كيف البناء على حطام؟
حسام عيتاني
يلاقي القصور السياسي في تشكيل حكومة وحدة وطنية لبنانية، لامبالاة عامة بمصائر حوالى مئتين من الصحافيين والعاملين في مؤسسات صحافية مكتوبة ومرئية صرفوا من أعمالهم في أقل من أسبوعين، ليعلنوا القصور واللامبالاة عن تبلد وخمول يطاولان مجتمعاً ودولة.
لا ينفصل الحدثان أو قُل اللاحدثان (لعلة انعدام أي رد فعل عام وواسع عليهما)، عن مسارات في السياسة والثقافة و «الإعلام» تعمل على محو معالم الحياة والحركة من المشهد اللبناني. مبعث المسارات تلك موجود في إفلاس ثقافي يعضد نظيره السياسي ويعمقه.
لم تعد الرواية التقليدية عن تعايش اللبنانيين مع بعضهم بعضاً تقنع أحداً، أما صنّاعها ومروجوها في الفن والثقافة فاندثروا وصارت نتاجات ورثتهم تدور في أفلاك «القطط الاربع» ومرشدها الفني ومُلهمها. وباتت المسرحيات التي يصر الأبناء على توقيعها بأسماء الآباء، لا تقول شيئاً لمن لا تبهره الأزياء المبهرجة والزخرف السينوغرافي. تقول الحكمة البسيطة أن ضخامة الإدعاءات هي التي تكشف عادة خواء المضمون.
والصحيفة التي حملت أعباء مشروع الكيان اللبناني، ووسمها أصحابها وأصحابهم بمنارة الدفاع عن الحريات في لبنان، أتْبَعَت صرفها خمسين من كتابها وموظفيها بمقال لمدير تحريرها تضمن تشهيراً بالمصروفين من أعمالهم، ليبلغ التشهير كل من تضامن مع قضية رأى فيها مساساً بموقع الصحافة في الحياة اللبنانية العامة.
والمسألة لم تكن يوماً شماتة أو صيداً في الماء العكر، وهما أقصى ما يمكن للعقل الزجلي ابتكاره من تعبير وتشخيص، بل كانت المسألة وما زالت تكمن في كيف يصاغ الوعي العام في لبنان وكيف يُشكّل وما هي كفاءات الأشخاص الذين يتولون هذه المهمة. الى جانب تشديد ملحّ على الفارق بين الملكية الخاصة للصحف ومحطات التلفزة، ما يمنح مالكيها الحق في التصرف بممتلكاتهم على ما يبيح القانون لهم، وبين تقديم المؤسسات هذه خدمة عامة تعني مجمل الجمهور وما ينجم عن ذلك من بروز أسماء تساهم في صوغ موقف اجتماعي وسياسي مشترك و «وطني»، بغض النظر عن أعمار أصحاب الأسماء هؤلاء وعن مدى فهمهم لأخلاقيات العمل.
لا تقتصر المفارقات هذه على مجالي الصحافة والثقافة، بل هي وليدة تناقضات المجال السياسي والاجتماعي – الاقتصادي اللذين تتأسس الانتاجات والعلاقات الثقافية عليهما. ومن دون استسهال التسليم بالحتميات التاريخية منها وغير التاريخية، كان من الصعوبة الشديدة ألا تصطدم الخرافات التي بُني الكيان اللبناني عليها باستحقاقات قاسية قوامها تأثير الجوار وتبدل موازين القوى السياسية في الداخل، وقبل هذا وذاك، تغيّر العالم الذي سمح بقيام دولة لبنان الكبير، تغيراً بات يطرح على اللبنانيين كل بضعة أعوام سؤال المصير والوجود.
ولعل تمام الصورة يقضي بالقول إن الجانب المكمل رثاثة الثقافة والصحافة في لبنان يظهر أوضح ما يكون في استيلاء تشكيلات سياسية محورها شخص قائدها على مقاليد الحياة والموت عند جماعته (وعند عموم اللبنانيين، بالأحرى). جسامة هذه الآفة لا تصح الإحاطة بها سوى عند التأمل في مآلات الشرائح الأكثر حيوية وإنتاجية في المجتمع اللبناني وما انقلبت إليه من جمود منهك.
وإذا كان المسيحيون في لبنان هم من تولى المهمات الأكبر في بناء الرواية التاريخية اللبنانية وصنعوا الثقافة التي بررت الكيان ورسخت وجوده، فلا مفر من القول ان الطوائف الأخرى لا تفعل في صياغاتها الجزئية رواياتها اليوم سوى «تدوير» حطام واجترار افكار وسط سعي إلى استخدامها في بناء بلد جديد.
الحياة