الحريري بين لبنانَين
هوشنك بروكا
في مؤتمره الصحفي المنعقد في السفارة اللبنانية بدمشق بعد ثلاث جولات من المباحثات(التي وُصفت بالشخصية والودية والبنّاءة والمثمرة) مع الرئيس السوري بشار الأسد، وصف رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري نفسه، أكثر من مرة، بأنه رئيس حكومة كل لبنان لكل اللبنانيين، وهو ما يعني بأنه يريد أن يُنظر إلى زيارته “التاريخية” لدمشق، بعد حوالي خمس سنوات من القطيعة الكاملة، بإعتباره “رئيساً كبيراً للبنان الحاضر الأكبر”(الحريري الرئيس)، لا بإعتباره “أبناً لرئيس لبنان الماضي”(الحريري الإبن).
وعلى الرغم من أنّ الزيارة وُصِفت ب”الشخصية” أولاً وآخراً، لكسر الجليد الكثير بين الحريري الإبن والأسد، الذي كان على مدى السنوات السابقة موضع شك لدى الكثير من اللبنانيين، ل”تورط” نظامه المحتمل(أو المفترض) في حادثة اغتيال رفيق الحريري في فبراير 2005، ولكن، والحق يُقال، يمكن قراءة هذه الزيارة الرمزية جداً، وتحليلها على أكثر من مستوى وصعيد، بأنها “زيارة عاقلة جداً”، انتصر فيها الحريري لعقله، كعقل رئيس لكل لبنان، ضد قلبه، بإعتباره بعضاً من قلب رئيسٍ للبنانٍ، سقط شهيداً ومضى.
أنها زيارة “العقل الراهن للبنان”، المتجاوز ل”قلب لبنان الماضي”، و”دمه القتيل الشهيد الماضي”، و”عواطفه الماضية”.
هي زيارة تاريخية عاقلة، ل”لبنان العاقل” إذن، لأجل تجاوز ما مضى من “لبنان الغضب”: لبنان الأرز الغاضب، والدم الغاضب، والشهداء الغاضبين، والحريري الغاضب، و14 آذار الغاضبة.
والحال، فإنّ العقل، بحسب الكثير من المراقبين والمحللين، كان عنوان الزيارة الراهنة للحريري إلى دمشق.
ولكن في الضفة الأخرى من العقل، حيث “دمشق الأسد”، ليس بخافٍ على أحد، بأن الزيارة على مستوى الكثير المسؤول هناك، لم تفسّر(سواء خفيةً أو علناً) على أنها “نصر للحقيقة السورية الخالدة”، وبالتالي تأكيداً ل”صحيح دمشق”، و”سياستها الصحيحة” في لبنان وحواليها، فحسب، وأنما جاءت أيضاً في كونها “زيارةً عاقلة” أولاً، ل”تصحيح العقل في لبنان”، و”زيارةً تاريخية” ثانياً، ل”تصحيح” التاريخ في لبنان، ومن ثم إعادته إلى صحيحه، سورياً(التاريخ السوري الصحيح)، بعدما خرج عنه الحريري وفريقه، طيلة السنوات الخمس الماضية.
في هذه الزيارة، التي تُرجمت عربياً ودولياً، بأنها من العقل إلى العقل، نسى أو تناسى الكثيرون، بأن لبناناً آخر لايزال يلتهب في لاهاي، كالجمر تحت رماد السياسة.
هؤلاء نسَوا، عقلئذٍ، بقصد أو بدونه، أنّ عقلاً آخر، لأجل “لبنان آخر”(لبنان الحقيقة التي أعلنها الحريري مع فريقه يوماً: الحقيقة لكل اللبنانيين، لبنان الحقيقة الحريرية “الغائبة”)، نسوا أن عقلاً موازياً لعقل هذه الزيارة(هو الآن، بحكم “القانون الأعلى”، عقلٌ فوق لبنان وسوريا على أية حال)، برئاسة دانيال بلمار، المحقق الدولي والمدعي العام في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، قال في افتتاح أعمال المحكمة الدولية الخاصة بالقضية، ب لاهاي(31.03.09)، بلهجة المحقق الواثق: “أن المحكمة ستلاحق الحقيقة أينما كانت”، وأنّ “لديه حس معين بالنسبة للتحقيق والجهة المسؤولة عن الاغتيال، غير أن من واجبه عدم الكشف عن ذلك. أما بالنسبة لحصانة رؤساء الدول، فلا وجود لذلك في النظام الداخلي، وعندما يصل مع طاقمه إلى هذا الأمر – إذا وصلوا – فستنظر المحكمة بذلك.”
