عقد تفكيك العرب
فهمي هويدي
يتفاءلون في العالم الغربي بالعام الجديد، لكننا في العالم العربي لا نكاد نجد سبباً للتفاؤل نتعلق به، لأن المستقبل أمامنا يبدو معتماً ومحفوفاً بالمخاطر .
(1)
ثمة مراهنات في العواصم الغربية على إمكانية عبور مرحلة الخطر في الأزمة الاقتصادية . ويتوقع الرئيس باراك أوباما أن يكون العام الجديد “سنة الحسم والاستحقاق” في أفغانستان والعراق والشرق الأوسط . وسواء صدقت تلك التوقعات أم خابت، فالقدر الثابت أن الذين يطلقونها يراهنون على مؤشرات توفر لهم بصيصاً من الأمل يرونه في العام الجديد . والمشكلة عندنا في العالم العربي أن المؤشرات التي نراها بأعيننا تقلقنا على المستقبل بأكثر مما تطمئننا عليه، ومن ثم فإنها تشيع بيننا الإحباط واليأس بأكثر مما تجدد فينا الأمل أو تقوى من العزم .
لعلي لا أبالغ إذا ما قلت إن الأمة الإسلامية إذا كان انفرط عقدها في بدايات القرن العشرين، بإلغاء الخلافة وسقوط فكرة الجامعة الإسلامية، ومن ثم بروز فكرة الجامعة العربية والدعوة إلى القومية العربية، فإن القرن لم يكد ينتهي حتى تم تفكيك الرابطة العربية بدورها . وإذا بنا ندخل إلى القرن الواحد والعشرين وقد انحلت تلك الرابطة وانهارت فكرة الجامعة العربية وتبخر معها حلم الوحدة العربية . وفي العشرية الأولى من القرن الجديد وجدنا أنفسنا أسرى فكرة القطرية، التي رفعت شعار “أنا أولاً” في أغلب عواصم العرب، ووصلنا في التردي إلى درجة جعلتنا نحاول جاهدين الحفاظ على وحدة الأوطان ذاتها، التي صارت كياناتها في خطر كما سنرى بعد قليل .
ومن مفارقات الأقدار وسخرياتها أننا ونحن نمر بمرحلة ما بعد تحلل الجامعة العربية (أرجو أن تلاحظ أنني أقصد الرابطة العربية وليس المنظمة القائمة في مصر) نكرر مشاهد ما بعد سقوط الجامعة الإسلامية، رغم أن هناك خلافا في الشكل والتفاصيل بين الحالتين . ذلك أن صفحة الجامعة الإسلامية كانت قد طويت من الناحية السياسية حين ألغيت الخلافة الإسلامية التي كانت رمزاً لتلك الجامعة بقرار معلن من الحكومة التركية في عام 1924 أما في الوقت الراهن فلا تزال الجامعة العربية قائمة، لكنها تحولت من رابطة تجمع شعوب الأمة، إلى منظمة قائمة تحمل الاسم ومعطلة الوظيفة .
بعد إلغاء الخلافة أعلن الشريف حسين ملك الحجاز في العام ذاته نفسه خليفة للمسلمين، وأيدته في ذلك الأردن والعراق وفلسطين وسوريا، في حين عارضته مصر لأن القرار لم تستشر فيه الدول الإسلامية . ودخل الأزهر على الخط حين رشح الملك فؤاد للخلافة ودعا إلى مؤتمر حضره 30 مندوباً يمثلون الشعوب الإسلامية، ولكن المؤتمر لم يتوصل إلى اتفاق حول الموضوع، واقترح عقد مؤتمر موسع لهذا الغرض، لكن الاقتراح لم ينفذ ما أدى إلى موت الفكرة وإغلاق الملف .
هذه الخلفية تذكرنا بالاستقطاب الحاصل الآن في العالم العربي، منذ استقالت مصر عملياً من موقع القيادة في العالم العربي حين عقدت صلحها المنفرد مع “إسرائيل” في كامب ديفيد عام ،1979 الأمر الذي أدى إلى انفراط العقد العربي وتعطيل مؤسسة القمة العربية . وبمضي الوقت لم يعد العرب أمة واحدة . وإنما صاروا أمماً شتى . في المشرق أصبح لدينا متصالحون مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وممانعون ومحتلون في العراق وفلسطين .
وفي المغرب آثر بعضهم الانعزال كما في المغرب وتونس، والهروب إلى الإطار الإفريقي كما في ليبيا . وكانت النتيجة أننا حافظنا في الشكل على هيئة الأمة التي حاصرناها في مقر الجامعة بالقاهرة . ولم نسمح لها بالخروج إلى الشارع العربي . الذي مزقته القطرية حتى أصبح شوارع عدة . متقاطعة فيما بينها ومتعاركة أحيانا .
(2)
مع دخول القرن الواحد والعشرين سقط مصطلح “العمل المشترك” من قاموس الخطاب السياسي العربي . وتحولت كل صياغاته إلى أضغاث أحلام غير قابلة للتحقيق، من السوق العربية المشتركة إلى الدفاع المشترك .
أستثنى من ذلك ميداناً واحداً هو الأمن، الذي أصبح التعاون العربي فيه من ضرورات تأمين الأنظمة . بمعنى أن الدول العربية اضطرت إلى التنسيق فيه حيث لم يكن أمامها خيار آخر .
حين غاب المشترك فإن “الانكفاء” صار سيد الموقف وعنواناً رئيسياً لمرحلة ما بعد التفكيك التي كرست الظاهرة القطرية وأدت إلى إضعاف الجميع .
ومن ثم استصحبت الفواجع التي نشهدها الآن، جراء الاستفراد بكل قطر على حدة . وكانت النتيجة التي يراها كل ذي عينين الآن . أن الكلمة العليا في العالم العربي بل والأخيرة أيضاً أصبحت للولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” . صحيح أن موازين القوى الدولية تغيرت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، ما مكن الولايات المتحدة من الاستقواء وبسط هيمنتها على عالم الضعفاء بوجه أخص . لكن العامل الذي لا يقل أهمية عن ذلك أننا بدورنا تغيرنا، ومن ثم أتحنا فرصة التمكين لقوى الهيمنة والاستعلاء، المدهش أن ذلك حدث متزامناً مع تنامي القوة الاقتصادية للعالم العربي، الأمر الذي إذا لم يوفر لقياداته القدرة على الضغط لتحصيل الحقوق، فإنه يمكنها على الأقل من الثبات والصمود أمام رياح التفكيك والاقتلاع . وهو ما لم يتحقق على هذا الصعيد أو ذلك .
في ختام السنوات العشر الأولى من القرن الجديد برزت في خريطة العالم العربي المعالم الآتية:
– الغياب التام للمشروع العربي مع تنامي حضور المشروعين التركي والإيراني .
– تراجع أولوية القضية الفلسطينية التي سلم ملفها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أطلق يد “إسرائيل” في الاستيطان والتهويد والاستعلاء .
– التهوين من شأن الخطر “الإسرائيلي” والدفع باتجاه ترشيح إيران لتنصيبها عدوا للعرب وخطرا أول يهدده .
– استهجان مقاومة العدو “الإسرائيلي” واستمرار محاولات إضعافها والقضاء عليها، بالتنسيق الأمني مع “إسرائيل” حينا، والقمع والملاحقة الداخليين في أحيان أخرى كثيرة . وهذا الاستهجان وصل إلى حد اشتراك بعض الدول العربية في حصار المقاومين في غزة وتجويعهم .
اتساع نطاق الخصومات بين بعض الأنظمة العربية: فمصر أصبحت في خصومة مع سوريا ومع الجزائر مؤخراً . وعلاقاتها مع قطر يسودها توتر لم تهدأ وتيرته منذ بداية العام . والقطيعة مستمرة بين الجزائر والمغرب بسبب قضية الصحراء . والاشتباك قائم بين سوريا والعراق بعد اتهام دمشق بالضلوع في تفجيرات بغداد . والتوتر يسود العلاقات الكويتية العراقية بسبب قضية التعويضات . وثمة توتر مكتوم بين دولة الإمارات والسعودية بسبب الحدود .
الصومال شاعت فيه الفوضى وانهارت الدولة . وهناك أقطار عربية أخرى مهددة بالانفراط . فالحديث جاد عن استقلال جنوب السودان عن شماله والأكراد استقلوا عملياً عن العراق ولم يتبق غير الإشهار القانوني . واليمن في مأزق، بسبب الاضطرابات الداعية إلى الانفصال في الجنوب، وقتال الحوثيين المستمر منذ خمس سنوات في الشمال، حتى أصبح البعض يتحدث عن “صوملة” اليمن وانفراطه إلى عدة دويلات .
إرهاصات الفتنة تلوح بين الحين والآخر، بين الأقباط والمسلمين في مصر، وبين الشيعة والسنة في أكثر من قطر عربي، وبين العرب والبربر في الجزائر والمغرب .
(3)
منذ صار العالم العربي سفينة بلا ربان، فإنه ضل طريقه وراح يتخبط ذات اليمين وذات الشمال . ولا أعرف صلة ذلك كله بحكاية “الفوضى الخلاقة” التي تحدثت عنها كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة يوما ما، لكن الذي لا يساورني شك فيه أن دعاة تلك الفوضى لم يعودوا بحاجة لكي يبذلوا أي جهد لتحقيق مرادهم، لأن ما يفعله المسؤولون العرب بأنفسهم وبقضاياهم يغنيهم عن بذل ذلك الجهد ويستجيب لما تمنوا أن يشيعوه بيننا من شرور ومفاسد .
ما يثير الانتباه في هذا الصدد أنه بعد تمام التفكيك وفي ظل الاطمئنان إلى انهيار النظام العربي فإن قوى الهيمنة التي أسعدها ما حل بنا ما برحت تتلاعب بمصير الأمة وتتحايل على تكريس انفراطها وطمس هويتها . وكانت فكرة الشرق الأوسط الجديدة تارة والكبير تارة أخرى من تلك الصياغات المفخخة التي تضرب عصفورين بحجر واحد . فهي من ناحية تستبعد الهوية العربية والإسلامية للأمة، ومن ناحية أخرى، تفتح الباب لإقحام “إسرائيل” وتعزيز شرعيتها في المنطقة . (الشرق الأوسط “الجديد” فكرة “إسرائيلية” أطلقها شمعون بيريز و”الكبير” تطوير أمريكي لها دعت إليه إدارة الرئيس بوش بعد أحداث 11 سبتمبر)، بعد ذلك ظهرت فكرة الشراكة الأورومتوسطية لتشكل بابا آخر من أبواب الغواية، وأخيرا خرج علينا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في عام 2007 بمشروعه “الاتحاد من أجل المتوسط”، الذي ضم 43 دولة بينها تسع دول عربية .
في حين لا يملون من محاولات تكريس التفكيك والشرذمة، فإن الجهد العربي بدا متخبطا وهزيلا . فمؤتمرات حوار الأديان والحضارات التي رعتها السعودية استغلت سياسياً لغير صالحنا سواء حين حضرها “الإسرائيليون” واعتبرت باباً للتطبيع، وبعدما وجدنا تنامي الشعور المعادي للمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة الذي بدد أثر ذلك الجهد وأثبت فشله . وهو ما تجلى في حظر المآذن بسويسرا، ومنع الحجاب في فرنسا والترحيب بمثل هذه الإجراءات في بقية دول القارة .
لم يكن ذلك هو الفشل الوحيد الذي منينا به، لأن محاولات رأب التصدعات العربية لم تحقق ما كان مرجواً من نجاح . وهي التي قامت السعودية بدور محوري فيها . أقصد اجتماع المصالحة الرباعي الذي دعا إليه العاهل السعودي في الرياض . عقب إفشال مؤتمر القمة الذي دعت إليه قطر بسبب العدوان “الإسرائيلي” على غزة . وحضره الرئيسان المصري والسوري وأمير الكويت، ولم يدع إليه أمير قطر . وكذلك المصالحة السعودية السورية التي مررت الحكومة اللبنانية، والمصالحة السعودية الليبية التي أسفرت عن فض الاشتباك بين البلدين .
(4)
أختم بملاحظتين على كل ما ذكرت . الأولى أن كلامي كله منصب على الأنظمة بالدرجة الأولى، التي أثبتت الأحداث أنها على مسافات كبيرة من شعوبها، التي لايزال الأمل فيها قائما . فالتفاف الشعوب حول المقاومة لا شك فيه، وموقفها من حصار غزة يشهد لها باليقظة والوعي وحتى إذا كان وعي البعض قد تم تشويهه، فذلك راجع إلى فساد التعبئة الإعلامية التي تحترم سياسات العزلة والانكفاء .
الملاحظة الثانية ليست من عندي، ولكني أقتبسها من نص محاضرة ألقاها في لندن المثقف اللبناني البارز الدكتور غسان سلامة، أمام مؤتمر الشرق الأوسط دعت إليه صحيفة “هيرالد تريبيون” في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي . إذ ذكر أنه رغم أن النداءات لتوحد العرب أصبحت فارغة فراغا رهيبا، والكلام عن وحدتهم بات من التاريخ . مع ذلك فإننا حين ننظر بتمعن نجد تحت كل هذا الانقسام يختبئ قدر كبير من الاندماج الثقافي فالكتب الأكثر مبيعا في بيروت ألفها كتاب مغربيون والمغنون اللبنانيون معروفون في القاهرة والجزائر والعرب يشاهدون الشبكات التليفزيوية الفضائية ال500 نفسها ومعظمهم يحبذ رجال الدين أنفسهم، من ناحية أخرى، القاعدة هي ظاهرة إقليمية على غرار غالبية التكتيكات المناهضة لها . وأبدا لم تقسم السياسة العرب بقدر ما تقسمهم اليوم، لكن الثقافة العربية التي تحركها وتعممها الوسائل الإعلامية الجديدة لم تجمعهم من قبل بشكل عميق كما هي الحال اليوم، لذلك يمكننا ان نقول بأن السوق السياسية العربية منقسة تماما والسوق الاقتصادية مندمجة جزئياً، والسوق الثقافية والفكرية متكاملة إلى حد كبير يفوق السوق الثقافية الأوروبية حتى .
هذه خلاصة أوافق عليها الدكتور غسان سلامة . وقد وجدتها شهادة إدانة للنظام العربي، من حيث إنها تعنى أن الوفاق العربي تحقق في الفضاء بأكثر مما تحقق على الأرض . ولا فضل للأنظمة العربية في ذلك، لأن ذلك الوفاق حدث على صعيد بعيد عن سلطانها . والمؤكد أنها لو طالته لأفسدته!
الخليج