من حلم الوحدة إلى يوتوبيا الانفصال
حسام عيتاني
يريد اليمنيون الجنوبيون استعادة «استقلالهم». لقد اكتشفوا أن وحدتهم أو اتحادهم مع الشمال لا يختلف في شيء عن وقوعهم تحت نير «احتلال اجنبي». جهد مواطنو ما كان يُعرف باليمن الجنوبي طويلاً لانشاء اتحاد يضمهم وابناء الشمال، يتجاوزون فيه الانقسام الذي خلفه «الارث الاستعماري المقيت» ليغيروا رأيهم بعد تجربة مستمرة منذ نحو عقدين قرروا فيها أن العوامل المشتركة التي تجمعهم باليمنيين الشماليين قليلة.
في رواية الجنوبيين أن الوحدة عام 1990 أطاحت مؤسسات دولة عملوا على إنشائها بجهود مضنية ركزوا فيها على تزويد الإنسان بالعلوم والمعارف اللازمة، ضمن الإمكانات الضئيلة التي توافرت لهم. دفعت الوحدة الكوادر التي تكونت الى المنازل لتحل مكانهم عناصر كفاءتها الوحيدة هي الولاء للسلطة والانتماء إلى عشائر الشمال المتنفذة.
اذا استبدلت أسماء العلم والتواريخ، قد نحصل على نسخة طبق الأصل لشكوى السوريين من إدارة حكم وحدتهم مع مصر بين 1958 و1961. نجحت الحركة الانفصالية التي حطمت «الجمهورية العربية المتحدة» بانقلاب نفذته مجموعة صغيرة من الضباط والجنود السوريين، حظيت كما دلت الأحداث اللاحقة، بتأييد ضمني عارم ولكنها تعرضت لتنديد ظاهري شديد. ويمكن القول إن اليمنيين الجنوبيين والسوريين بحثوا في الوحدة عن حلول لمعضلاتهم الداخلية التي قادتهم الى حافة الحرب الأهلية وانهيار الدولة. ومشهورة هي الأحداث التي حملت الرئيس جمال عبدالناصر على الموافقة من دون حماسة على الوحدة مع سورية، كذلك معروفة الصراعات بين قادة الحزب الاشتراكي اليمني (والجهات والقبائل التي يمثلون) والتخلي السوفياتي عنهم.
جملة الخلافات الداخلية في الحالتين وخطر انفجارها حرباً أهلية ماحقة، هي الدافع الفعلي للوحدة التي صُوِّرت في لحظة احتدام الشقاق الأهلي وظهوره تكتلات جهوية وطائفية وقبلية وحزبية تتأهب لإعمال السلاح في رقاب بعضها البعض، حلماً وردياً يعيد اللحمة الى ما قسمه الاستعمار من دون إذن الشعب الواحد المتطلع ابداً الى لمّ الشمل. بيد أن الوحدة هي التي كشفت أن الحلم بالواحد المذكور لم يكن سوى وهم هو الى الكابوس أقرب. فكان أن انقلبت الحالة الانفصالية المذمومة التي قيل فيها كل ما في قاموس التحقير والتنجيس من كلمات، يوتوبيا يتعين بذل الأموال والأرواح في سبيل تحقيقها والعودة اليها. وجحيم الآخر (بتعبير سارتر) لم يكن في واقع الأمر سوى جهنم الذات ويقتضي الخروج منه عودة الى اصل الأصالة، أي الى الانقسام المحلي المنجي من مجاهل الوحدة ووحوش جنتها.
في وسع اللبنانيين تقديم خلاصات واستنتاجات عن علاقاتهم بالسوريين تشبه التي يقدمها هؤلاء عن فترة اتحادهم مع مصريي «الإقليم الجنوبي» لدولة الوحدة. وعلى رغم عدم وصول الدعوات الى «ضم الفرع الى الأصل» حدود البحث القانوني والاجرائي، غير أن اتساع الدور السوري في دقائق السياسة اللبنانية ونفوذه الى تفاصيل ودقائق الشأن اللبناني ويومياته حتى الأكثر عادية وابتذالاً من بينها (الى جانب فوائد بقاء لبنان مستقلاً في عين المصالح السورية العليا) أغنى عن طرح مشروع وحدة سياسية بين البلدين.
السودانيون والعراقيون يمتلكون تجاربهم الخاصة مع كيانات لا يعرفون كيف فرضت عليهم ويجهلون بالقدر ذاته كيف يتدبرون أمرها بقاء وحدة متصلة او تفكيكها الى دول ومناطق ذاتية الحكم. خاض السودانيون واحدة من ابشع الحروب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أودت بأكثر من مليون حياة. وعانى العراقيون من بطش حكم دموي رفع شعارات الوحدة العربية فيما كان يمعن تفتيتاً لبنى العراق الاجتماعية والأهلية، حتى اصبحت الفيديرالية حلماً ملطفاً يحل الكلام عنه مكان الحديث عن يوتوبيا الأقاليم المستقلة بسكانها عن الحكومة المركزية المتعثرة.
ما زال الحديث يدور هنا عن شعوب تجاورت وتساكنت على مدى عقود عدة في دول الاستقلال وعلى مدى قرون من العيش في إطار السلطنة العثمانية في الحالتين المصرية – السورية واللبنانية – السورية، وعن تفاعل وتداخل ثقافي واجتماعي عميقين في حالتي اليمن والعراق. بكلمات أخرى، إن الحالات أعلاه تمثل نماذج لما يفترض ان يكون «اخوة» خالصة بين جارين لم يكن يفصل بينهما ويعيق اتحادهما وعودتهما الى الحالة الفطرية والطبيعية سوى دسائس المستعمرين و «كيد الكائدين».
حالة اليمن الجنوبي اليوم تقول غير ذلك وشكوى قواه السياسية الأبرز لا تختلف كثيراً عن لائحة مطالب حركة تحرر وطني من زمن الاستعمار. ينطبق التشخيص ذاته على ما شهدته سورية بعد الانفصال حيث لم تنفع سلسلة من الانقلابات في الستينات في استئناف الوحدة. وليس في لبنان اليوم مــن يرغب في تجاهل «الأخطاء» التي وسمت ثلاثين عاماً من النفوذ السوري الواسع.
واستطلاع حجم التبادل التجاري، على سبيل المثال، بين دولتين عربيتين تتشاركان في حدود طويلـــة يشـــــي، من دون لبس، بأن مصالح كل منهما تكمن في مكان آخر. فـــدول المتروبول الاستعماري السابق تحتل الموقع الأول تقليدياً في المبــــادلات التجارية، مع وجود بارز للولايات المتحدة وتقدم للصين. هذا ناهيك عــــن تلـــك الدول التي لا حدود بينها لكنها لا تبخل بإظهار أبغض انواع العداء لبعضها ولو في سبيل مركز في نهائيات كرة القدم.
والكيانات المستقلة التي يأمل دعاتها بإقامتها بعد الانفصال عن الدول الحالية، قد لا تحمل أياً من مقومات الاستقلال بمعنييه الاقتصادي والسياسي. لا همّ طالما ان الكيانات تلك تنطوي، في نظر اصحابها، على يوتوبيات خلاصية تنهي مآسـي الوحدة المجربة وتفتح طرقاً جديدة صوب الحياة الافضل المزعومة.
يدعو الواقع هذا الى إعادة تقويم الخطاب الذي نشأت عليه احزاب وتيارات سياسية ودول وأنظمة، ودرجة الانفصال عن الحقائق التاريخية من جهة والانخراط في تاريخ بديل ومتخيل هو الى الخرافة اقرب، من الجهة الثانية. وهذا جميعاً حمل الى شعوبنا ما لا يحصى من الكوارث والحروب والأنظمة التي تتربع سعيدة على أشلاء من دماء وأحلام.
الحياة