الحديث من فوق لمن هو فوق
رائد شرف
الصحافة المكتوبة بالتحديد، في طبيعة تكوينها، تحتوي ممارسات وظيفية عديدة تصب في خدمة منطق السيطرة. فهي، من ناحية، أداة بروباغندا مباشرة، عن طريق ما يكتبه صحافيّوها والمواقف التي يدلون بها. لكنها تحتوي أيضاً مجتمعاً من الخبرات السياسية: يعمل كتابها مستشارين عند السياسيين، ولهم صفة امتياز للاستضافات التلفزيونية من جانب «زملائهم» في الإعلام المرئي، حيث يناقشون السياسيين في السياسة، على حساب غيرهم من المواطنين. وهي عادات صحافية لا يناقشها أحدٌ في لبنان، لأنّ الصحافة اللبنانية تقدّم نفسها كحاملة للواء الدفاع عن الحريات العامة. فتصبح الصحافة تالياً في موقع المغتصب لرأي الناس، كونها تحتكر مساحات البث الإعلامي، المكلفة والمحدودة، باسم أخلاقيات سامية تدّعي الاستقلالية، فيما هيكليّة تمويلها بعيدة عن أن تكون مستقلة. وعندما لا تسري مسرحية «الأسئلة والأجوبة» في البرامج الحوارية التلفزيونية، تأتي تصاريح الصحافيين على الهواء أشبه بالتكملة التقنية لمواقف السياسيين.
هكذا يصبح من المألوف في الإعلام المرئي والمكتوب، أن نرى أو نقرأ صحافيين ومعلّقين يدلون بمعلومات سياسية، وأحياناً ذات طبيعة «أمنية»، لم يصرح بها من قبل أي من الجهات السياسية والحزبية المعنية. فيصبح الصحافيون متحدثين باسم مواقع سياسية. ولأن المواقع الحزبية اللبنانية غالباً ما تتمحور حول قرارات شخص واحد ومسيرته، الزعيم، يصبح الصحافيون متحدثين باسم شخص واحد. تدعم هذا المسار متطلبات عملهم الساعية وراء الـ«سكوب» باستمرار ومنهجية. هكذا بات للصحف صحافيّوها «المخبرون»، يستقي منهم زملاؤهم المعلومات التي ينفردون ويتميزون هم في الاستحصال عليها.
لكن هذه الممارسة أصبحت ساريةً لدرجة أنه من السذاجة النظر إليها على أنها من الهفوات العفوية المتعلقة بطبيعة المهنة. وحتى لو كان الصحافيون المسيسون، والملتزمون خطاً سياسياً بخطبه وخطته، ذات قناعة في خيارهم وقضاياهم، يبقى أن الصحافة عامةً، وفي تطوراتها التاريخية السابقة وغير البعيدة، أثبتت أنها في شكلها التقليدي الحالي، تخدم تحصّن السياسيين في مواقعهم أكثر من خدمتها القضايا المطروحة. ومن السهل أن تنفضح سيطرة السياسيين على الصحافة وتسخيرها لهذه الغايات المحدودة، كما يحصل أخيراً وعلى شكل شبه قاعدي، عندما تعقد «جلسات الحوار» بين الأفرقاء المتناحرين ويُتفق بين ما يُتفق عليه ترطيب الأجواء وإسكات الإعلام. هي بديهيات يتجاهلها الجسم الصحافي عامةً، أو يلتمس بعض ملامحها بالتفاصيل، حيث ما زال معظم الصحافيين يتفاجأون لدى تعرّض زملاء لهم للاضطهاد، ويدينون العمل على أساس «العودة» إلى احترام الحريات. ففي مناسبات التعرّض لصحيفة أو صحافيين، يعتمد الجسم الصحافي بسهولة سياسة إدانة، كما حصل مثلاً في الإجماع على التضامن مع إعلام المستقبل. وهو موقفٌ ليس بالقاعدة عندما يتعرض قسم من الشعب لقمع النظام. هكذا كان أمر السكان الفلسطينيين في مخيم نهر البارد، الذين امتنع الإعلام عن تغطية مآسيهم، واعتمد تجاه منطقة المخيم وسكانها، «مفاهيم» الطبقة السياسية، المجمعة آنذاك على أن يقصف المخيم، وإن لم يُخلَ من سكانه بعد. في منطق عمل الصحافة اللبنانية، لا تعني منهجياً حرية الرأي والحقوق المدنية إلا فئة واحدة من الشعب في لبنان، فئة الصحافيين. وهذه الفئة نفسها تفقد امتيازاتها عندما يصبح الموضوع صرفاً تعسّفياً للصحافيين من جانب أرباب عملهم.
