صفحات مختارة

الإصلاح الديني شرط لإسقاط المحرمات الفكرية

null


خالد غزال

يثير انبعاث الحركات الاصولية الاسلاموية المتطرفة منذ سنوات سجالا داخل العالمين العربي والاسلامي، معطوفا على صورة متكونة في الغرب عن دين يتسم بتشجيع الارهاب او احتضان تنظيماته. تعززت هذه النظرة بعد هجمات ايلول عام 2001 في الولايات المتحدة الاميركية وما تبعها في السنوات الاخيرة من نشاط لتنظيم “القاعدة” ضرب في اكثر من مكان في العالم تحت اسم الجهاد في سبيل الاسلام.

اختلطت الصورة بين حقائق فعلية تعبر عنها الحركات الاسلاموية بصفتها العنفية وبين استغلال سياسي يتجاوز حدود تنظيمات معينة ليعطي رأيا اجماليا سلبيا حول الاسلام والعالم العربي على السواء، ليس اقله اختراع نظرية “صراع الحضارات”. ساهمت الوقائع والتطورات في خلق سجال فكري حول هذه المسائل انخرط فيه مثقفون وباحثون من العالم الاسلامي والعربي سعيا لفرز المسائل عن بعضها وتبيان الثابت والمتغير في الدين الاسلامي، وصولا الى طرح اسئلة جريئة حول قدرة المسلمين على التجديد في فهم الاسلام واحداث ثورة معرفية داخلية تتيح للعالم التواصل والتعرف عليه بشكل اكثر انسانية.

تتقاطع جميع الابحاث والدراسات حول نقطة انطلاق في التجديد عنوانها الاصلاح الديني كشرط موجب وضروري لدخول العالم الاسلامي الى العصر. في هذا السياق اصدرت “دار المدار الاسلامي” كتابين، الاول للباحث محمد الحداد بعنوان “ديانة الضمير الفردي ومصير الاسلام في العصر الحديث” (2007)، والثاني لرضوان زيادة بعنوان “سؤال التجديد في الخطاب الاسلامي المعاصر” (2004).

في المحاولات الاصلاحية السابقة

اثيرت قضية الاصلاح الديني على نحو مبكر ومنذ القرن التاسع عشر، فرضها حراك مجتمعي فكري سياسي اجتماعي. يتوافق حداد وزيادة على ريادة بعض مفكري القرن التاسع عشر في طرح الموضوع انطلاقا من سؤال- هاجس لا يزال يعتمل حتى اليوم: “لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب والمسلمون؟”. وهو السؤال الذي طرحه جمال الدين الافغاني ووافقه عليه الشيخ محمد عبده، وشكل مفتاحا لنقاشات فكرية بين رواد النهضة، الدينيون منهم والعلمانيون على السواء. يسجل للافغاني تقدمه وجرأته في وضع الدين الاسلامي وكيفية ممارسته آنذاك في خانة العوامل المسؤولة عن هذا التخلف. مشبعون بفكر عصر الانوار الاوروبي وبالعملية الاصلاحية الدينية التي قادها مارتن لوثر في اوروبا والتي كانت لها مساهمة اساسية في نقل اوروبا من الهمجية الى المدنية، استلهم رواد النهضة الحدث الاوروبي فقالوا بوجوب الاصلاح الديني في العالمين العربي والاسلامي سبيلا الى الدخول في المدنية وتجاوز التخلف المريع الذي تعيشه هذه المجتمعات. اكتسب هذا الطرح اهميته من كونه يصدر عن رجال دين على رأسهم مفتي مصر، مما يمنع التشكيك في كون دعاة الاصلاح لا يفقهون امور الدين او يسعون لتشويهه والقضاء عليه.

لم تتوقف محاولات الاصلاح الديني في العالم العربي خلال القرن العشرين، اكمل رواد النهضة في المشرق وفي مصر خصوصا الطريق الذي فتحه اسلافهم، فكانت محاولات طه حسين وعلي عبد الرازق وامين الخولي ومحمد حسين خلف الله الذين حاولوا التمييز بين الاسلام كدين يقوم على مبادئ وقيم روحية واخلاقية وبين السياسة والدولة التي لا علاقة لها بمضمون النص الديني، كما سعوا الى محاولة لقراءة النص الديني بما يتناسب ومقتضيات الواقع الراهن. وبعد قيام انظمة الاستقلال، لم يتوقف السجال حول الدين والمجتمع والسياسة، بل اتخذ منحى اوسع بالنظر الى العلاقة التي نشأت بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية التي كانت تفتقد الى الشرعية الشعبية، فاتكأت على المؤسسة الدينية لتسويغ قراراتها، مقابل اطلاق يد المؤسسة الدينية في تحكيم فتاواها وافكارها في المجتمع.

كما في القرن التاسع عشر، واجه رواد الاصلاح في القرن العشرين هجوما شرسا من المؤسسة الدينية الرافضة لادخال اصلاحات على المؤسسة نفسها، والمتصدية لاية اجتهادات في قراءة النص الديني استنادا الى موقعه التاريخي في الزمان والمكان والى تغير الكثير من المعطيات التي حتمت بعض نصوصه ولم تعد تتلاءم مع العصر. في وجه دعاة الاصلاح انطلقت فتاوى التكفير والاتهام بالهرطقة واباحة دم بعض هؤلاء الاصلاحيين.

ميادين الاصلاح الديني

فرض صعود الاسلام السياسي منذ السبعينات من القرن الماضي تحديات على الفكر السياسي العربي بمختلف مدارسه. ولكون هذا الاسلام الجديد صاحب ممارسة اعتبر انها تستند الى النص الديني وتجد تبرير اعماله في متنه، كان لا بد وان يتجه الاصلاح هذه المرة وجهة تسعى الى تحييد النص الديني او تنزيهه من ان يكون مبررا للارهاب والعنف الذي تعتمده الاصولية الاسلاموية المتطرفة. يركز الكاتبان حداد وزيادة على مطاردة هذا الفكر الاصولي ويطرحان في الوقت نفسه ميادين تصدى لها عدد من دارسي الاسلام السياسي، المستندين هذه المرة الى ما قدمته الحداثة في اوروبا من مناهج تساعد في قراءة الفكر الديني ونقده.

تنطلق مدارس الاصولية من مقولة ترى ان النص الديني المتمثل خصوصا بالقرآن هو نص صالح لكل زمان ومكان. وان لا اجتهاد في تعديل او الغاء اي من محتوياته. تكمن خطورة هذه المقولة عندما تعتبر الحركات المتطرفة ان عملياتها الارهابية مستندة الى النص الديني وانها تنفذ اوامر الله في قتل الكفار من غير المسلمين. تركزت وجهة النقد من جانب عدد من المفكرين على الانطلاق من ان النص القرآني هو نص له زمان اي تاريخ محدد نزل فيه، كما ان له مكاناً عبر عنه اي بيئة اجتماعية وسياسية. لا ينكر الدارسون ان النص يتمتع بقدسية لكونه اتى وحيا على لسان النبي محمد، لكنهم يفصلون بين آيات نزلت في اوقات محددة لتجيب عن قضايا مدنية او اجتماعية كان لا بد للرسول من اعطاء اجوبة عنها، مما يعني ان هذه الآيات مرتبطة بزمان ومكان نزولها وبالتالي يصعب اسقاطها على مجتمعات وازمنة لاحقة، مما ينفي ادعاء الحركات المتطرفة اعتمادها حجة في تبرير ارهابها. واستكمل باحثون اسلاميون قراءتهم التاريخية للنص الديني من خلال التمييز بين الدين كرؤى روحية وقيم اخلاقية ومبادئ انسانية فرأوا انها صالحة لكل زمان ومكان خلافا للنصوص المتصلة بقضايا مدنية اخرى.

سحبت الدراسات الاسلامية المستندة الى المنهج التاريخي نفسها على الشق الآخر من النص الديني وهو المتعلق بالاحاديث النبوية. على رغم الجدال الذي لم ينقطع بين المذاهب حول صحة الكثير من الاحاديث من جهة، وتوظيف اعداد منها في الصراع السياسي بين المذاهب، قدمت القراءة النقدية التاريخية تجاوزا لمسألة صحة او عدم صحتها، فوضعتها ايضا في سياق تاريخيتها لكونها اتت جوابا عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية زمن النشوء المبكر للاسلام من جهة، وجوابا ايضا عن الحاجات والمعضلات التي فرزها توسع الاسلام الى خارج الجزيرة العربية، مما يعني ان اسقاطها على عصرنا الحديث امر مغاير للمنطق ولا يتوافق مع التطور الذي عرفته المجتمعات العربية والاسلامية خلال اربعة عشر قرنا من ولادة الاسلام.

بعد ان وجه الخطاب الاصلاحي الديني نقده لكيفية استخدام النص الديني بمصدريه الاساسيين، كان لا بد من أن يطال النقد مسألة الشريعة التي تكونت من خلال فتاوى الفقهاء شرحا للنص الديني. سعى الفكر الاصولي والديني المتزمت الى تصنيف الاحكام الفقهية في خانة النصوص المقدسة والتي يجب على المجتمعات الاسلامية اعتمادها. في هذا المجال ايضا كان لابد من استخدام سلاح النقد التاريخي لاعادة النصوص الى زمانها ومكانها ورفض اطلاقيتها ووضعها في مصاف النص القرآني او الاحاديث النبوية. ارتبطت هذه القضية مباشرة بموضوع قراءة التراث العربي والاسلامي، وكان على النقد الاصلاحي ان يفرز ويغربل ما يجب الاخذ منه او ما يجب اعتبار انه تقادم مع الزمن. لم يكن الامر سهلا في مواجهة مدارس اسلامية تتعاطى مع التراث كتلة متراصة وتتمسك بمضمونه بصفته جزءا من الهوية الاسلامية او العربية، ومادة للسجال الحضاري مع الغرب او من يجري تصنيفهم في خانة الاستعمار.

يشير رضوان زيادة الى قضية اساسية في التراث تتصل بما يعرف بـ”الآداب السلطانية” التي هي مجموعة نصوص نشأت في سياق تاريخي سياسي محدد، وقامت بوظيفة ايديولوجية في خدمة السلطان السياسي وتبرير اعماله. قدم الشافعي نظرية في هذا المجال استخدمها رجال الدين والسياسة بامتياز، فاستحضر آية من النص القرآني تقول “ياايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم” فكرسها واحدة من قواعد الحكم الاساسية في الاسلام، والتي لم يبق منها اليوم سوى اطاعة الحاكم. تكمن خطورة هذه “الآداب السلطانية” في ان احياءها والنفخ فيها لم يكف من قبل الحكام ورجال الدين على السواء. تشكل هذه المنظومة من التراث قاعدة لتبرير الاستبداد في العالم العربي وتأبيد السلطات الحاكمة تحت حجة درء الفتنة والخلاف او الاعتراض على السياسات القائمة.

لا يكتمل خطاب الاصلاح الديني من دون التعرض الى الموقع الذي تحتله المؤسسة الدينية والعاملون فيها. توسعت هذه المؤسسة بشكل كبير واتخذت لنفسها صلاحيات اقرب الى السلطة الالهية على البشر، فباتت تحلل وتحرم ما يتوافق مع مصالحها ونمط تفكيرها. تحولت الى ما يشبه محاكم التفتيش الاوروبية في القرون الوسطى. تمارس رقابتها على الفكر وتتدخل في الشؤون الحياتية للمواطن، وتكفر هذا الكاتب او ذاك وتهدر دمه احيانا، كل ذلك باسم حمايتها للدين ومنعا للخروج على احكامه. لم يستقم هذا الدور الاستثنائي للمؤسسة الدينية الاسلامية الا بقيام علاقة تبادلية بين النظام السياسي القائم وهذه المؤسسة. قدمت المؤسسة للنظام تبريرا لشرعية سلطته المفتقدة الى الشرعية الشعبية، وبررت له سياساته في كل المجالات السياسية والقومية والاجتماعية ووقفت الى جانبه في وجه حركات المعارضة. في المقابل اطلق النظام السياسي العربي العنان لعمل هذه المؤسسة وسلطها على المجتمع وعلى الفكر السائد وحمى فتاواها وقراراتها واعطاها شرعية مماثلة. لا ينفصل انفلات الحركات الاصولية وانقلابها على النظام الذي حضنها عن السياسة المتبادلة للمؤسسة الدينية والاستبداد العربي الذي يصنف كثيرون هذه الاصولية بصفتها ابنته الشرعية. لذا يشكل اصلاح هذه المؤسسة وتحديد ميدان عملها بما لا يتجاوز الشؤون الدينية واحدة من المسائل الاساسية في مواجهة التخلف.

يحاول حداد وزيادة مواجهة سؤال يُرمى حاليا في وجه العرب والمسلمين:” هل يستعصي الاسلام حقا على الحداثة والتقدم؟”. لا يستقيم الجواب بالمعنى التاريخي في جانبه السلبي. فالحداثة حالة قائمة ومستمرة وليست مشروطة بتاريخ خاص او بمرحلة من مراحل التاريخ، كما انها ليست مشروعا ناجزا وحكرا على الغرب. الحداثة باختصار هي كل ما تصبو اليه المجتمعات من تغيير وانخراط في مشروع النهضة والتنمية والتقدم في جميع المجالات والميادين. لكن الدخول في هذه الحداثة عربيا واسلاميا سيخضع كما خضعت مجتمعات اخرى الى جملة شروط تتصل بتحولات في هذه المجتمعات، يأتي الاصلاح الديني في رأس الاولويات الضرورية لتجاوز التخلف والدخول الى العالم المتقدم. لذلك يبدو سؤال التجديد في الفكر الاسلامي سؤال اللحظة التاريخية والمصيرية والذي يشكل الشرط الضروري لقيام نهضة عربية- اسلامية جديدة.

خالد غزال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى