صفحات العالمقضية فلسطينميشيل كيلو

إمارة غزَّة أولاً

ميشيل كيلو
هل عبر ما وقع في غزة عام 2007 ضد “فتح” عن تبدل في سياسات حركة حماس تجاه القضية الفلسطينية والعدو ؟. اعتقد أن الإجابة يجب أن تكون بالنفي، فالحركة سعت منذ يومها الأول إلى تصدّر العمل الوطني الفلسطيني وانتزاع قيادته، وعملت بصمت لتهميش قوى المقاومة الأخرى، بما في ذلك الإسلامية منها، لاعتقادها أن أدوارها لن تكون مؤثرة في صراع ضار على فلسطين، سيطول دون أن يحل سلميا، وأن ما قد يتم بلوغه من حلول وتسويات سيكون عابرا ووقتيا، ما دام الصهاينة لن يتخلوا عن سياسات الاستيطان والتوسع والقضاء على شعب فلسطين، وبما أن هذا الشعب لن يتنازل، بالمقابل، عن حقه التاريخي في أرضه، ولن يقبل حلولا تعطيه جزءا صغيرا من أرضه الوطنية.
بهذا الاقتناع، كان من الضروري أن تظهر حماس بمظهر قوة تجمّع طاقات فلسطين ضد العدو من جهة، وأن تواصل التشكيك في شرعية وجود المنظمات الأخرى، بمقارنة نشاطها مع ما تحرزه هي من تقدم في ساحة القتال، وتحققه من إنجازات تنظيمية ونضالية تعزز الإيمان الشعبي بخطها، وتقنع الفلسطينيين بأنها القادر الوحيد على انتزاع حقوقهم من العدو، والمقاتل الذي لا يساوم عليها من جهة أخرى. وقد ساعدها على بلوغ هدفيها المرحليين هذين انسحاب العدو من قطاع غزة من دون شروط، وما عرفته ” فتح ” من فساد وترهل، وسيطر على عقلها من أوهام سلامية كاذبة، وتبنته من أساليب عمل أساءت إلى تاريخها كحركة تحرر وطني رائدة، وأوهمتها أنها صارت دولة، مع أنها لم تكن يوما غير سلطة منقوصة ومقيدة وتحت الاحتلال.
هكذا، تشددت حماس ضد العدو، في المرحلة الأولى من كفاحها، إلى أقصى حدود التشدد، وكسبت قطاعات وازنة من شعب مظلوم أوصلته ألاعيب التسوية السلمية وإخفاقاتها إلى حافة اليأس، وأشعرته أن تضحياته تضيع، وأن العائد الوطني من استشهاد وموت مئات آلاف الفلسطينيات والفلسطينيين كان صفريا أو قريبا من الصفر، وأن فساد وتراخي قياداته الفتحاوية يضيعان مكاسب وثمار تضحياته الهائلة، ويهددان بطي صفحة نضال ما بعد عام 1965، وبإضافتها إلى صفحات نضالية سابقة، انتهت بدورها إلى لا شيء.
تشدد ضد العدو وتراخ حيال الصديق، أعقبه في مرحلة تالية ومع تعاظم قوة الحركة، مواقف معاكسة تمثلت في تشدد حيال الصديق السابق، أخرجه بالقوة من قطاع غزة، وتراخ تجاه العدو لتفادي معركة كسر عظم معه، أملاه أساسا سببان:
– إدراك قادة الحركة أن قدرتهم على إيذاء إسرائيل،المنسحبة من القطاع، محدودة، وقدرة إسرائيل على إنزال الأذى بهم لا حدود لها. بعد تهديدات متكررة بسحق جيش العدو، عرفتها الحقبة الأولى، حقبة القتال الجدي ضد الاحتلال، آثرت حماس مواصلة لغة التهديد والوعيد، وفي الوقت نفسه، تجنب مواجهة مكلفة معه خلال غزو غزة نهاية عام 2008، كي لا تضعف نفسها وتقوض دورها. ذلك، جعل ممكنا مرابطة كتيبة دبابات إسرائيلية كاملة طيلة أيام خمسة في حديقة برشلونة وسط غزة، ومغادرة المكان دون أن تطلق عليها النار، مع أن الزعيم خالد مشعل كان قد هدد بجعل أطفال غزة يلعبون بأشلاء دبابات العدو وجنوده، وكرر تهديده مرات عديدة قبيل الغزو. واليوم أيضا، تريد حماس الحفاظ على قواها، الكافية للسيطرة على القطاع ولمنع ” فتح ” من العودة إليه، وغير الكافية لخوض معركة عالية الشدة مع إسرائيل، التي تعلق من جانبها آمالها على الانقسام الفلسطيني، ولا ترى نفعا من رفع يد حماس عن القطاع، بما أن سيطرتها عليه تلعب دورا مهما في تقويض الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتشق فلسطين إلى إمارتين متنافستين متصارعتين لا قيمة قتالية أو نضالية حقيقية لأي منهما، وتعطيها دورا كبيرا في تعزيز السلطة وتعضيد جهودها، الهادفة إلى منع حماس من السيطرة على الضفة الغربية، لأن هذه السيطرة توحد فلسطين من جديد، وتغير لمصلحتها تغييرا ملائما علاقات القوة بينها وبين الاحتلال.