الجدير ذكره، أن القضاء السوري كان قد أصدر، قبيل زيارة الحريري لدمشق، مذكرات استجواب بحق عدد من كبار المسؤولين اللبنانيين الحاليين والسابقين، إلى جانب عدد من القضاة والضباط والصحفيين والناشطين السياسيين، إضافة إلى القاضي الألماني ديتليف ميليس(المعروف بلقب صياد الإرهابيين) الرئيس الأسبق للجنة التحقيق الدولية، ومساعده الألماني غيرهارد ليمان، وذلك على خلفية اتهامهم بتقديم “شهادات زور” في قضية الحريري.
مذكّرات دمشق السياسية هذه، الملتحفة بعباءة “قضائية”، ترجمت على مستوى البعض اللبناني المسؤول، بأنها “مؤشر سيء لرسالة سيئة”، لأنها أرادت بذلك، “قتل” قضية الحريري الأب، بزيارة الحريري الإبن، والبرهان بالتالي للبنان والعالم، بأنها “قضية زور”، مصنوعة أو مفبركة من “شهادات زور”، لا حقيقة فيها.
لايُنكر أن الحريري ذهب إلى العقل، هذه المرة، في ذهابه كرئيس وزراء لكل لبنان إلى دمشق، بدلاً من الذهاب طيلة السنوات الخمس الماضية، إلى لبنان دمه، أو “حقيقة” دمه، التي طالما أعلنها، بأنها “حقيقة كل لبنان وكل اللبنانيين”، ولا يُنكر أيضاً بأنه أراد بهذه الزيارة الرمزية، الإنتصار ل”لبنان العقل الحاضر”، بدلاً من الإنجرار إلى ثارات “لبنان العقل الماضي”، ولكن يبقى السؤال بين لبنان الآن، ولبنان الدم الماضي، الذي لا يزال واقفاً؛ لبنان دم الحريري الذي كان، مطروحاً:
تُرى هل سيكسب الحريري، الرهان بين لبنانَين(لبنانٌ عاقل هناك في دمشق، يحاور الآن سوريا، ولبنانٌ هنا في لاهاي، ركب دمه واشتكى على سوريا)، بأن ينتصر لكل لبنان في عقل أبيه، أم أنه سينتصر لدم أبيه في بعض لبنان؟
هل الحريري، “داس” على دمه، كما يقول المثل، ليقوم عليه كل لبنان، أم أنه ارتكب سياسةً عاقلةً، للخروج من “ورطة” الدم بالعقل، خصوصاً بعد تسليمه “حقيقة” دم أبيه، لعقل محكمة لاهاي الأعلى، الذي لا حصانة في قانونه “العالي” لأحد، أياً كان هذا ال”أحد”؟
هل سيدير الحريري في دمشق، ظهره ل”لاهاي” مثلاً، حيث عقلها “العالي” هنا، لا يزال يبحث عن حقيقة لبنان المقتول في دم أبيه، أم أنه سيظل مشطوراً إلى نصفين: نصفٌ هناك في دمشق ينتصر للبنان السياسة، ونصفٌ آخر هنا في لاهاي يريد الإنتصار للبنان الدم الشهيد؟
هل حضور الحريري بإعتباره رئيساً يمثل كل لبنان، في قلب دمشق، يعني توقيعاً أكيداً على بياضٍ أكيد، ببراءة سوريا النظام من دم أبيه، كبراءة الذئب من دم يوسف، أم أنه زار دمشق زيارةً رمزية، كسياسي براجماتي، مراوغ، ليقول للبنانَيه: “لدمشق دين ول لاهاي دين”؟
هل قرأ الحريري في دمشق، الفاتحة الأخيرة على لبنان أبيه في لاهاي، لينتصر لذاته، في لبنان أكبر، كرئيسٍ أكبر، اختار العقل طريقاً للخروج على دمه، أم أننا سنردد مع القادم من لبنانه الصعب، الذي قد يجلب معه الكثير اللامتوقع الأصعب: “وللسياسة في خلقها شئون”؟
ايلاف