حسين العوداتصفحات العالمما يحدث في لبنان

الحريري في دمشق.. من الصراع إلى الحفاوة

حسين العودات
بعد أن نضجت الظروف السياسية اللبنانية والسورية والعربية والدولية، طويت صفحة الخلاف السوري ـ اللبناني، وعلى التحديد الخلاف السوري مع الأكثرية البرلمانية اللبنانية، وبدأ البلدان يسيران معاً خطوات في طريق التفهم المتبادل والعقلانية والندية، واعتراف كل منهما باستقلال الآخر وسيادته، وإنهاء التوتر، بل والصراع الذي دام قرابة خمس سنوات، وتبادل فيه كل من الطرفين أبشع التهم الشخصية والسياسية، ومختلف أنواع التهديدات، بل وبذل كل منهما أقصى جهوده لإدانة الآخر وإضعافه، وربما لإسقاطه.
إن الأمر الملاحظ (والمثير للاهتمام) خلال زيارة سعد الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية لسوريا هو الحفاوة البالغة التي استقبله بها الرئيس السوري بشار الأسد، وكانت من الناحية البروتوكولية أقرب إلى استقبال رؤساء الدول، فلاقاه على مدخل الباب الخارجي للقصر الجمهوري، وأقام في القصر نفسه، وتبادل الرئيسان القبل، ثم أصر الرئيس السوري على عقد اجتماع ثنائي دام ثلاث ساعات وربع الساعة، فور وصول الحريري وقبل عقد اجتماع الوفدين. وأخيراً تناول الرئيسان عشاءً ثنائياً في أحد مطاعم دمشق القديمة، حيث قاد الرئيس الأسد بنفسه السيارة التي أقلتهما.
وبدا للمراقبين سياسيين وصحافيين أن صفحة الخلافات والتوتر بين البلدين بدأت تنطوي، وأنهما على أعتاب مرحلة جديدة من التفاهم والتعاون وربما أكثر من ذلك، وأن «حرب داحس والغبراء» بينهما التي دامت خمس سنوات إلا قليلاً، انتهت أو كادت.
ما هي الشروط الموضوعية التي نضجت، وأدت إلى أن يطوي الطرفان خلافات شديدة ومديدة خلال بضع ساعات؟ وقبل ذلك ما هي جذور الخلاف؟
كان رد الفعل اللبناني عنيفاً على اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، وقد خرج مئات الآلاف منهم في تشييعه، وهتفوا ضد سوريا واعتبروا أن الحكومة السورية مسؤولة عن الاغتيال، سواء بشكل مباشر أم بشكل غير مباشر، بسبب وجود جيشها في لبنان وممارستها ما سموه «الوصاية عليه» وطالبوا بمحاكمة المتهمين، بل رفعوا سقف مطالبهم فنادوا بخروج القوات السورية من لبنان و«إنهاء الوصاية»، وتبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين حيث لم يتبادلاه من قبل وترسيم الحدود بينهما، وإعادة النظر في الاتفاقات المعقودة بين سوريا ولبنان مفترضين أنها مجحفة بحق لبنان.
وتبلورت هذه المطالب في الاجتماع الجماهيري الذي زاد عدده عن المليون، والذي عقد بعد شهر في 14 مارس، ردا على اجتماع سبقه بأسبوع عقد في 8 آذار لأنصار سوريا.
ومنذ ذلك الوقت انقسمت الأحزاب والتيارات اللبنانية قسمة حادة إلى قسمين، أحدهما «قوى 14 آذار»، والأخرى «قوى 8 آذار»، ضمت الأولى الأحزاب والتيارات السنية والمسيحية والدرزية، بما فيها الحزب التقدمي بقيادة وليد جنبلاط، وضمت الثانية حزب الله وحركة أمل (حزبان شيعيان)، وانضمت إليهما فيما بعد كتلة الجنرال ميشيل عون وقد سُميت هذه الكتلة بالمعارضة.
وبقي التيار الأول يضم أكثرية نيابية ربحها بالانتخابات التي جرت منتصف عام 2005، والأخرى التي جرت منتصف العام الحالي. لكن هذه الأكثرية لم تساعد هذا التيار على تشكيل حكومة (بدون الشيعة)، بسبب رفض الحزبين الشيعيين المشاركة فيها، أو بانتخاب رئيس جمهورية، أو تفعيل المؤسسات التشريعية ومؤسسات الدولة، إلا إذا شاركت المعارضة في الحكومة وكان لها رأي في اختيار رئيس الجمهورية.
وتعطلت الحياة السياسية والاقتصادية اللبنانية، ثم عقد مؤتمر الدوحة وساهمت فيه قوى إقليمية ودولية فضلاً عن اللبنانية، وتم التفاهم إقليمياً ودولياً على انتخاب رئيس لبناني جديد وتشكيل حكومة وفاق وطني، وهذا ما حصل.
أمام الضغوط الأميركية والفرنسية (في عهد شيراك)، والعربية (وخاصة السعودية والمصرية) واللبنانية، ثم الحوار الذي بدأه ساركوزي، تحولت السياسة السورية إلى سياسة معتدلة في لبنان، فتبادلت التمثيل الدبلوماسي معه وعينت سفيراً لها هناك، وكانت قد سحبت قواتها من لبنان، ووافقت على تشكيل لجان لترسيم الحدود، وساهمت في تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، وأصبحت هذه المواقف السورية الإيجابية واضحة، ثم تدخلت السعودية، واتفق الرئيس الأسد والملك عبد الله على تسهيل تشكيل الحكومة وتفعيل المؤسسات اللبنانية.
خاصة وأن مجلس الأمن استكمل تشكيل المحكمة الدولية المكلفة بمحاكمة المتهمين باغتيال الحريري ورصدت لها الموازنة، وبدأت عملها منذ مطلع العام الحالي وهي في انتظار صدور القرار الظني من النائب العام. وهكذا لم يعد لمناوئي السياسة السورية في لبنان أي حجة لعدم إجراء المصالحة بين البلدين.
خاصة وأن سوريا هي الحدود البرية الوحيدة مع لبنان (إذا استثنينا إسرائيل)، وأنه يستحيل تجاهل العلاقات التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية بينهما، في الوقت الذي يتعذر فيه على حكومة الحريري أن تنجز أي شيء بدون «المعارضة» المتحالفة مع سوريا (والتي باتت شريكة في الحكم)، فضلاً عن أن وليد جنبلاط الحليف الرئيس للحريري، بدأ يتبع خطاً مختلفاً وعقد مصالحة مع حزب الله، فكان لا بد للحريري، لهذا كله، من التوجه إلى زيارة سوريا، حرصاً على نجاح حكومته وتحقيق مصالح بلاده، واستجابة للطلب السعودي.
من طرف آخر، وجد الجانب السوري نفسه بحاجة لمثل هذه «المصالحة»، خاصة وأن سوريا وافقت على مطالب مناوئيها في لبنان، وتعبت من الضغوط الأميركية والأوروبية والعربية، وينبغي عليها تنفيذ ما التزمت به سعودياً وعربياً، وأخيراً فإن لبنان يبقى خاصرة سوريا الرخوة تجاه إسرائيل التي لا بد من ضمانها، ولهذا رحب المسؤولون السوريون بالزيارة.
البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى