العقدة السويسرية للزعيم
زين الشامي
منذ فترة وجيزة شن «قائد الثورة الليبية» و«ملك ملوك أفريقيا» خلال الاحتفال الذي أقيم بمدينة زليتن الليبية، بمناسبة منح الجامعة الأسمرية للعلوم الإسلامية له شهادة الدكتوراه الفخرية في الدعوة والثقافة الإسلامية، هجوماً حاداً على الغرب، وقال إنه متقدم علمياً، لكنه ليس متحضراً، واعتبر أن المجتمعات الغربية. ورغم أنهم متقدمون جداً في العلوم المادية والتقنيات العصرية، وتقدموا جداً في الفضاء وفي الطب والعلوم التطبيقية، وحققوا تقدماً مذهلاً، لكنهم صفر من الناحية الإنسانية، وهم لا شيء من الناحية الاجتماعية، ذلك أن حياتهم ليست لها أي قيمة.
وزاد الزعيم الليبي بطريقة لا تخلو من إساءة وتمييز عنصري: «يمكن المقارنة بينهم وبين الحيوانات… ان العنكبوت والنمل والنحل، هذه الحشرات واصلة إلى درجة عالية جداً من التقدم والتقنية، فالهندسة التي عند النحل، والإنشاء والبناء في بيت العنكبوت، حاجة مذهلة جداً، وهم متقدمون مثل تقدم هذه الحشرات، ولكنهم مثلها من الناحية الأخرى، لا توجد لديهم إنسانية».
ورغم أننا لسنا في معرض الدفاع عما انتجته كله الحضارة الغربية، وأيضاً ورغم ما تعانيه شعوب منطقتنا منذ تأسيس إسرائيل في المنطقة، كون قيام هذه الدولة ما كان ليتم لولا ارادة الغرب وموافقته، رغم هذا كله فإن الحديث لا يستوي ولا يستقيم إذا لم ننصف الغرب ونقول كلمة حق فيه، فهذا «الغرب» ليس مفهوماً واحداً، وهو مجموعة كيانات ودول متعددة ومختلفة حضارياً، ويمتد على رقعة جغرافية واسعة تبدأ من قلب أوروبا وصولاً الى أميركا الشمالية، وربما الى أوقيانيوسيا في شرق وجنوب المحيط الهادي.
من ناحية ثانية، فإن غالبية عظمى من شعوب هذا الغرب يدينون بالمسيحية، وهي ديانة سماوية مثل الديانة الإسلامية، ونقصد بذلك أن هذه الشعوب هم «أصحاب كتاب» مثلنا تماماً. لذلك وحينما ينعتهم ويشبههم زعيم عربي ومن على منبر علمي وإسلامي بالحيوانات والحشرات، فهذا لا يليق لا به ولا يليق بالأخلاق الإسلامية. ثم إذا كان الزعيم الليبي يقبل بهذا فعليه أن يقبل بالنعوت العنصرية ضد العرب والمسلمين التي يطلقها بين الحين والآخر بعض الحاخامات الإسرائيليين مثل الحاخام عوفاديا يوسف!
من ناحية أخرى، فإنه لا يمكن اختزال «الغرب» إلى مجرد شعوب وحضارات متقدمة من الناحية التقنية والعلمية والمادية، فهذا التقدم ما كان ليتم لو سياق وحاضن حضاري وثقافي متقدم في مختلف العلوم والآداب والفنون، نقصد وباختصار شديد، أن الطائرة أو الهاتف أو الكمبيوتر، وغيرها، أتت نتيجة وخلاصة، أو ربما متزامنة، لفتوحات في الفن والموسيقى والآداب والعلوم بمختلف أصنافها كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب والذرّة وغيرها الكثير.
إن هذا الغرب ليس حشرات على حد وصف «ملك ملوك أفريقيا»، بل هم أناس وشعوب متحضرة انتجوا أيضاً ثقافة حقوقية أنهت التمييز العنصري على أساس اللون والجنس والدين، وهناك الكثير من الذين ضحوا بحياتهم من أجل نصرة هذه المفاهيم، من بينهم الفتاة الأميركية راشيل كوري التي أتت من الولايات المتحدة الاميركية إلى الأراضي الفلسطينية لتتضامن مع الشعب الفلسطيني وقد لقت حتفها تحت جنازير دبابة إسرائيلية.
هذا الغرب أيضاً هو من أنجب كريستوف كولمبس، وبيتهوفن، وشكسبير وموزارت ودافنشي وإميل زولا وألبير كامو ولوركا وهمنغواي، وآلاف المبدعين في الأدب والموسيقى والطب ومختلف العلوم، وبفضلهم لم يصل العالم إلى ما وصل إليه اليوم من تقدم. إن هذا الغرب هو نفسه من أنتج الطائرة التي يتنقل فيها الزعماء العرب، وهو نفسه من أنتج اللقاحات ضد الأوبئة التي يتلقاها أبناء العرب والمسلمون، وهو نفسه من اخترع المطبعة التي نطبع فيها اليوم كتبنا ومنها «الكتاب الأخضر». إن العالم مدين للغرب تقريباً في كل شيء، هذه حقيقة وليست مبالغة.
ويستطرد الزعيم الليبي في كلمته، لنكتشف وراء ذلك كله أن هناك «عقدة سويسرية» بين كلماته، إذ يفرد مطولاً لانتقاد سويسرا، ويقول إن سويسرا «كيان مصطنع»، وتمثل «مافيا العالم»، منتقداً نتيجة التصويت الأخير على حظر بناء المزيد من مآذن المساجد هناك. وانتقد الأصوات التي أعربت عن تفهمها لموقف سويسرا، كما أنه قال في موقف لا يخلو من غرابة وابتعاد عن الإسلام وروحه: «نحن لا نتمنى أن تكون سويسرا مسلمة، حتى لا تدخل الجنة، ولا يرضى عنها الله… نحب أن تظل في وثنيتها إلى يوم القيامة وتدخل النار».
يتضح مما سبق أن موقف الزعيم الليبي من الغرب ومن سويسرا تحديداً، ينطلق من «موقف شخصي» كلنا بتنا على معرفة به، وهو مرتبط بالقضاء السويسري الذي اتخذ مواقف وأحكاماً أنصفت «خادمين» عربيين أساء معاملتهما هنيبعل ابن الزعيم الليبي على الأراضي السويسرية منذ أشهر عدة، وهو ما لا يقبل به القضاء هناك. ورغم أن «الثورة الليبية» اتخذت إجراءات «ثورية» عدة عاقبت خلالها سويسرا على موقفها العادل والإنساني والمنصف في هذه القضية، فإن غليل الزعيم وملك الملوك لم يشفَ وهو يريد المزيد، لذلك كان هذا الهجوم على الغرب وعلى سويسرا.
إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، وربما سأله كل عربي بينه وبين نفسه، وهو: هل يتخذ الحاكم العربي مثل هذا الموقف فيما لو تعرض أي من أبناء الشعب إلى ظلم ما أو إهانة في بلد غربي أو شرقي أو عربي ما، رغم أن القضاء السويسري لم يظلم ابن الزعيم الليبي بل أنصف مواطنين «عاديين»؟ ثم هل من الجائز أن نربط سياسة الدولة ومصالحها وسمعتها بقضية شخصية، يعني هل من الجائز على زعيم عربي أن يطلق مواقف وينتهج سياسات انطلاقاً من حادثة جرت لأحد أبنائه؟ أليس من العدل ومتطلبات الحكم أن يقوم الزعيم الليبي و«الثورة» بمحاكمة هنيبعل نفسه والتحقيق معه وبذلك يقدم العرب والمسلمون وصاحب «الكتاب الاخضر» أنموذجاً راقياً ومتحضراً عن العالم العربي والأخلاق الإسلامية؟
كاتب سوري
الراي