– قطعت حماس شوطا واسعا في وضع يدها على قضية فلسطين، وهي اليوم بحاجة إلى تهدئة ظرفية تمكنها من تسليح نفسها بصورة مناسبة، تعوضها عن أدائها المخيب خلال الغزو، وتعزز تأثير إعلاناتها الكلامية المتشددة، المربحة بسبب إصرار السلطة على مواصلة مفاوضات عبثية لا عائد وطني لها، وفشل جهودها في الحد من توسع الاحتلال الاستيطاني أو إقناعه باستئناف التفاوض معها على أسس مقبولة، أو إيقاف ملاحقة وقتل حتى أنصارها في الضفة الغربية. التهدئة مطلوبة اليوم، لكنها قد تستمر لفترة غير قصيرة، فمن الضروري اتخاذ موقف متشدد لفظيا معتدل عمليا، يكسب الحركة الوقت، ويوطد قبضتها على القطاع ويحسّن مواقعها في الضفة، بانتظار المزيد من فساد فتح وإخفاقات سلطتها. هذه التهدئة تتطلب التفاوض مع فتح حول مصالحة وطنية، على أن لا تلغي بأي حال أو شكل تفردها بغزة، الذي يندرج في عمل يتجاوز فلسطين ويتصل بالحراك الإسلامي العام في المنطقة العربية وجوارها، وحقق منجزا فلسطينيا مهما هو تحرير غزة من إسرائيل وفتح، ووطد مكانة حماس كحركة مقاومة نزيهة لا تساوم، وأبرز برنامجها المقاوم كبرنامج مضاد لبرامج المستسلمين للعدو. ليس حراك حماس عابرا. إنه حراك طويل الأمد، وجزء من حراك عام، يتخطى غزة وفلسطين، لن ينجح إن هو تركز في مكان واحد، أو فشل في التنقل بين البلدان العربية والإسلامية، محرزا تقدما هنا بينما هو مجمد هناك، ومتوطدا في هذا البلد قبل نقله إلى ساحته التالية في مناطق أخرى، ضمن حركة دائبة لا تفتأ دوائرها تتسع، رافعة سوية التحدي الإسلامي للغرب وإسرائيل وبعض نظم المنطقة إلى درجة جديدة مع كل دورة. ومن يتابع ما يجري في اليمن والمغرب العربي وفلسطين والصومال والعراق وموريتانيا… يلمس وجود هذا الحراك المتشعب والمتعدد الأذرع، الذي ما أن يهدأ في بلد حتى يتحرك في آخر، علما بأن تجميده وتحريكه يستجيب لاستراتيجية واسعة تغطي الإقليم العربي وبلدان إسلامية كثيرة، وتركز على فلسطين لما لقضيتها من دور تعبوي مؤثر على علاقات شعوب المنطقة بنظمها وحكوماتها، ولأن فلسطين يجب أن تحظى بمعاملة خاصة، بصفتها الحلقة الحاسمة في الصراع مع أعداء الإسلام وخصومه، مهما كانت أسماؤهم.
في منظور هذا الصراع الواسع، ثمة مسألتان مهمتان:
– الصراع على فلسطين هو في الجوهر صراع إسلامي يتخطاها، من غير الجائز أن يكون قصير الأمد أو مرتبطا بقضية فلسطين وحدها، أو أن يتوقف نتيجة تسوية سلمية، مهما كان نوعها، فلا بد من خوضه بطريقة تطيله وتديمه من جهة، وتبرز طابعه الإسلامي من جهة أخرى.
– الصراع ديني، طرفاه الإسلام واليهودية، فلا يجوز السماح باستيلاء جهة غير إسلامية عليه، ولا يجوز لأحد البحث عن أية تسوية سلمية له، ما دام حله النهائي يرتبط بانتصار المشروع الإسلامي، الذي تعد القضية الفلسطينية رافعته الأكثر رمزية وخطورة، لكنها ليست بنده الوحيد، فعليها، إذن، الاتصال بباقي بنوده والخضوع لحسابات الربح والخسارة في مجاله الأوسع.
والخلاصة: ليست المصالحة الوطنية الفلسطينية أولية استراتيجية. إنها قضية تكتيكية الطابع، فإن تمت، فيجب أن تتم لفترة محدودة ولإغراض وأهداف تخدم المسائل الاستراتيجية. وليست الهدنة مع العدو دائمة. أنها تفرض نفسها الآن، لكنها لن تبقى غدا، حين يأتي الدور من جديد، في الحراك الإسلامي الواسع، على حماس. ومن غير الجائز بعد اليوم ربط الصراع على فلسطين بالصراع العربي/ الإسرائيلي، الأصح ربطه بالصراع بين الإسلام وعدوه الحقيقي: الغرب عامة وأميركا خاصة، وإن أخذ صورة صراع مباشر مع إسرائيل : فرعها الشرق أوسطي.
ليست إمارة غزة مكسبا عاديا: إنها قاعدة إسلامية محررة وحاضنة فلسطين الإسلامية، التي لا يحق للحركة التفريط فيها، وإلا خانت، هي والحركات الإسلامية الأخرى، دينها. ستتمسك حماس بالإمارة، ولن تتخلى عنها لأي كان، بمصالحة أم بغير مصالحة، لاعتقادها أن فلسطين استعادت في غزة بعض ثوبها الإسلامي الأصلي، وأنها ستعود، بفضل الحركة، إلى هويتها الإسلامية الكاملة والحقيقية، التي ستتكفل بتحريرها من البحر إلى ما وراء النهر، طال الزمن أو قصر!.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى