الانفتاح الديموقراطي» التي أطلقتها الحكومة منذ شهور وتهدف بالدرجة الأولى إلى حل المشكلة الكردية وضمناً مشكلة سلاح حزب العمال الكردستاني؟
منذ بداية هذه المبادرة وكل من حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية يهاجمانها بحدة، مطلقين اتهامات للحكومة مرة لأنها برأيهما «تحاور الإرهابيين» ومرة لأنها «تريد تقسيم تركيا» وثالثة لأنها «تتحرك بأوامر من أميركا» دائماً وفق تصريحات قادة الحزبين المعارضين.
أما المؤسسة العسكرية فكان موقفها غامضاً ومتذبذباً من المبادرة الحكومية، فقد أيدها مجلس الأمن القومي الذي يضم إلى جانب رئيسي الجمهورية والحكومة وعدد من الوزراء، هيئة قيادة الأركان مجتمعة، في حين عكست تصريحات متفرقة لرئيس هيئة قيادة الأركان إلكر باشبوغ عدم ارتياح المستوى العسكري للمبادرة الحكومية. غير أن التطورات المذهلة في قضية شبكة أرغنكون الإرهابية والفضائح المتلاحقة حول تورط ضباط كبار في قيادة الأركان بالتخطيط لعمليات إرهابية وانقلابية، وضعت المؤسسة العسكرية في موقع دفاعي وهزت هيبتها الموروثة منـــذ قيــام الجمهوريـــة، فتــضاءل وزنها في المعادلات الداخلية بما في ذلك وزن رأيها في مبادرة الانفتــاح الديموقراطي التي باتت مطلباً اجتماعياً يلتــف حوله المزيـــد من الأفراد والجماعـــات والفـــعاليات الاجتماعيـة باطراد.
بالمقابل ظهرت، في الشهر الأخير بخاصة، ردود فعل شوفينية في بعض المدن التركية، استهدفت الأكراد وحزبهم السياسي حزب المجتمع الديموقراطي، كما حدث في مدينة إزمير على ساحل بحر إيجة حين هاجم عدد من الشبان والشابات موكب سيارات للحزب الكردي بالعصي والحجارة.
ما هو موقف الأكراد من المبادرة الحكومية، وهم المعنيون بها مباشرة قبل غيرهم؟
في تموز (يوليو) الماضي بدا وكأن «سباقاً على السلام» يدور بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني. ففي الوقت الذي كان أردوغان يستعد لإطلاق مبادرته السلمية، سرب محامو عبدالله أوجلان إلى وسائل الإعلام عن «مبادرة سلمية» يعكف الزعيم الأسير على صياغة خطوطها العريضة استعداداً لإطلاقها في الخامس عشر من آب ذكرى انطلاق حربه «الاستقلالية» ضد الجيش التركي. فاز أردوغان في السباق غير المتكافئ فأعلن عن مبادرته في أوائل شهر آب، وحظرت إدارة سجن جزيرة إيمرالي إخراج أوراق أوجلان وإن كانت الأفكار الرئيسة لتصوره لحل المشكلة تسربت بطرق مختلفة إلى وسائل الإعلام.
غير أن فوز أردوغان لا يقتصر على ذلك، بل يقوم أساساً على الجبهة النفسية إذا جاز التعبير. فقد أطلق الرجل حواراً اجتماعياً واسعاً كسر جميع التابوات وخرق جميع الخطوط الحمر المعروفة في الحياة السياسية التركية، شبهه بعض المراقبين بالغلاسنوست السوفياتي في عهد غورباتشوف.
في حين قارب أوجلان المسألة من زاوية إجرائية، فقدم تنازلاً تمثل في إسقاط المطالبة بأي شكل من أشكال الفيدرالية أو الحكم الذاتي، مقابل تكريس الاعتراف بالهوية والحقوق الثقافية للشعب الكردي في نص دستوري واضح وتطبيق نمط من اللامركزية الإدارية يتضمن الأمن الذاتي. وفي الخلفية من هذه المطالب الإجرائية كان واضحاً أن الرجل يسعى لاحتلال مقعده على طاولة مفاوضات بين الحكومة وممثلي الأكراد، وإن لم يعترض على تمثيل الطرف الكردي بحزب المجتمع الديموقراطي الذي يأتمر عدد من كوادره القيادية بأوامره.
ودأب حزب المجتمع الديموقراطي على مطالبة الحكومة بالتفاوض المباشر مع عبدالله أوجلان، شرطاً لتأييد مبادرتها السلمية. وانقلب أوجلان على موقفه الأول، قبل نحو شهر، فأعلن بصراحة عن «إغلاق صفحة» تأييده للحل السلمي.
قرار المحكمة الدستورية العليا بحل الحزب السياسي الكردي سيعيد خلط الأوراق ويزيد من صعوبة مهمة الحكومة. فمع غياب التمثيل السياسي للأكراد، يستعيد حزب العمال الكردستاني المسلح حق التمثيل الحصري لهم.
وهذا ما يلائم جميع الفاعلين السياسيين في تركيا: بدءاً بأوجلان نفسه، مروراً بحزبي المعارضة العلماني والقومي وانتهاء بالمؤسسة العسكرية، لتبقى حكومة حزب العدالة والتنمية وحيدة ومعزولة في سعيها لتطبيع الحياة السياسية في تركيا.
* كاتب سوري
الحياة