صفحات العالم

خطاب أوباما وإخراج الخطاب العربي من التلعثم

كلوفيس مقصود
الخطاب الذي ألقاه الرئيس أوباما في حفل استلامه جائزة نوبل للسلام في أوسلو كان تاريخياً بكل معنى الكلمة، كونه انطوى على سياسات ومواقف تندرج تحت ما يمكن وصفه بعقيدة أوباما، مثل عقيدة مونرو في مستهل القرن العشرين أو مبدأ ترومان الذي حدد “احتواء” المد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية .
خطاب أوباما في أوسلو يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول كان تاريخياً، كونه تضمن صياغات من شأنها أن ترسم سياسات الولايات المتحدة تجاه المجتمع لأكثر من عشرين سنة قادمة على الأقل . صحيح أنه لا يمكن ولا يجوز الجزم في هذا الشأن كون مستجدات كثيرة قد تحصل من شأنها إعادة النظر بهذا الاستنتاج، إلا أنه من المؤكد أن الخطاب، في ذكرى مرور واحد وستين عاماً على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يبطل الكثير من قواعد كانت تعتبر، حتى تاريخه، راسخة في مؤسسات صناعة القرارات الدولية، خاصة القرارات التي اتخذتها إدارة بوش – تشيني في السنوات الثماني الأخيرة . ولعل ما أدخله الرئيس أوباما مجدداً هو اتباع منهج واستنفار سائر الوسائل الحوارية والتفاوضية، من دون التخلي عن فرض عقوبات صارمة عند الاقتضاء .
كان واضحاً في الرسالة التي أراد إيصالها إلى العالم في أن الرئاسة الأمريكية منوط بها مهام القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبالتالي موكول إليها توفير كل أسباب الحماية للشعب الأمريكي، ما يفسر قراره إرسال نيف وثلاثين ألف جندي الى أفغانستان . هنا استذكر أوباما أن القاعدة التي احتضنتها أفغانستان – طالبان هي التي اعتدت على أمريكا، وبالتالي فالحرب على “القاعدة” كانت “حرباً عادلة” لا بد من الاستمرار بها، لأن الولايات المتحدة “لم تنشدها” وإنما “فرضت عليها” . من هذا المنظور ركز أوباما على شرعية هذه الحرب وضرورة الإسراع في إنهائها . في حين أشار إلى أن الإسراع بإنهاء حرب العراق كان اختياراً، كون الحرب غير ضرورية وغير مشروعة . وإذا كان لا بدّ من توضيح “عقيدة أوباما” في هذا الشأن، نقول إنه يركز على التزامه بحقوق الإنسان في تأمين التنمية المستدامة وتكثيف المعونات لتحرير معظم شعوب العالم من الفقر والحرمان، وكان يربط بين ذاكرته في العمل الاجتماعي المحلي في شيكاغو وبين إعلاء شأن الملايين من الشعوب المحرومة من بديهيات وشروط الحد الأدنى للعيش الكريم .
من هذا المنظور كان تركيزه على أن الحروب يجب أن تكون محصورة في الدفاع عن النفس، وأنها يجب أن تظل الخيار الأخير الذي “نلجأ إليه” . يستتبع هذا التزام إدارته بمساندة وتقوية المنظمات الدولية كالأمم المتحدة، وإعلان التزامه باتفاقيات جنيف، والتركيز على نزع السلاح النووي، مشيراً إلى اتفاقه مع الرئيس الروسي تقضي بنزع السلاح النووي في بلديهما تدريجياً والتعبئة لنزع السلاح عالمياً حيث يوجد . إلا أن أوباما أشار الى أن العقد الأول من القرن اختبر “تهديدات جديدة”، لكن انتشار الأسلحة النووية من شأنه “أن يؤول إلى الكارثة”، ثم تابع “إن الإرهاب كان دائماً تكتيكاً إلا أن التقنية العصرية تسمح للبعض بقتل مدنيين على قياس واسع” . كما ركز على أن الحروب بين الدول تتحول الى حروب داخلية حيث زادت الحركات الانفصالية والنزاعات العرقية والمذهبية التي أوقعت المدنيين بحالة فوضى متواصلة . “لذا فالعنف لا يستولد مطلقاً سلاماً دائماً ولا يحل أية مشكلة اجتماعية بل يعقدها . ثم أشار الى أن اللاعنف لم يستطع وقف جيوش هتلر وأن “التفاوض لن يقنع قادة “القاعدة” نزع سلاحهم . فالقول إن استعمال القوة أمر ضروري أحياناً، ليس دعوة للسخرية بل اعتراف بالتاريخ وحدود العقلانية” .