وفي خضم لعبة سياسية تستوعب جميع أشكال التصاريح، المتناقضة غالباً، في منطق المقايضات السياسية، يمكن صحافياً أن يتحدث بمعلومات غير مثبتة، استباقية، غالباً ما تكون غير صحيحة، ولا من يسائل أو يحاسب. لأن منطق اللعبة يذهب بالجميع نحو الاستماع عبر الصحافي إلى الإشارات السياسية الصادرة عن جهة سياسية ما، بمنطق يعطي أولوية لتسويق المقايضات السياسية على حساب الشفافية أمام الرأي العام وواجب إطلاع الناس على الحقائق.
طبعاً، في السياسات الداخلية للأحزاب والتنظيمات السياسية ذات الشكل الديموقراطي، تدعم هذه الممارسات الصحافية العائدة إلى أيام الانتداب، زعامة الأعضاء المقربين من الوسط الصحافي على حساب غيرهم من الحزبيين. وغالباً ما يكون هؤلاء الأعضاء من المجالس
منطق اللعبة يذهب بالجميع نحو الاستماع عبر الصحافي إلى الإشارات السياسية، وذلك على حساب الشفافية
تنظيم العمل الإعلامي حوّل وسائل الإعلام اللبنانية إلى منظومة تسويق للنظام القائم
القيادية للأحزاب. هكذا تصبح الصحافة، في صداقات صحافييها مع الشخصيات السياسية أو قربهم منها، أحد سبل ارتكاز أزلية القيادات الحزبية في لبنان. فإن حصل اعتراض أو تمرّد داخل حزب ما، ستكون الصحافة المحسوبة على خط هذا الحزب، بأغلب أعضائها، مع موقع القيادات، ضد المعترضين، وإن وُجدت استثناءات.
تدعم ذلك قوانين الإعلام السارية في لبنان، من قانون المطبوعات (قانون ١٩٦٢) إلى قانون المرئي والمسموع الحريريّ. هذه القوانين تحصر توزيع الرخص الصحافية ببعض الورثة، وتمنع الأحزاب السياسية من إنشاء صحافتها الخاصة.
هذه القوانين جعلت أيضاً الصحافة، في بنية تحريرها، تنتظم بالكامل وفق روحية «إدارية» على شكل «ادارات الأعمال»، يحددها رب العمل وحده، صاحب الامتياز بامتلاكه الرخصة: الرخصة الموزعة سنة ١٩٦٢. هكذا يقرر صاحب الرخصة سياسات التحرير، بدل أن تكون هذه موضع شورى أو تصويت ضمن الجسم المهني، أي الموظفين الصحافيين، وبتماش أكثر جدية مع تثبيت القيم المهنية.
لكن احتكار أصحاب الامتيازات الرخص الصحافية كانت له آثارٌ أخرى على الصحافة اللبنانية. فالتحرير وفق عقيدة «إدارة الأعمال» جعل الصحافة تعمل، مثل اللعبة السياسية، على منطق المقايضات. ولعلّ أساس ارتكاز المقايضات الصحافية هو: نوعية الخبر مقابل استمرارية الجريدة. فالسياسيون اللبنانيون (وجلّ مترئّسيهم من الميليشيات) غالباً ما وضعوا الصحف اللبنانية أمام التهديد بإقفالها. وكان أسهل بالنسبة لهم أن يتفاوضوا على تغيير سياسات التحرير مع «مدير أعمال» وحيد، مالك الصحيفة، مما لو كانت الصحيفة مملوكة مثلاً من حزب سياسي يضم ١٠٠٠٠ منتسب لهم كلمتهم في ممتلكات حزبهم.
«إدارة الأعمال» الصحافية تدعم أيضاً خضوع الصحافة لشروط التمويل الخارجي، من أنظمة وشخصيات سياسية لبنانية أو أجنبية، لأن العدد المحصور للرخص يجعل أسعار إيجارها أو شرائها مضخمة، لا يمكن تحمل أعبائها في أي مغامرة صحافية مستقلة دون العودة إلى مموّل متمكّن.
هذا التنظيم للعمل الإعلامي ولتمويله، جعل وسائل الإعلام اللبنانية في مرحلة الجمهورية الثانية، تتحول إلى منظومة تسويق للنظام القائم، و«تسيير أموره الإعلامية». منظومة متجانسة، لا تعني فيها تقسيمات «اليسار» و«اليمين» السياسيتين شيئاً. منظومة مغلقة أمام كل تغيير، ومغذية لنفسها: لأنه يحق الافتراض أن صحافة لا تتحدث إلا «من فوق» وإلا «لمن هو فوق» تفقد عدداً لا بأس به من جمهورها المحتمل (حتى ولو شاء البعض أن يبرر فشل الصحافة المكتوبة بازدهار التلفزيون)، ممّا يجعل هذه الصحافة أكثر اتكاليةً وارتباطاً بالتمويل الخارجي، وبالتالي، أكثر خدمةً للطبقة الحاكمة ومصالحها.