تفاءلـوا!
حسام عيتاني
اذا التقى رؤساء وقادة أربع دول عربية لطي صفحة النزاع، على المواطنين في دولهم والدول العربية الاخرى، أن يسارعوا الى الترحيب بانقشاع غمامة الخلافات التي هددت الصف العربي ووحدته.
على المواطنين العرب ووسائل الإعلام العربية أن ينسوا، غب الطلب، كل ما قيل في الأعوام الأربعة الماضية وان ينخرط الجميع في احتفال لتمجيد المصالحة وإظهار فوائدها وانعكاساتها الايجابية التي ستسهل على الدول العربية مواجهة التحديات الكبيرة المقبلة الخ…
بيد أن الرؤساء العرب المختلفين ـ المتصالحين، لم يبلغوا البشر المدعوين الآن الى مباركة الصفحة الجديدة من العلاقات الأخوية، لم يبلغوهم شيئا عن الأسباب التي غيرت الحال وجعلت الناس تقلب ظهر المجن، وتقلب معه العداء الى ود والإهانات السابقة الى تفهم للظروف التي أملت اتخاذ مواقف بعينها. لم يقرأ أين أصبح المحوران الشهيران.
صحيح أن السياسة تنظر دائما الى الأمام وان المطلوب في العمل السياسي تناسي الماضي وصراعاته، والتطلع الى المستقبل. لكن في العالم العربي حيث السياسة صناعة غير متقنة أو منتج غير عقلاني، يصبح تجاهل أسباب الصراعات السابقة وتجاهل معالجتها بمثابة الدعوة الى تكرارها في القريب العاجل قبل الآجل.
ليس نكء الجراح أو رش الملح عليها بهواية محببة، لكن التعامي عن الماضي وتفاصيله وما حمل من مرارات، ليس سلوكا حصيفا هو الآخر، حيث يكشف سطحية وفوقية العملية السياسية في العالم العربي التي لا يحتل فيها المواطن ووسائل الإعلام ورهط كبير من «المحللين» والمعلقين سوى مكانة هامشية في المشهد العام.
بديهي أن أجواء الود أقرب الى قلوب البشر الطبيعيين من مناخات التوتر والتنابذ والاقتتال. لكن الانتقال من حال الى حال في عالمنا العربي غالبا ما لا يترافق مع مراحل انتقالية تستمزج فيها الآراء والمصالح. يكفي خطاب في مؤتمر كي تنتهي حالة عداء ذهب ضحيتها قتلى واعتقل على هامشها أبرياء.
قديم هو التعريف الذي يعتبر السياسة عملية إدارة الخلافات بين أطراف متعددة. لكن التعريف هذا ينطوي على مسألة حاسمة الأهمية وهي أن إدارة الخلافات تستند دائما الى مفهوم المصلحة الذاتية وتقاطعها مع مصالح الآخرين. ولسنا نقول كفراً إذا زعمنا ان كتلاً كبيرة من العرب، تفضل الابتعاد عن أي نوع من أنواع التعاطي في الشأن العام وتفضل الاستسلام لأشكال متنوعة من الاستلاب والاغتراب عن الواقع، على أن تسير في موكب تتغير فيه الهتافات من الشتائم الى المدائح من دون أن يفقه أحد السبب وراء التغيير.
ما سبق هو الظاهر من جبل الجليد. جلي تماما أن اعتبارات عدة أملت التوصل الى التهدئة الحالية بين مصر والمملكة العربية السعودية وسوريا. ولكل من الدول المذكورة اعتباراته الداخلية والخارجية المفهومة (وان لم تكن معلنة تماما): العلاقة مع ايران وإمكان تدهورها بسبب تزايد دورها في المنطقة العربية وتزايد الحساسية العربية حيال الدور هذا، هزال رد الفعل العربي على الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضد الفلسطينيين، ما يحمل إغراء لإسرائيل بتكرار الحرب في مناطق اخرى، انهيار النظام السياسي الرسمي العربي الذي لم يعد يكفي الحذق اللفظي للأمين العام للجامعة العربية في معالجته، مشكلات الوراثة في وسط مضطرب، التغير في السياسات الأميركية والأوروبية في المنطقة …
بيد أن ما تفتقر اليه المصالحة، على النحو الذي افتقرت اليه حالة التنابذ السابقة، هو رأي المواطن العربي في الموضوع، هذا اذا سلمنا جدلا بأنه معني ـ بصفته صاحب المصلحة الاخيرة ـ في رسم سياسة بلده. يستفحل اختزال السياسة في الدول العربية، ومن علامات ذلك أن مسؤولي الأجهزة الاستخبارية صاروا يفتتحون مؤتمرات المصالحة ويتولون مهمات دبلوماسية عامة كانت منوطة عادة بوزراء الخارجية أو برؤساء الدول.
بكلمات اخرى، الصراعات العربية كما المصالحات، هي في نهاية المطاف ساحة لا يقول المواطن العربي كلمة فيها. السبب الواضح ان ليس ثمة «مواطن عربي» بالمعنى الدقيق للكلمة أي الإنسان المتمتع بحقوقه السياسية وبحرياته الاجتماعية والشخصية، بل هناك جموع وجماهير وكتل، تتحرك كما تريد الرياح، وهذه ليست أكثر من موضوع للتعبئة والحشد والتحريض، تلبي اذا دعيت وتنسحب اذا أمرت. لا أكثر من ذلك ولا اقل.
اذا، الصراعات العربية ـ العربية في الطريق الى التسوية، المرحلة السابقة ليست أكثر من سوء تفاهم ضاعف من وقعه تدخل الغرباء والاغيار، أما الآن فإن التعليمات صدرت ان تفاءلوا!
السفير