اعترف أوباما أيضاً أن هناك التباساً وشكوكاً حول الخيار العسكري مهما كانت الدوافع، وبالتالي فإن هناك تشكيكاً بنوايا الولايات المتحدة كونها الدولة الأعظم والمتفوقة عسكرياً .
وكون هذا الرئيس منغمساً في إزالة شوائب الإدارات السابقة، تبدو الإدارة على استعداد للاستماع إلى الرأي الآخر واحتمال الأخذ به . من هنا تبدو أهمية أن يعمل العرب على لفت نظر إدارة الرئيس أوباما دبلوماسياً وإعلامياً إلى السبب الذي “يحتم” منع انتشار الأسلحة النووية، وبالتالي لماذا الإصرار على أن دولاً كإيران وكوريا الشمالية “تتلاعب” بنظام معاهدة عدم نشر السلاح النووي . يمكن للمحاور العربي أن يؤيد وبقوة هذا الموقف الأمريكي وأن يربطه بالتساؤل والإلحاح لماذا استثناء “إسرائيل” كما الهند وباكستان من هذا الموقف . صحيح علينا أن ندرك بأنه لن تكون بادئ ذي بدء أية إجابة فورية لكن مجرد التساؤل والإلحاح بحد ذاته يفرز وضعاً جديداً، ويجعل من الإجابة عنه بنداً من التزام عربي بتمتين العلاقات الأمريكية – العربية .
ورد في خطاب أوباما في أوسلو، أن هناك شعوباً تخاف أن تفقد هويتها وخاصة الدينية منها، في بعض الأماكن نجدها في الشرق الأوسط حيث النزاع بين العرب واليهود يشتد . في هذا المضمار على الدول العربية كلها من خلال قادتهم ودبلوماسييهم وإعلامهم الرد فوراً على هذه الفقرة بأن النزاع ليس بين “العرب واليهود” بل بين العرب والمشروع الصهيوني أو بين العرب و”إسرائيل” . أجل هذا التوضيح مطلوب تنفيذه فوراً وإلا أصبح الشرط “الإسرائيلي” بأن تعترف السلطة الفلسطينية بيهودية “إسرائيل” مسلماً به . إن ضبط المصطلحات يؤول الى مزيد من وضوح الموقف العربي وإخراجه من الالتباس الخطير .
إذا تكاسلنا في العمل على تصحيح ما ورد في الخطاب وخاصة التعبير الرسمي عن رفضنا القاطع لاعتبار الصراع العربي – “الإسرائيلي” “نزاعاً عربياً – يهودياً”، فإن تبعات عدم التصدي ستكون أضراره كبيرة على حظوظ سلام عادل . وبالتالي يكون ترحيبنا بالجديد الواعد والوارد في خطابه أكثر احتراماً إذا انطوى على تصحيح فوري ومن دون تردد . هذا يلفت إلى جدية التزامنا بحقوقنا وفهمنا بما تنطوي عليه حضارتنا، من عدم الانزلاق في متاهات وعبثية ورجعية أي نزاع مع أي دين .
بقي علينا أن نعي أن ما انطوى عليه خطاب أوباما لمناسبة استلامه جائزة نوبل من تكامل في النهج الجديد، فيه الكثير من التلاقي في الرؤى والأهداف اذا ما استوعبنا المعنى . وفي هذا تحريض للأوطان العربية للخروج من حالة التأرجح بين التبعية المعيبة والمكبلة لعديد من القيم التي اعتمدها أوباما في سياساته الدولية والانقطاع العبثي الذي يغيب عنا الإسهام في حوارات ناجعة والاستفادة من فرص متاحة، كون التقاط اللحظة يحتم علينا وحدة خطابنا باتجاه محاورة الاستراتيجية الجديدة التي أورد عناصرها باحترام عقول وشرعية مطالب الناس ما يشكل تحدياً فريداً يدفع العرب الى حضور فاعل وإخراج الخطاب العربي باتجاه الولايات المتحدة من التشرذم والتلعثم .
مدير مركز عالم الجنوب بالجامعة الأمريكية في واشنطن

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى